من بلاغة القرآن الكريم( 1)
في العام 1994 أنهيت دراستي الثانوية, و التحقت بالجامعة, بكلية التربية, قسم الطبيعة و الكيمياء ..و كانت أول مرة أدخل فيها أحد قصور الثقافة ...و كان قصر ثقافة مصطفي كامل, في منطقة شوتس بالإسكندرية, هو أول مكان تعرفت فيه علي الشعراء و النقاد و الكتاب و الأدباء, من جميع الاتجاهات الفنية و العقائدية – أعني العقيدة السياسية و الفكرية – و أذكر أن أستاذي "محمود عبد الصمد زكريا" قال لي ذات يوم :" إذا أردت أن تتقن النحو فاسمع القرآن كثيرا " ثم بعدها بوقت قليل, و لا أتذكر متي علي وجه الدقة قال لي الأستاذ الشاعر المهندس" محمود ضيف الفحام" – و هو ابن عم والدتي أي أنه أحد أخوالي.. و أفتخر بذلك – :"يعاب علي الشاعر الخطأ النحوي و اللغو ي, أكثر مما يعاب عليه الخطأ العروضي ".
أضف إلي ذلك تعليقات الدكتور فوزي خضر, و الأستاذ العلامة محجوب موسي ,و تعليقات أصدقائي الشعراء و كتاب القصة -و هم في مثل سنّي و اندفاعي- و لا أنسي تعليقات أبي و أمي و أخوتي – و إن كانت قليلة – و أصدقائي من غير الشعراء و الأدباء – فقد كنا نلتقي في شقة صديق لي ,و كنا نسمي هذه الشقة" قصر الثقافة" و شهدنا فيها أحلي أيام العمر الماضي – و تجمعت عندي, في وقت وجيز, سلّة من الملاحظات اللغوية و النقدية و البلاغية ,أدت بي إلي شئ أنا عليه للآن ,ألا و هو قناعتي التامة بأن من أراد أن يتقن اللغة العربية ,و علومها, إتقانا تاما, و أن تتكون لديه ملكة الإحساس باللغة, فعليه سماع القرآن و تلاوته ,حتي و إن لم يكن مسلما !
و لذا ففي هذه المقالة و بعد هذه المقدمة الطويلة ,أحب أن أتكلم عن نماذج من بلاغة القرآن, حتي نتعلم من أعلي نموذج بلاغي في التاريخ – و الذي أضعناه من أيادينا للأسف الشديد -!
وكما يقول إخوان الصفا – و هم فلاسفة أفذاذ – حدّ الفلسفة – أي قمة الحكمة – هو أن تتشبه بالذات الإلهية حسب الطاقة البشرية ..فقمة الشعر و البلاغة ,هو أن تتشبه ببلاغة الفرآن, و دقته اللغوية ,و لكن في حدود طاقتنا البشرية المتواضعة مهما بلغت .. و كما قال الإمام الشعراوي – رحمه الله – قف أيها العقل عند منتهاك
لقد جاءت الآن بعقلي فكرة ...ألا و هي أن أقسم دراسة الموضوع كالآتي :
1- موضوعات و نماذج من علم البديع في القرآن الكريم
2- موضوعات و نماذج من علم البيان في القرآن الكريم
و سأبدأ بإذن الله بموضوعات علم البديع , و منها الطباق و الجناس و الإلتفات و غير ذلك من موضوعات تكسب الكلام حلاوة و كما يقول السكاكي في كتاب مفتاح العلوم واصفا البديع : وجوه يصار إليها لتحسين الكلام و منها قسمان : لفظية و معنوية و من المعنوية المطابقة و المشاكلة و من اللفظية الجناس و السجع و رد الأعجاز علي الصدر و غيرها من موضوعات عدة .
و قد رأيت من الصواب – فيما أظن – أن أبدأ بقصار السور و التي يحفظها أغلبنا بالطبع
من سورة الزلزلة يقول الله تعالى : " إذا زلزلت الأرض زلزالها (1)و أخرجت الأرض أثقالها (2) و قال الإنسان ما لها (3) يومئذ تحدث أخبارها (4) بأن ربك أوحى لها (5) يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم (6) فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) و من يعمل مثقال ذرة شرا يره ( 8 ) صدق الله العظيم .
نجد في هذه السورة الكريمة من البديع ما يلي :
1- جناس الإشتقاق ..في لفظتي " زلزلت " و " زلزالها " و ليس الجناس هنا لمجرد الحلية اللفظية و الجرس الموسيقي أو توافق الفواصل و نهايات الآيات ..فقد يقول قائل : يكفي أن تقول : إذا زلزلت الأرض.. فهو زلزال و كفي به خرابا و تدميرا !
و أقول له : يا سيدي الفاضل أنت هنا قد أخطأت .. فإن هذا اللفظ وضع في هذا المكان و بعد لفظة "الأرض " و فائدته أن الزلزال سيعم كل الأرض و لا يترك من كل الأرض شيئا ..فهو زلزال الأرض كلها و ليس جزء منها مثل زلازلنا المعهودة ...فقد أفادت كلمة " زلزالها " الدمار الشامل و الكامل و الهائل.
2- المقابلة ..بين آخر آيتين في السورة و هو يفيد تمام العدل و الرحمة من الله.. فلا يستوي صاحب الحسنة و صاحب السيئة قط , و حاشا لله, أن يظلم مثقال ذرة أو أقل و هو الرحمن الرحيم .
ثم لاحظ قول الله "خيرا" و" شرا" بينهما تضاد – و في نفس الوقت هما جزء من المقابلة بين الآيتين –
والكلمتان جاءتا نكرة و مفردا, ليشملا كل أنواع الخير و الشر, مهما قل حتي مثقال الذرة أو أصغر منها.
هل رأيت كيف أن المقابلة و التضاد, قد أتيا كل في مكانه ,و وقته السليم, و لم يأتيا كما قد نفعل نحن لمجرد الزينة اللفظية, فيستطيع القارئ و الناقد أن يعيب عليك القول ,و يقول لك هذا كلمة متكلفة و لا داعي لها!.
3- السجع المرصّع و يقول صاحب تفسير " صفوة التفاسير " : السجع المرصّع كأنه الذهب السبيك أو الدر و الياقوت مثل ( زلزالها ..أثقالها ...أوحى لها ... أخبارها...ما لها )و هو من المحسنات البديعية و أقول : ليس هذا الأمر فحسب بل إن هذا الضمير " ها" و هو عائد علي الأرض يخبرنا أن أحداث هذا اليوم الرهيب قريبة منا, و غير بعيدة, فهي مرتبطة بأرضنا هذه و ليس غيرها ..فأين تهربون ؟؟
و أقول كما قال الدكتور محمد زكي العشماوي في كتابه ( قضايا النقد الأدبي ) حين تحدث عن نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني : قد أغفل عبد القاهر – رغم روعة نظريته و حداثتها – أمر الإعجاز الصوتي في القرآن ..فإن للقرآن موسيقاه التي تطرب لها النفس و ترتاح, و من ثم تحفظه بسهولة و يسر, و بالطبع من وسائل تحقيق الإتزان الموسيقى و الروعة غير المحدودة, هو المحسنات البديعية من جناس و طباق و سجع و غير ذلك ...و أكرر قولي أنها ليست لمجرد الزينة بل لفائدة كمال و جمال المعني و دقته ..كيف لا و القرآن كلام الله .. فاسمع أخي و تعلم أعزنا الله و إياكم و أمدنا و إياكم بروح منه..
مثال ثاني من سورة "الإخلاص " :
نجد فيها الجناس الناقص بين قوله تعالى : ( لم يلد ..و لم يولد ) فهو جناس ناقص بسبب تغير الشكل و بعض الحروف و فيهما من الدلالة أن أولاهما تنفي أن يكون لله أبناء
و سبحان الله كيف يلد الله أو يكون له صاحبة – زوجة – و هو رب العالمين !
و الثانية تنفي عن الله أن يكون من نسل أحد سبقه ..فلكل مولود والد و معني أن يكون الله – معاذ الله – قد جاء من نسل من سبقه ,أنك تنفي كل صفات الكمال عن الله, فإن المولود يكون ضعيفا ثم يقوي, و يكون صغيرا و معتمدا على غيره, ثم يتعلم و يتدرب أن يعتمد علي نفسه ,و يخطئ و يصيب ,و هذا محال في حق الله , و هذا محض كفر و افتراء, فهو الأول و الآخر و هو القدوس المنزه عن كل نقص و عيب ..
انظر كيف ولّدت هاتين الكلمتين الصغيرتين و هذا الجناس كل هذه المعاني و الدلالات..فهل جاءت المحسنات البديعية لمجرد الزينة و الجرس الموسيقي ؟؟؟
و يوجد في السورة أيضا السجع المرصع ( قل هو الله أحد..الله الصمد ) .
و تتوافق الفواصل أو نهايات الآيات في الكثير من سور الذكر الحكيم ففي سورة " الهمزة " نجد السجع و فيه القوة و المعني العميق و ليس مجرد سجع و توافق و كفي ..نجد هذه الألفاظ في نهايات الآيات : ( عدّده ..أخلده ..الموقده ..ممدّده )
و من جناس الاشتقاق أيضا في القرآن – و هذا سيكون مثالنا الأخير – لأن الأمر قد يطول – قول الله تعالى : ( أنبتكم من الأرض نباتا ) مصدر الفعل "أنبت" هو "إنبات" و ليس "نبات" فلماذا جاءت علي هذا النحو في الآية .. مخالفة للقاعدة ؟؟ إن في هذه الكلمة و بهذا اللفظ و ليس غيره – أعني نباتا – دلالة و معني و موسيقى ليست في غيره – أعني إنباتا – و هذا أمر أتركه للقارئ العزيز يبحث فيه و لنتناقش بإذن الله حول هذا الأمر وغيره مما يخص كتابنا الأسمي – القرآن – " و كلمة الله هي العليا "
سؤال أخير .. ما فائدة هذه المقالة ؟ و ما علاقتها بما نحن فيه من شعر و قصة و غير ذلك ؟
إنها- المقالة - و إنني فقط نشير إلى ما ينبغي أن يكون عليه الأدب من كمال و تماسك و تعاون بين كل لفظ و لفظ و صورة و صورة ..حتي يكتمل البناء دونما شذوذ أو تناقض بين مكوناته .
و قول إخوان الصفا يرشدنا إلي أن نتشبه بصفات الله و أفعاله و أقواله بحسب الطاقة البشرية .
و لله المثل الأعلى ..ليس كمثله شئ و هو السميع البصير
و الحمد لله رب العالمين
عاطف عبد العزيز الحناوي ..الاسكندرية في ثالث أيام عيد الأضحي 1432
8 نوفمبر 2011