( صورة الموت ولآخر المجهول )
قراءة فى ديوان(هى أعضاء ليست لك) للشاعر/ عبد الله راغب
كتب إبراهيم موسى النحـّاس :
عند حدوث التناقض بين مفردات الواقع المعاش الذى يتسم أحياناً بالمادية وضياع نسق بعض القيم والمثل العليا وبين الذات وطموحاتها للوصول إلى عالم أفضل يصبح الهروب إلى الذات كملاذ شيئاً أساسياً فى تكوين رؤية الشاعر لتعوض الذات ما افتقدته فى ذلك العالم المرفوض وهذا الملمح يتبدى لنا من أول قراءة لديوان (هى أعضاء ليست لك )للشاعر عبد الله راغب ذلك الديوان الذي ضم بين ضفتيه أربع وعشرين قصيدة تتفاوت بين الطول والقصر ويغلب عليها طابع القصيدة القصيرة جدا (القصيدة اللقطة)التى تكون أشبه ما تكون بلقطة كاميرا ترصد مشهداً واحداً من مشاهد الواقع وتعتمد على لغة غاية فى التكثيف والتركيز والرمزية.
ولعل الانكفاء على الذات يبدو من مطالعتنا لعنوان الديوان(هى أعضاء ليست لك) بما يوحى به ضمير المخاطب الذى يتساوى دلاليا مع ضمير المتكلم –أنا- مروراً بعناوين القصائد (أرحل بى إليك-ارتعاشة عاشق-أنا-خنجر يذبح نفسه......وغيرها)كما يتبدى واضحا فى معظم قصائد الديوان كما نرى فى قصيدة (جموح) ص 23 حيث يقول:
فالحلم عواصف نيئة
يأكلها النسيان
لن أحلم كالجرذان
سوف أعود الىّ
وأحكى لى
أن أرجع بين اللام
وبين النون
كجبان
لن أحلم كالجرذان
أو كما يقول فى قصيدة (أنا) ص 38:
لم أقتل سوى مرة واحدة
لم أولد سوى مرة واحدة
لم أعشق سوى امرأة واحدة
ليس لى سوى أخ واحد....أنا
طفل واحد هو ....أنا
هذا التوحد مع الذات يتبدى كدالة أساسية فى كل جوانب الديوان حتى بعد الموت كما فى قصيدة(خنجر يذبح نفسه) ص64:
حين مات
كفن نفسه واختار قبراً
تحت زنبقة
وظلّ ميتاً
واقترح فى آخر الموت
أن يموت.
هذا الانكفاء على الذات مرجعه إلى الإحساس بمرارة الواقع وقسوته والصراع بين ما هو كائن وما يجب أن يكون وهذا ربما ما يدفع الطائرفى قصيدة (مرثية) ليكون بهذة الدرجة من التشظى:
طائر قرر أن
يحمل نصف الريح على جناحيه ويدفع نصفه الآخر
برأسه
إلى أين؟
بعدما
تخلى السقوط عن قدميه
وبينما يرى في الديوان ( أن الهاوية لن تموت بينما الخطوة والعربة لا يبغيان) ألا إن دالة الموت مهما حاول الشاعر إخفاءها أو إظهار مدى صمود الذات أمامها تظل تسيطر على رؤية الشاعر فى هذا الديوان بدءاً من الأعضاء التى ليست له مروراً بإهداء الديوان نفسه_
الى الراحل محمد عبد المعطى), مرورا بعناوين القصائد فى الديوان(هاوية-غرق- مقتل صورة- خنجر يذبح نفسه – شمس تغرب فى طلعتها – مرثية – شفرة الصمت) كما يبدوإحساس الذات بالموت منذ البداية حيث شعور الذات بالهزيمةحتى من الفراشة الرقيقة:
بطل أسطورى
يخرج
من عينيه صقرا
بغير سلاح
تهزمه فراشة
دون أن تقصد قتالا
أو يقصد هو أن يهزم.
حتى أن لوحات ليوناردو دافنشى صارت( دموعا يشربها عندما يغمس كأسه فى سحابة) والغريب أن هذه السحابة لن تعبر وعدم عبورها هنا تعبير رمزى أيضا عن الهزيمة أو الموت. حتى اشتعاله القادم عندما فرح جدا حين مدت يديهاالصِباح فى جيب القلب هذا الاشتعال أدى الى نتيجةحددها الشاعر بقوله:
فاشتعالك القادم
سوف يقتلك
يقتلنى.
وتتعامل الذات مع الموت باعتباره أحد الأشياء الحتمية وجودياً فتعتاد عليه بلا خوف وتتوغل صورة الموت لدى الذات لدرجة موت القبر نفسه:
قتيلان
تقاتلا
على قبر
فى عين امرأة
لكن القبر قد مات
فدفن كل منهما نفسه
فى عين الآخر
بينما المرأة
تفتح قبرا آخر
لآت
يحمل بشارات
تبحث عن صاحبها.
ويقول أيضاً فى قصيدة (همجية) ص50:
وعقارب ساعتك
المدموغة بالوقت
ما زالت
تلدغ معصمك
المصلوب
على شفتيك
يستنشق رئتيك فلا يبقى
غير شهيق ميت.
هذا الإحساس بالعدمية يدفع الذات الى التعامل مع الآخر-الموت- بوسائل متعددة مهما تباينت هذه الوسائل لكنها تجتمع لتشكل صورة من صور مواجهة الذات لهذا الآخر الملموس المجهول فى نفس الوقت وأولى هذه الوسائل كان الاتجاه إلى الحلم:
لن يكفى
أن استسقى قافلتى
ببخار
فجيادى جامحة
تعشق ان تفتح أعشاشا
للنحل
وأعشاش يمام
يحلم بالتين
وبالزيتون
وخزائن كسرى
أعناب الشام.
ويأتى الهروب أيضاً كأحد وسائل الذات فى مواجهة الموت وكانت صورة الأب هنا من أكثر الدوال رمزية تعكس هروب الذات الى الماضي إلى الحياة التي جسدتها صورة الأب فى قصيدة (حلم كالحلم) ص 58:
كان أبى
أروع صائد للأحلام
وأروع راو للأحلم
وأروع ساق للحلم.
حتى وإن بدا الهروب همجيا أحيانا يصبح أحد طرق تعامل الذات مع الآخر:
يصبح رجلا حجريا
يستلقى فوق الظل
النازف من شفتين
يوحد ما بين النهر
الأشجار
النثر
الأشعار
ما زالت قدماك تخيط
الشارع بالشارع
دون رصيف
يحمى همجية قفزك صوب الشمس الغارقة
فى بعد
يهرب فى بعد أبدى.
واختلف مع الشاعر في أن الذات تتعامل بانهزامية- أحياناً- فى مواجهة الآخر دون أدنى مواجهة كما نرى فى قصيدة (مقتل صورة) ص 22:
يسألوننى عن هويتى
فأخرجت لهم
صورتى القديمة
وانتبهوا إلى
الرقم أربعين
فعرّوا صورتى
وألقوا بملابسها على
القارعة
وظلوا يجلدونها
وكنت أبكى بجانبها.
وهذه اللوحة التي توضح مدى معاناة الذات ومرارة واقعها تتغيرتماماً فى واحدة من أهم قصائد الديوان وهى قصيدة(هى أعضاء ليست لك) وتتبدى أهمية هذة القصيدة فى كونها لا تظهر الذات بصورة إيجابية تختلف عن الصورة السابقة فقط وإنما تكاد تكون محور رؤية مغايرة فى تعامل الذات مع الموت أو الآخر وتختلف عن بقية قصائد الديوان. ففى هذة القصيدة نجد خلاصة تجربة الشاعر الناضجة كما نجد الأنا الفاعلة حيث تشعر الذات بقيمتها وقوتها مع إصرارها على المواجهة الفعلية مع الآخر ولعل اختيار الشاعر عنوان هذه القصيدة كعنوان للديوان كله يعكس وعياً من الشاعر بأهميتها وأن الرؤيا التى تحملها هى ذاتها ما يتبناه الشاعر حيث تبعث الذات فى مواجهة الآخرحتى لو كان هذا الآخر هو الموت نفسه وكأن الذات تعيد اكتشاف نفسها مقارنة بالنصوص الأخرى فى ذلك الديوان لتفتح هذه القصيدة أبوابا من التأويلات تناقض التأويل السابق المرتبط بضعف الذات أو انهزاميتها أو محاولات هروبها فيقول فيها ص 42:
علمتك أعضاؤك
كيف تمسك عصاك
وهى لم تزل غصنا
فى شجرة أيامك
حتى
كى تستعيد أعضاءك
من بقاء طويل
كأعضاء ليست لك.
هذة الحركة (الديالكتية) بين رغبة الذات فى التغيير وقوتها, وبين قوة الآخر تصبح بفضل هذة القصيدة هي الفكرة المسيطرة على الشاعر فى هذا الديوان اعتماداً على آليات السرد واللغة الرمزية غاية فى التكثيف والمشهدية المعتمدة على قصيدة اللقطة وكأن الشاعر يريد تفكيك العالم إلى تفاصيل دقيقة يخلق منها عالمه الخاص . وإذا أضفنا إلى كل ذلك استفادة الشاعر من أنواع أدبية أخرى كالسرد وبعض آليات القصة القصيرة يتضح لنا المجهود الكبير الذى بذله الشاعر فى كتابة هذا الديوان ويبقى الحديث عن الصورة الذهنية التى تحتاج لدراسة مستقلة بما تطرحه من إشكاليات حول توظيفها الجيد وحول سحبها للجملة الشعرية الى هوة الغموض أحياناً .