الــــرديــف
انطلقت سيارة الترحيلات مسرعة، مخلفة فى ذيلها غبارًا كثيفًا، حجب وراءه أسوار معسكر التأمين، الذى قضيت فيه فترة الخدمة العسكرية كمجند أمن مركزي, فى منطقة شمال سيناء. قضيت سنواتي الثلاث من مجند ثم عريف ثم شاويش ثم رديف.. حاولوا أن يقنعونى بأن أتطوع في الميري، لأصبح "درجة أولى" لكنني رفضت بشدة.. وسط هذا الدمار وهذه الدماء تتمنى أن تنهي خدمتك بأسرع ما يكون, لا يعنيك أن تكون شهادتك قدوة حسنة أو جيدة أو حتى مليئة بالجزاءات, كل ما تفكر فيه هو النجاة من الموت, النجاة ولا شئ غير النجاة.
فى هذا المكان الأمني الخطير، الذي يربط ما بين مصر وفلسطين عن طريق المعبر، وبين مصر وسيناء عن طريق البدو والقبائل السيناوية، وبين إسرائيل وكل شئ, في أبان الثورة, رأينا الموت بأعيننا, كنا نلحظه فى نظرات زملائنا الذين يناوبون بالليل، فلا ندري هل سيعودون فى الصباح.. وبين الأخرين الذين يناوبون بالنهار، ولا ندري هل يعودون عند غروب الشمس. أذكر أن أحدهم قد أتته غفوة فى مكان خدمته "المكنة", فتأخر ساعة أو يزيد عن موعد تغيير الخدمة، وكان يومًا عاصفًا, تخللته طلقات الجرينوف الآتية من الوديان القريبة, فلما تأخر خمَّنَّا أن ربما استشهد أو أصابته إحدى الطلقات فأرقدته فى مكانه.. أي والله, ملأنا شعور قوي باستشهاده، حتى أننا فقدنا الأمل كلية فى عودته, وأبلغنا الشاويش المناوب، الذى أبلغ قائد معسكر التأمين.. الذي لم يكترث كثيرا بالأمر, فكل يوم يأتيه خبر مجند أو يزيد.. كل ما يفعله أنه يبلغ السلطات، التي تتولى تكفين الجثة وإرسالها إلى القاهرة. فى الأخير أتى زميلنا، ونال ما نال من التوبيخ والتكدير.
أذكر أن أحدنا بالفعل قد استشهد، ولم يجرؤ أحدنا أن يبلغ أسرته بهذا الخبر الأليم. كان القائد يقول فى حزم وصلادة: المستشفى ستتولى الأمر برمته.
مع تصاعد حبات الغبار، الذى صنع غيمة كثيفة، تذكرت ما حدث قبل أسبوع من الآن.. كنا نحتفل بحفلة "الردايفة" , تلك التى تنظمها الدفعة التى تكون على وشك ترك الميري احتفالا بهذا الخبر السعيد، وترويحا عن باقي المجندين المستجدين. أذكر أن الشاويش قد ترك لنا مساحة كافية من الحرية لعمل ما يحلو لنا. صنعنا حلقة كبيرة تضم معظم مجندي المعسكر، عدا الذين كان وراءهم خدمة ليلية, انتظمت جولات الرقص والمرح, علا الغناء والتصفيق والتهليل, كانت الفرحة تكسو الوجوه وتغمر القلوب.. غير أن صوت ارتطام مرتفع أوقف صخبنا عنوة!
أسرع أحدهم إلينا ليقول لاهثا إن زميلينا فى البرج الذى يراقب شمال المعسكر قد وقعت عليهما قنبلة من الهاون فألقتهما صريعين. جرينا حيث مكان الواقعة، غير أن الشاويش زعق فينا ليأخد كل منا مكانه فى الحفر البرميلية المصنوعة لهذا الغرض, تلك التى كنا نرقد فيها في برد الشتاء، عندما يداهمنا القصف الليلي. أغلق أحدنا الأنوار، وهرع كل منا إلى مكانه.. نزلت الدموع من عيني غزيرة، ففي مثل هذه المواقف عندما يدنو الموت ويكون قد قاب قوسين، لا يملؤ عقلك إلا ذكرى الأحباب والأهل والأصحاب.. تذكرت أبي، الفلاح البسيط الذى انحنى ظهره من قسوة الزمن وقوة الفأس، وأمي التى ضاع نظرها منكبة على الماكينة السنجر التي ابتاعتها بالقسط, وأختي التى سيكون زفافها بعد أسبوع تقريبا على ابن عمي, تلك الخطبة التي استمرت لسبع سنوات أو يزيد.. ثم تذكرت مهجة, قرة العين وشغاف القلب, تلك التى كانت تودعني باكية عند الساقية المهجورة عند مدخل قريتنا..ثم يأتي في بالي هذين الشهيدين اللذين سقطا توا.
لما هدأ القصف، ذهبت مسرعا إلى مكان الحادث, فوجدتهما أشلاء ممزقة, إربا صغيرة متناثرة فى مربع من الأمتار.. لم نستدل لمن هذه الأشلاء أو تلك إلا من تلك القطعة المعدنية المنقوشة على آيشهما. كان أحدهما مقربا مني, نظرت إلى وجهه فبدا لمخيلتي مشرقا نضرا، رغم ضياع ملامحه..
كم سقط من زملاء العنبر والخدمة, استشهد الشجاع والخائف والمرتعب والقلق, حتى المجذوب استشهد, أي والله, وقعت عليه دانة من مدفع مكنة، كان يرتكز على سيارة دوبل كانت قد هاجمت كمينا فى أحد ضواحي البلد.
هدأ غبار السيارة, وهدأت معه أفكاري، فنظرت إلى زملائي، فوجدتهم مازالوا يغنون بعلو الصوت: " خلاص ياميري, ما بقتش على سريري, وسالمة ياسلامة رحنا وجينا بالسلامة", كان غناؤهم بطعم الحزن وبهجتهم بلون الدم.