رائحة الشوام
ياعزيزى, كما أن للشواء رائحة فللشوام رائحة..
كانت تلك هى كلمات صديقى عندما كنا نجلس فى إنتظار أصنافنا من الطعام المطلوب فى إحدى مطاعم وسط البلد الشهيرة, استوقفتنى قلت له: وماذا تقصد؟
قال: إن تلك التى تحسرت عليها وحزنت لحالها هى أصل العروبة, الذى ذل على يد حاكم باطش, لولا عبث المقادير وتقلبات الدهر ما جاءت إلى هنا تتسول لقمة العيش, إنه لعار كبير أن نرى الأصول العريقة تشحذ, تمد يدها للئيم أو حقير.
ألا ترى معى أن الشوام كثروا فى بلدنا تقهقرا من ويل حياتهم فى بلادهم؟
لم يمهلنى الرد حتى قال:
ياعزيزى, هى ضريبة مدفوعة الأجر, ضحايا تسقط حفظا لماء تلك الثورة, أراض تتضحر بالدماء فداء للحياة الكريمة المنشودة, نساء تغتصب, زوجات تترمل, أطفال تقتل, حضارة تولول, حناجر تصرخ, وعالم أصم, لا يسمع إلا صدى صوت القوى.
لم استطع النطق وسط هذا السيل من الحقائق والمشاعر, لم يمهلنى لحظة للتفكير حتى أشار للفتاة الشقراء قائلا لها:
تعالى ياصغيرتى.
ترددت كثيرا, نظرت إلى الأرض بوداعة, تاركة ضفائرها الذهبية تلمع فى ضوء الشمس, كانت ترتدى حلة برتقالية مزركشة, يعلو جبينها مسحة من عز بائد, زواله لم يمنعه من التواجد على محياها.
جاءت نحونا بخطوات متكاسلة, وعيون مترقبة, كعيوان المها, بياضها بياض وسوادها سواد, أنف دقيق وشفاه دموية يعتريها بعض البهتان جراء سوء التغذية, كانت نحيلة, خفيفة, ربما ظننت أن رياحا عاتية ربما ترمى بها بعيدا.
قال لها: ما اسمك ياجميلتى؟
فقالت بصوت خفيض لا يكاد يسمع: غالية
فقال لها: ما أحلاك وما أغلاك!
ربت على كتفها وضفائرها المسترسلة, فأحست بالأمان فحكت لنا الحكاية كاملة..
أنا ياسيدى فتاة سورية, جئت من حلب الشام, مع أمى وأخى الرضيع, أقتحمت بيوتنا وهدمت, وجهت البنادق إلى صدورنا, دهستنا دباباتهم وعبث مرضاهم بأجسادنا, صرنا لقمة سائغة تلكوها أفواههم وبطونهم العفنة, قتل أبى برصاص الغدر أمام أعيننا المرتعدة, فررنا إلى مصر تاركين وراءنا أحبابا وأقاربا وشمسا شامية غابت فى بحور الدم ودفئا خدر ببرودة الرصاص.
قال لها متأثرا: وأين والدتك؟
فقالت بأسى: فى الخارج, منعتها عزة نفسها التسول.
فقال: وأنت, ألم يمنعك حياؤك التسول؟!
فقالت بثقة: ومن يطعم أخى الرضيع؟!
صراحتها المرة أحسستنى بدوى الصفعة على وجهى, فتاة فى عمر الزهور, تعطى لنا دروسا فى العزة والكرامة لتنتشلنا من هواننا وقيلة حيلتنا ورعونتنا, نحتسى القهوة أمام المدافئ فى صحبة فيلم السهرة أو كتاب أنيق فى حضور امرأة شهية وحساء ساخن وسكينة أسرية وهم يعذبون ويشردون ويرتعدون, تضمر بطونهم, تنحل أجسادهم, يضرب البرد عظامهم ويفكك الهم والغم أوصالهم,, هوانا ياعرب!!