الميت بتاعنا
اكرام الميت دفنه..
ترن فى أذنى تلك المقولة فتجعلنى ابتعد احتراقا عن جسد أبى الذى صار أمانه لا بد أن تودع فى حيز لا يتجاوز المترين فى متر, لماذا ابتعد, ولماذا الدفن اكرام؟!!
جاء الحانوتى, أوسعوا الطريق له كى يبدأ عمله..
لماذا لا استطيع أن أكفن جسده بيدى وأنثر عليه من ماء الورد وأقرأ عليه من الايات ما يجعله يشعر بالطمأنينة لتكون له نورا فى عالم الظلمة.
مغسلون ومكفنون ودفانون, تلك هى مهنتنا المركبة والتى أورثناها أبا عن جد, نتعامل مع الموتى أكثر من تعاملنا مع الأحياء, نتسامر مع الأرواح المغردة حول الأجساد الراقدة, لا يقطع عيشنا حاقد يبتغى عرض الدنيا الزائل, نحن ببساطة نسبر أغوار الحقيقة.
قال لى أبى يوما: يا بنى, الغسل سر, وما تراه فى تلك الغرفة لا يخرج خارجها قط.
الثواب العظيم الذى يأخذه من حمل على عاتقه عبء ومشقة الاعتناء بتلك الأمانة وتوصيلها فى موكبها المهيب الى مسواها الأخير جعل قلب يشتد وعزمى يقوى لكى أنال ذلك الأجر الكبير, فشاب مثلى نشأ فى بيئة مرهفة بعيدا عن عمل الأب جعلنى أشعر بالحرقة والخزى من التنصل من تلك المهنة التى جعلتنى أنام ساهد العين من توبيخ وسخرية زملاء الدراسة.
غريب هو, أمر الانسان, يدخل الدنيا كما يخرج منها, عاريا من كل شئ الا العمل, يجوب الدنيا طولا وعرضا, يصارع الامواج, يتشبث بالقشة التى ربما تكسر ظهره يوما ما, يفكر فى الخلود ويشيد ويعلى ريثما استطاع ولكن يجافيه التعالى.
أبى, سامحنى فلا استطيع أن أضع يداى القليلة على جسدك الطيب, فذنوبى أكبر من أن تحتمل مسئولية تغسيك وتكفينك, وكيف سأضعك بهما فى التراب؟!!
انخرطت فى بكائى الصامت فى جانب الغرفة المنزوى بينما انشغل الحانوتى ومعاونيه فى القيام بشغلهم الذى ينالون عليه أجرين وربما أكثر, أضع رأسى بين ذراعىى,أسترجع ذكرياتى معه, اقرأ وصاياه فى قلبى وأتمم عليها بجفونى الموصدة, رفعت عينيا مرة فوجدت ماء الورد يملء الكفن الأبيض ورائحة المسك تلفح المكان, فأقتربت اكثر لأرى وجهه يبتسم ابتسامة تمنيت أن أذوق طعمها يوما.