من بلاغة الإقناع في الحوار القرآني
.أيمن أبومصطفى.
رب أسألك التوفيق والسداد
هذه محاولة مني لفهم النص القرآني في رحاب البلاغة واللغة ، فلولا القرآن ما كانت البلاغة . وأدعو الله تعالى أن يجعل التوفيق حليفا لي ، وأن يهديني إلى استخراج الدرر القرآنية التي لا تنكشف إلا لعباده الصالحين ، وحسبي أني حاولت واجتهدت لأحظى بشرف البحث حول دلائل القرآن الكريم وآياته .
وألتمس من القاريء الحبيب أن يرفق بي ، فما أنا إلا كبحار ركب بحرا متلاطم الأمواج بسفينة ضعيفة واهيه ، فإن أحسنت فتكفيني دعوتك بظهر الغيب ، وإلا فحسبي استغفاري واستغفارك والله غفور رحيم .
منذ فترة وجيزة شغلني إعجاز القرآن وملك عليَّ وقتي حتى تفرغت للتأمل ، رغم كثرة المشاغل والأعباء ،ورأيت أن إعجاز القرآن شيء لا يمكن الوصول إلى سره ؛ لأننا لو استطعنا أن نقف على وجوه الإعجاز جميعها لسقط الإعجاز عن القرآن ، ولكن كل منا يدلو بدلوه محاولا الوقوف على بعض أسرار القرآن الكثيرة . وقد بينت ذلك في مقالة بعنوان " من مكان إلى مكان".
وبحكم تخصصي في البلاغة رأيت أن أبين للناس أثر البلاغة في فهم النص القرآني ، وينبغي أن أنوه إلى أهمية أن يتخلى الناس عن الفهم الخاطيء للبلاغة ؛ فبعض الناس يرى أن البلاغة ما هي إلا وسيلة للتحسين والتزيين ،وهذا يتنافى مع الفهم الصحيح الذي يذهب إلى أن البلاغة تتداخل مع المعنى كتداخل الماء في النبات ، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا ويؤدي إلى هلاك الكل.
ومما جعلني أرى ضرورة ذلك أن القرآن الكريم به درر بلاغية دعوية يجب أن يلتفت إليها الدعاة والبلاغيون واللغويون بل وجميع المسلمين ، فالاستفهام القرآني جدير بالبحث والتأمل ، وأنا على يقين من أنه درس أكثر من مرة ، ولكني أرى ضرورة دراسته دراسة بلاغية تبين ما فيه من قدرة إقناعية . وربما تناولت ذلك في مستقبل حياتي بإذن الله تعالى.
وكان هدفي أن أوضح لإخواني من الأئمة والدعاة أهمية الوقوف على الملامح البلاغية ، ومعرفة وسائل الإقناع البلاغية ، في توصيل المعلومة إلى السامع.خاصة وقد لمست منهم رغبة وحرصا على إقناع الجماهير المسلمة التي تجلس بين أيديهم .
واتخذت بعض النصوص القرآنية نموذجا للشرح والتوضيح ، وأدعو الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، وأن يتقبله مني ، ويجعله في ميزان حسناتي ، وأن يغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين ، وأن يبارك لي فيمن شد من أزري وقال لي كلمة دفعتني إلى المضي قدما في البحث والتأمل .وأن يحقق لي آمالى وطموحاتي ، إن الله سميع مجيب الدعاء.
تقديم لا بد منه:
يقوم القرآن بعرض صورتين متناقضتين : صورة نعيم أهل الجنة ، وصورة عذاب أهل النار، وكذلك الكون يقوم على الاختلاف والتباين " إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ"وكأنه تعالى يريد من العباد أن يتأملوا العواقب ، فيتذكر أولو الألباب .
والله تعالى يبدأ أغلب الآيات بعرض جزاء الكافرين ،للتهويل والترهيب ، ثم يعرض عاقبة المتقين للطمأنة والترغيب ، يقول تعالى" لاَ يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ"ويقول:" وَلِلّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَىَ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزّلَ اللّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ وَقَالُواْ لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنّا فِيَ أَصْحَابِ السّعِيرِ فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأصْحَابِ السّعِير " ويقول بعدها " إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ " ويقول في سورة النبأ"ِإِنّ جَهَنّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لّلطّاغِينَ مَآبالاّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً لاّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاّ حَمِيماً وَغَسّاقاً جَزَآءً وِفَاقاً إِنّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذّاباً وَكُلّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباًفَذُوقُواْ فَلَن نّزِيدَكُمْ إِلاّ عَذاباً"ثم يقول بعدها: "إِنّ لِلْمُتّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَابا وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباوَكَأْساً دِهَاقاً".
وفال تعالى:" وَسِيقَ الّذِينَ كَـفَرُوَاْ إِلَىَ جَهَنّمَ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَا قَالُواْ بَلَىَ وَلَـَكِنْ حَقّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَـبّرِينَ"ويقول بعدذلك:" {وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَـالُواْ الْحَـمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"
وهكذا في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، وهي ظاهرة يجب ألا تمر علينا دون ترو ، أو تفهم لدلالاتها ، فيجب أن يتعلم منها كل من حمل على عنقه عبء الدعوة إلى الله ، فعلى الخطيب أن يجمع في خطبته بين الترهيب والترغيب ، يذكر عاقبة الفريقين ، ويبين بالأدلة والبراهين صحة ما يدعو إليه ،ثم يترك السامع لنفسه ، حتى لا يمل من النصح ، فكم من أناس لديهم استعداد لتقبل منهج الله والسير على الدرب القويم ولكنهم لا يجدون من يأخذ بأيديهم إلى الشاطيء بعيداً عن الرياح والأعاصير ، وإن وجدوا يجدوا رجلا يملي عليهم الأوامر وكأنها فرمانات استبدادية أرسلها حاكم طاغية ، وهذا لعمري فساد كبير.
يجب أن يشعر الإنسان بإنسانيته ، وأن يعلم أن هذا الدين يحترم العقول ، ولو أننا تدبرنا القرآن جيداً لوجدناه يقول " وقل الحق من ربكم" أي عليك التبليغ ، وأما الهداية فمن الله " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" بلغ الناس وقل لهم : هذا هو الدين ، وتلك هي شرائعه . ودعهم لعقولهم ، قال تعالى :" فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا" .
ونجد المولى تبارك وتعالى يقول " إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" " وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون" " إن في ذلك لآيات لأولي النهى" " إن في ذلك لآيات لألي الألباب" فالقرآن يخاطب العقول . فهل يعي الدعاة ذلك ؟ هل يمكن أن يضع في ذهنه وهو يعد الخطبة أنه يخاطب العقول ، التي ميز الله بها الإنسان على سائر المخلوقات؟ هل يحترم المتكلم عقل السامع فيعد له ما يناسبه ويدفعه للأمام ؟ هذا ما أرجوه . والله المستعان.
قال تعالى " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.". وهل هناك حكمة أعظم أو أحسن من أن تيبين للناس العواقب والنتائج ، ثم تتركهم لعقولهم . قال تعالى " إن هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا"
وفيما يلي أقدم لك تأملاتي في النص القرآني ، محاولا بيان ما قدمته لك في السطور السابقة:
النموذج الأول
من سورة ( يس )
[وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)]
جاء هذا الرجل – ولا تشغلنا معرفة اسمه ،لأن العبرة بعموم المعنى لا بخصوص اللفظ – الذي حمل عبء الدعوة والتبليغ ، جاء وهو يسرع الخطى حرصا منه على نجاة قومه من النار والهلاك.وحرصا على نصرة دين الله ، وهكذا يجب أن يكون حال جميع المؤمنين ، إن أرادوا النجاة ، ونلاحظ أن الله تعالى استخدم كلمة رجل ( وهي نكرة ) للدلالة على عموم اللفظ ، وتلميحا إلى أن هذا الرجل لم يكن معروفا بين الناس بالوجاهة والسلطان ، والدليل أنهم قتلوه لما صاح بالحق ، وقال : ربي الله . وكلمة رجل لا تعني الذكورة ، بل تعني عدة صفات من أهمها الغيرة على محارم الله ، والدفاع عن دينه ونبيه وكتابه بالنفس والأهل والمال ، فكم من ذكور أشبه بالنساء ، عاشوا للدنياء وماتوا كأنهم لم يعيشوا ، وهذا شيء عجاب ، كانوا في الماضي يعيبون الرجل إن لم يكن له هدف يسعى إليه غير المال والبنون ، ويعدون ذلك جرما وذنبا عظيما ، ألم يدخل الحطيئة السجن لأنه قال لأحد الناس :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي.
ولو أن كلمة (رجل ) تطلق على كل ذكر ، لما قال الله تعالى" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" .
ومن تفيد في اللغة التبعيض ، فليس كل من شهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله رجلا ، وإنما الرجل من دافع من أجل نصرتها؛ حتى يقول للدنيا جميعها : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
ماذا قال هذا الرجل: " قال يقوم اتبعو المرسلين " ياقوم ، ما أجملها من بداية ، توحي بالحب ، توحي بالرفق ، توحي بـ.....فهم منه وهو منهم ، وهكذا يكون الداعية أو يجب أن يكون الداعية ، أما ما نراه الآن من الاستعلاء والكبر ، فليس هذا جديرا بأهل القرآن والسنة ، الذين يبلغون أفضل رسالة ، ويحملون بين ضلوعهم أجمل الكلمات ، ارفق بالناس ، حتى يحبوك ، فإن هم أحبوك أطاعوك .
(اتبعوا المرسلين) تلك هي القضية ، وهي قضية أبدية ، يجب أن نتعلم من هذا الرجل كيف استطاع الدعوة إليها؟
ما حججك وأدلتك أيها الرجل ؟
أولا : ( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) ، فلقد كرر الفعل (اتبعوا ) لبيان أهميه الأمر وخطورته، فهم لم يسألوكم مالا مقابل هذه الدعوة ؛ لأنهم يأملون في الثواب والأجر من الله الواسع العليم، ولو سألوكم لكان لكم أن تشكوا في دعوتهم ، بالإضافة إلى كونهم معروفين فيكم من قبل بالهداية ، فلم تسمعوا منهم عيبا ، ولم تروا منهم سوءا.
ثانيا: (ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون)، حجة ثالثة ، تعتمد على ذلك الاستفهام المنفي الذي أفاد التعجب ، وهو يتحدث عن نفسه من باب التعريض ، حتى لا يوجه القول لأحد فيجر حقده أو كرهه ، وهكذا يجب أن يكون الداعية ، كان رسول الله إذا رأى من أحد سوءا لا يوجه إليه الحديث بل يقول : ما بال أقوام يفعلون كذا....أليس لنا في رسول الله أسوة حسنة؟ فالله تعالى الذي خلقني ورزقني وجعل لي الأرض مهدا وسلك لي فيها سبلا ، وأنزل لي من السماء ماء فأخرج به من الحب والزرع والنخيل والزيتون والأعناب والشجر ...الله الذي جعل كل ذلك مسخرا لي أحق وأولى بالعبادة.
ثم يأتي (الالتفات) من المتكلم (أ عبد ) إلى المخاطب( ترجعون) ؛ يؤكد المعنى السابق ، فهم إن انكروا أن الله هو الذي رزقهم وخلقهم ، فلن ينكروا أنهم سيموتون ، وكأنه يريد أن يلمح بسرعة عابرة دون أن يستوقفهم كلامه إلى خطأ ما يظنونه ، حيث يقولون " أإذا كنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون؟!" . لأنه يدعوهم للقضية الكبرى "الإيمان بالله". فلا مجال للنقاش في قضايا أخرى.
ثالثا : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ ) سؤال آخر ، أو قل تعجب وتهكم آخر ، سؤال تلو سؤال ، أأتخذ من دونه أي من أسفل منه (آلهة) فهل يعقل أن أترك الأكبر ، وأتعلق بالأصغر ؟! هل هذا من سداد العقل؟
هؤلاء الأدعياء لا يستطيعون نفع أنفسهم ، بل لا يستطيعون دفع الضرر عن أنفسهم ، فهل من العقل أن نتخذهم لنلجأ إليهم عند الشدائد؟! أرأيت هذه الدفقة المتتالية من الاستفهامات ؟ التي تؤيد أهمية الاستفهام في الخطاب الإقناعي.
ثم يقول " إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون" كان من الممكن أن يقول العبد الصالح" إن يردن بضر" دون ذكر للرحمن ، ولكن نراه يذكر هذا الاسم بالذات تلطيفا للحوار ، فهم رغم كفرهم يرزقون ، وتلك رحمة من الله تعالى ، وتلذذا بذكر من يحب ، فالإنسان إذا أحب شيئا عشق سماع اسمه وتكراره، قال الشاعر:
كرر عليَّ حديثهم ياحادي فحديثهم يجلي الفؤاد الصادي.
وهناك دلالة أخرى حيث في ذكره للرحمن بعد كلمة " بضر " بيان إلى أن قضاء الله دائما يكون خيرا لعباده الصالحين ، قال رسول الله " عجبا لأمرالمؤمن إن أمره كله خير ، إن أصابه خير شكر فكان خيرا له ، وإن أصابه شر صبر فكان خيرا له" وقال الشاعر:
عطيته إذا أعطى ســـــرور وإن أخذ الذي أعطى أثــابا
فأي النعمتين أولى بشــــكر وأحمد عند منقلب إيـــــابا؟
عطيته التي أهدت سرورا أم الأخر ى التي أهدت ثوابا؟
بل الأخرى وإن نزلت بكره أعم لصابر منه احتســــابا.
فهو رحمن وإن ظن العبد أنه نزل به ضرر ، قال تعالى " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"وفيها دلالة أخرى ، وهي أن الله تعالى رحمن ، و متى يعذب الرحمن ؟ إنه الرحمن ، وهل يعذب الرحمن ؟ نعم . ولكن متى يحدث ذلك ؟ إذا غضب . ومتى يغضب ؟ إذا أشرك به العباد ما لم ينزل به سلطانا.ونحن نقول في الأمثال : اتقي شر الحليم إذا غضب.
مع ضرورة العلم بأن الشر لا ينسب لله ، فالله منزه عن الشر، وهذا المثل يطلق على البشر فقط ، وقد ذكرته للتوضيح والتقريب. والله تعالى أعلم
ثم جاءت النتيجة النهائية التي حرص عليها هذا الناصح الأمين من هذه المقدمات المحكمة وهي قوله" إني إذاً لفي ضلال مبين" فمن كانت أمامه هذه الأدلة الواضحة، والبراهين الدامغة ، ثم هو يتركها ويتجه إلى الزور والبهتان ، فهو – بحق – في ضلال مبين.
هكذا يكون الحوار ، وهكذا يكون الإقناع ، فليس الأمر علو صوت ، وانتفاخ أوداج ، واحمرار أعين ، وإن كانت لازمة للإقناع ، وإنما الأمر بلاغة ولغة وتمكن .
هذا العبد الصالح استطاع من خلال هذه المقارنة بين حالهم وحال المؤمنين( متمثلا في شخصه) أن يلفتهم إلى انحرافهم عن الصراط المستقيم ، استطاع بنسبة الحديث إلى نفسه وهو يقصدهم أن يخجلهم ، فإن كان لهم عقول سمعوا واستجابوا ، وإلا فما على الرسول إلا البلاغ . وسيقولون يوم القيامة" لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير "
هذا وبالله التوفيق والسداد..
أيمن خميس أبو مصطفى (هـ)
شوال(نوفبر) 2006م.
مع أبي فراس في محنته.
أبو فراس الحمداني شاعر عباسي ، يبدو من شعره أنه كان مرهف الشعور ، جميل الروح ، عاشق للجمال ، فلقد عشق الكلمات وعشقته ، أدرك قيمة الشعر ،فرفع الشعر قيمته ، فها أنا وكثير مثلي يكتبون عنه ، فإنه وإن مات جسده ، فلازالت روحه تسكن أشعاره ، وتبدو واضحة في ثنايا أفكاره.
ونحن على موعد مع بعض أبياته التي كتبها في سجنه لمحبوبته ، ولن أخوض بك فيما خاض فيه النقاد قديما وحديثا من كون القصيدة موجهة لمحبوبته أم هي موجهة لسيف الدوله الحمداني ؟ المهم أننا نتعامل مع نص أدبي يحمل معاني ملتهبة ، ويشعل الشوق في القلوب ، فحينما تقرأ كلمات هذه القصيدة ترى عينيك تترقرق بالدموع ، وترى نفسك تهيم وتطير من سجن الجسد وتحل هناك في عالم لا يعرف حدودا ولا أزمانا ، ولا بلدانا ، فالشاعر والعاشق متساويان ، كلاهما هائم مع اختلاف المحبوب ، فالشاعر يتغزل في الكلمات ، ويصف جمال الصور والأخيلة ، والعاشق يعشق الغيد الحسان .
عشق الحمداني حسناء – لايهمنا من هي فربما كانت قبيحة المنظر ، ولكن الشاعر يراها أجمل من خلق الله ،ألم يقل أحدهم :
تعشقتها شمطاء شاب وليدها والناس فيما يعشقون مذاهب.
ربما كانت جميلة ، وقد ماتت ومات الشاعر ولم يبق سوى الكلمات ، هي تلك الشاهد الذي لا يكذب – ولكن قدره جعله يعشق مغرورة بجمالها ، صدق فيها قول شوقي :
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء
فهي تعلم صدق عاطفته ، ولكنها تسعد بشقائه ، وتسر بخلف الوعد ، وطول الصد ، فهو يحفظ الوعود ، ويصون العهود ، وبرغم ما خلفته له من أحزان ، وما أورثته قلبه من أشجان ، حتى أنحل الشوق بدنه ، وقتل الفكر ذهنه ، وبرغم ما بدا عليه من البكاء ، تقول له :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟!
إنها سخريه واستهزاء بمشاعر الرجل الجاد في حبه ، الصادق في عاطفته ، جاءت في أسلوب خبري أفاد التقرير ، فأفاد مع الاستعارة المكنية في (عصي الدمع ) موقف المحبوبة الساخر ، ولعل الشاعر أراد بهذه الاستعارة أن يبين للمستمع تلك المفارقة الدقيقة بين حالته وحالة محبوبته.
فأي صبر يكون لعاشق تماطله محبوبته ، فتعطيه الوعد تلو الوعد ، وتخلف بلا اعتذار ، ثم هو يرى أن الموت أدنى إليه من تحقق الوصل ، فهو يائس بائس، ومن شدة الوجد نراه يقول:
معللتي بالوصل والموت دونه إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر.
فلا قرت عيون العاشقين بعدي برؤية من يحبونهم . فرق شاسع بينه وبين أبي العلاء المعري حيث يقول:
فلا هطلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلاد.
ويجب ألا نظلم الرجل فهو مكلوم ، جرحته الأشواق ، ولا نبالغ إذا قلنا إن هذه الأنانيه تدل على الصدق الفني ، ومن العيب البين أن نقارن بين معنيين اختلف المبدع لهما ، واختلفت اللحظة الشعورية التي خرج فيها المعنيان للنور ، فالشعر لا يمكن أن نحكم عليه بمقياس ما هو كائن ، بل يجب أن ننظر إلى الشعر بمقياس ما يجب أن يكون.
فأبوالعلاء فيلسوف ، وأبو فراس شاعر ، وشتان بين رؤية كليهما للظاهرة الواحدة ، بالإضافة إلى روح أبي العلاء المتشائمة ، فربما أراد أبو العلاء بالسحائب الرياح والأعاصير ، أو الهلاك والتدمير ، ولم لا ؟! فهو رهين المحبسين ، وشاعر اللزوميات ، يكلف نفسه ما لا تطيق ، ولذا فأنا أرى أن المقارنة هنا تحمل ظلما للرجلين. .
المهم أن أبا فراس يتوجع ويتألم ويشكو بثه وحزنه ، ولكنه يعاني الكتمان ، ويصلى النيران ، ويصارع الأحزان ، ربما بدا أمام الناس جلدا قويا ، يهابه الرجال ،ويشهد بشدته الأعداء ، يصول ويجول ، ينتقل بين الورى كصخرة لا تعرف اللين ، فإذا جاء الليل ولف الكون بعبائته السوداء ، ونامت العيون ، ولا يعرف النوم العاشقون ، أطلق أبو فراس العنان للحب فحدثت القلب العيون ، فأمطرت بالدمع الجفون ، ومضى الليل بين تذكر وبكاء ، وهكذا أذل الحب كبر الأقوياء ، فترى القوي باكيا كأجبن الخلق أجمعين.
بلى أنا مشتــــــــــــاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له ســــر
إذا الليل أضواني بسطت يدى الهوى وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
وهكذا الليل يقسو على المحبين ، يقول امرؤ القيس :
وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهــمــوم ليبتــلي
فالليل كموج البحر المتتابع الذي ما يابث الصب أن يستريح من فكرة حتى تضربه بيدها القاسية اليد الأخرى ، إنه ليل الهموم والآلآم ، ليل الأحزان التي تجعل القلب يحترق بلهيب الشوق ، يقول أحدهم:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل.
إذا جن الليل أباح أبو فراس لعينه البكاء ، ولقلبه التذكر ، ولعقله التفكر ، قال خليل مطران:
يا لَلغروبِ وما بهِ من عَبرةٍ للمُســـتهامِ وعِبرةٍ للرّائــي
أوَلَيْسَ طَمْساً لِلْيَقِينِ وَمَبْعَثاً للِشَّكِّ بَيْنَ غَلاَئِلِ الظَّلْمَاءِ
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَ(النَّهَارُ مُوَدِّعٌ) وَالْقَلْبُ بَيْنَ مَهَابَةٍ وَرَجَاءِ
وَخَوَاطِرِي تَبْدُو تُجَاهَ نَوَاظِرِي كَلْمَى كَدَامِيَةِ السَّحَابِ إزَائِي
وَالدَّمْعُ مِنْ جَفْنِي يَسِيلُ مُشَعْشَعاً بِسَنَى الشُّعَاعِ الْغَارِبِ المُتَرَائِي
فالليل للمحبين عدو مبيب ، كم استحل دماءهم . قال أحد الشعراء:
لله در العاشقين تكلفوا ستر الهوى والهوى فضاح.
بالحب إن باحوا تباح ماؤهم وكذا دماء العاشقين تباح.
فالليل طويل على العاشقين الذين عذبهم العشق ، لما فيه من تضاد بين النفسين ، فالمحب لا يعرف الهدوء ،فهو دائم الحركة ، أعني حركة النفس ، حركة المشاعر ، والليل ساكن هامد بارد ، والمحب قلبه يشتعل نارا ، والليل مظلم ، أريت لم يكون الليل قاسيا على من حيره الحب والعشق؟
وهاهو جبران خليل جبران يقول مخاطبا الليل:
أيُّها الليلُ.
يا ليلَ العشّاقِ والشّعراء والمُنشدين.
يا ليل الأشباح والأرواح والأخيلة.
يا ليل الشّوق والصّبابة والتّذكار.
أيّها الجبّارُ الواقفُ بين أقزامِ المغربِ وعرائسِ الفجر، المُتقَلِّدُ سيفَ الرّهبة، المُتوَّجُ بالقمر.
المُتّشحُ بثوب السّكون، النّاظرُ بألفِ عينٍ إلى أعماق الحياة، المُصغي بألفِ أذنٍ إلى أنّةِ الموت والعدم.
لقد صحبْتُك أيها الليل حتى صرت شبيهاً بك، وألفتك حتى تمازجت ميولي بميولك، وأحببتك حتى تحوّل وجداني إلى صورة مُصَغَّرةٍ لوجودك.
ففي نفسي المظلمةِ كواكبُ ملتمعةٌ ينثرها الوجد عند المساء، وتلتقطُها الهواجسُ في الصباح، وفي قلبي الرّقيب قمرٌ يسعى تارةً في فضاء متلبّدٍ بالغيوم، وطوراً في جلاءٍ مفعمٍ بمواكب الأحلام.
أنا مثلُك أيُّها اللّيل، وهل يحسبني الناسُ مفاخراً إذا ما تشبّهْتُ بك، وهم إذا (تفاخرُوا) يتشّبهون بالنّهار.؟
أنا مثلك وكلانا متّهمٌ بما ليس فيه.
أنا مثلك بميولي وأحلامي وخلقي وأخلاقي
أنا مثلك وإنْ لم يتوّجني المساء بغيومه الذَّهبيّة.
أنا مثلك وإنْ لم يرصّع الصّباح أذيالي بأشعّته الورديّة.
أنا مثلك وإنْ لم أكن ممنطقاً بالمجرَّةِ.
أنا ليلٌ مسترسلٌ منبسطٌ هادئٌ مضطرب،وليس لظلمتي بدءٌ، وليس لأعماقي نهايةٌ، فإذا ما انتصبت الأرواح متباهيةً بنور أفراحها، تتعالى روحي متجمّدة بظلام كآبتها.
أنا مثلك أيّها اللّيل، ولن يأتيَ صباحي حتى ينتهي أجلي.
هأنذا أنقل لك رؤية الشعراء – وهم أصدق الناس تعبيرا عن العواطف – لليل ، فأبو فراس يتألم ، وقد ظهرت آلامه في ألفاظه وتعبيراته ، بل تخطى الألم النفس إلى الجسم ، فأنحله السهر ، وأضعفه السحر ، وهده الوهن ، فنحل جسمه ، وتغير رسمه ، حتى تعجب من نفسه على لسان محبوبته :
لقد أزرى بك الدهر بعدنا فقلت معاذا الله بل أنت لا الدهر.
هي سبب الفكر ، والفكر أدعى للنحول ، فلولا حبك ما حدث لي ما حدث ولكن ماذا أفعل وهو قدري ، الذي لا يمكن الفرار منه ، قال شوقي :
يا لائمي في الهوى والهوى قدر لو شفك الوجد لم تعزل ولم تلم.
هي سبب كل ذلك يقول:
وما كان للأحزان لولاك مسلك إليَّ ولكنَّ الهوى للبلى جسرُ.
فلقد أبت الأقدار أن تريحه ، بل راحت تجمع عليه ظلمة الليل البهيم ، وظلمة النفس التي أتعبها الشوق، وظلم المحبوبة التي تماطله وتتهرب منه وهي تعلم صدق عاطفته .
هكذا عبر لنا أبو فراس عن حبه ، فمات أبوفراس وعاشت كلماته تتردد على ألسنة المحبين ، أو يمكن أن نقول : مات جسمه ، وعاشت في الشعر روحه ، وهكذا حياة الشعراء يتوجعون ويتألمون لينعم غيرهم بروعة الإبداع ، وجمال التصوير .
هذه كلماتي أردت بها أن استنهض الهمم لتدرك أن في شعرنا العربي الموزون ما يغني عن هذا الهراء والكذب الذي جاء به المدعون المحدثون ، ويريدون منا أن نعترف بشعرهم ، فهل يجوز بعد عرضي عليك هذه الكلمات أن تقرن بين كلام أبي فراس والمتنبي وغيرهم من فحول الشعر العربي وبين هؤلاء الأقزام .
هذا وبالله التوفيق . أيمن أبومصطفى.
من مكان إلى مكان
خواطر وتأملات / أيمن أبومصطفى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشعر هو ما عبر عن العاطفة باستخدام الكلمات التي تتناغم مع الحالة النفسية واللحظة الشعورية التي يمر بها الشاعر وقت إبداعه هذه الكلمات ، وما من شك في حاجة قارىء أو سامع الشعر لتمثل هذه اللحظة التي مر بها الشاعر , فالشاعر والقارىء شريكان في هذه اللحظة ، فلن ينفعل مع الكلمات إلا من لمس حرارتها حتى تقص له ما بها من معاني قد تغيب عن غيره , فعلى المتلقي أن يتمثل حالة المبدع كي ينعم بروح الشعر.
فما الكلمات إلا صور وشفرات لما اختفى وراء أستار القلب من عواطف وانفعالات ، وليست تأتي اعتباطا دون قصد ، فلكل شاعر معجم لغوي كونته ثقافته وموهبته ، فكل لفظ يكتبه المبدع إنما هو خلاصة تجربة مر بها ، وربما دار صراعا بين الألفاظ التي تتزاحم في مخيلة الشاعر حتى يتصيد المبدع أحدها أو قل أكثرها ملاءمة لحالته ، فاقرأ الشعر بروحك فما الشعر إلا حديث الأرواح.
حاول البلاغيون الوقوف على جماليات الشعر فما استطاعوا ، فضرب كل واحد منهم بسهم وقال كفاني شرف المحاولة ، فما كتب البلاغة إلا محاولات لفهم هذا الجمال وسعي لوضع اليد على مطارح الجمال في الأدب . فلا يذهب ظنك إلى أن جمال الشعر يرجع فقط إلى لفظه دون معناه ، أو معناه دون لفظه ، فإن الأولى دفعت بعضهم إلى الكلمات التي ما صيغت إلا لموسيقاها وجرسها . والثانية دفعتهم إلى شعر النثر أو كما يقولون قصيدة النثر .
فالشعر في الحقيقة كل لا يمكن نسبة الفضل لأحد أجزائه دون الجزء الآخر ، فهولفظ ومعنى وروح كما تجد النبات ورقا وساقا وجذورا ونضارة . فإذا فصلت أحدهم عن الكل سقط الرونق وانهدم الجمال,فحينما تقرأ قصيدة ترى نفسك تطرب بأشياء تعجز عن معرفتها، هذه الأشياء هي الجمال ، الذي أجهد البلاغيون أنفسهم لتصويره لك فما استطاعوا ولن يستطيعوا . فنسبوه تارة للفظ وتارة للمعنى , وما هما في حقيقة الأمر إلا مظاهر للجمال .
فهناك قصيدة تجعلك تحلق في السماء , وأخرى تغوص بك تحت الماء وهكذا .......ألم يقولوا : "إن من البيان لسحرا"
حينما جلست أكتب هذه الكلمات ما كنت أخاطب إلا من أظن أنه يعرف قيمة العبارة ، ويدرك رونق الأسلوب ، فقد قيل " إن الأسلوب هو الرجل " وهو قول صائب بكل المقاييس ، فالإنسان الذي هذبه الشعر ، وثقفته القراءة ، وشغلته الأفكار ، وحيرته المعاني ، وداعبته الصور والأخيلة ، هذا الإنسان تشعر أنه ملاك عاش في الأرض ، فلا تخدعه الأموال ، ولا يشغل باله بأحاديث الناس ، فهو يعيش الواقع بقانون الخيال ، ويعاشر الناس بأساليب الشعراء ، ولذا تراه دائما يتلقى الصدمات تلو الصدمات ، لأنه يجد نفسه وحيدا شريدا يعيش في الغابة بقانون الشعر ، وما الشعر إلا تجسيد للأخلاق والأخلاق تتنافى مع طبيعة الافتراس ، ولذا تسمع ،أو تحس الأحزان في كلماته ، وتلمسها في نظراته ، وتلك هي حياة الأدباء.
الشعر – إذن – هو ما أشعرك ، ليس الشعر ألفاظا، وأوزانا فحسب ،ولست أرى ضرورة التقيد بالأوزان التي وضعها أو استنبطها الخليل بن أحمد ،فعلى الشاعر أن يبتكر أوزانا بشرط أن يلتزم بها خلال القصيدة، فلقد أصبحت الأوزان في زمننا هذا قيودا تحبس المعاني وتقف حائلا أمام المشاعر والانفعالات.
فالشعراء هم أمراء الكلام ، الذين يستطيعون أن يسوسوه كيفما شاءوا ، ولذا نجد المتنبي الذي أدرك بحسه عبقرية اللغة ، وقدرتها على الامتاع والإقناع – نجده يقول :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم.
ولما كان العرب أهلا للفصاحة والبيان ،أدركوا قيمة القرآن الكريم ، وأدركوا أن إعجاز القرآن لا يمكن أن يرجع إلى الألفاظ وحدها ، أوالمعاني وحدها ، أو الصور البلاغية (بيان )أو التراكيب ( المعاني)أو المحسنات( بديع)، وإنما أدركوا أن إعجازه قائم على هذه جميعا ،فهو لفظ حامل ، ومعنى قائم ، ورباط لهما ناظم ، القرآن الكريم لا يتوقف إعجازه عند حدود الكلمات ، وإنما يدرك ذو القلب السليم ، والعقل القويم ما وراء الألفظ من معاني متلاطمة كالأمواج ، لا يلبث المرء أن يقف على أحدها حتى يضع يده على الأخرى ،فتنسيه القادمة روعة السابقة ، وهكذا نحن في سباق مع هذه المعاني والدلالات ، ولذا تجد اختلاف التفاسير ، فكل منهم وضع يده على جانب من المعنى دون أن يدركه كله ، لذا فلا تراهم ينكرون على بعض قولا ولكن يقولون :" القرآن حمال أوجه ".
فإذا أراد المرء أن ينتفع بالقرآن ،فعليه أولا أن يجعل قلبه سليما مهيئا لتلقي هذا الشفاء الرباني ، وأن ينقي سمعه حتى يسمع بقلبه ،قال تعالى :"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد".
لما قرأت قوله تعالى " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون"جلست أفكر ما سبب فوزهم ، فوجدتني أقرأقوله تعالى" لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون"
فقلت في نفسي : السبب هو تدبرهم للقرآن ، والعمل بما فيه ، وكأن الله تعالى في هذه الآيات يوبخ الكافرين ،بعدما دخلوا النار، ويقول لهم : ألم أنزِّل عليكم قرآنا ؟! هذا القرآن لو نزل على جبل لخشع الجبل ولان ، ولكنكم استكبرتم وقلتم " ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا تكذبون".
فحينما تسمع القرآن اسمعه بقلبك كي تنعم بآياته، وتلذ بنسماته ، فعش مع أهل الجنة إن قرأت آيات النعيم ، وتصور أهل النار إن رأيت صور الجحيم،لا تجعل المعاصي تقف أمام عينيك حاجبا ، واتخذ من الطاعات في زمن الفساد قاربا ، سر به وسط اللجج والرياح والأعاصير ، ولايجرمنك ما يقوله المبطلون ، فالناس لن يكفوا عن الكلام مادامت الأرواح تسري بالأبدان .
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا عني وما سمعوا من صالح دفنوا.
ربما عابوك أو لمزوك أو اعتدوا عليك فلا يضرك ما يقولون ، فلقد قالوا لمن هو أفضل منك ماهو أبشع مما قيل لك ، فقال له الله تعالى :"فلا يحزنك قولهم أنا نعلم مايسرون وما يعلنون". "فاصبر على ما يقولون"." وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " "فلا تك في ضيق مما يمترون" وللآخرة خير لك من الأولى " "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون" " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" .
ويمكن – بل لابد من ذلك – أن يصيبك شيء تظن أنه ضار ،ويقدر الله لك من بعده خيرا لا تعلمه ،فكلامهم أو سبهم ، يجعل ذكرك موصولا ، وللناس عقول تفكر، وأذهان تتدبر ، فكما هناك الضالمون هناك المنصفون، ولو يعلم حاسدك أنه ينفعك من حيث أراد أن يضرك ما نصق باسمك لسانه ، ولا فكر في أمرك جنانه، ولكنه أحمق يسلمك إلى من لا يظلمك ، فلن يجتمع الناس على باطل ، وتلك سنة الأولين والآخرين.
وما أجمل قول الشاعر :
وإذا أراد الله نـــشر فضيــــــــلة ** طويت أتاح لها لســـــان حسود.
فلولا اشتعال النار في ما جاورت ** ما كان يعرف طيب عرف العود.
فلولا اشتعال حريق في أحد الحقول – وهو شيء مكروه – ما عرف الناس رائحة البخور ، "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ".
أنا أعلم أني أجول بك من مكان إلى مكان ، ولكني أريد أن أمتعك وأمتع نفسي بالتفكر والتأمل في القرآن .
لا يمكن أن يكون إعجاز القرآن راجع إلى بلاغته فقط ، وإن كانت بلاغة القرآن معجزة ، فالأمي الذي يسمع القرآن يجد لذة وارتياحا ، بل إن الأعجمي الذي لا يعرف اللغة العربية يستمتع بالقرآن ، فالبلاغة عنصر من عناصر الإعجاز التي لا يعلم مداها إلا الله تعالى ، من هنا ندرك معنى قوله تعالى " قل لئن اجتمت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" فلو كان الأمر أمر استعارات وتشبيهات وكنايات لما كان القرآن معجزا ، فما أكثر الاستعارات والتشبيهات في الشعر والنثر الجاهليين ، فمسيلمة الكذاب حيمنا ادعى النبوة ، جاء بكلام مسجوع به استعارات وجماليات ، ولكنهم لما سمعوه قالوا " إنك لتعلم أننا نعلم أنك لكذاب" .
فالعلماء على اختلاف تخصصاتهم يكتشفون كل يوم جديدا جاء به القرآن ، الأطباء والمهندسون والجيولوجيون وعلماء الطبيعة وعلماء الفلك ..........الخ. فالقرآن معجز في كل شيء ، معجز في لغته وطريقة نظمه ، كما أنه معجز لما فيه من علوم اكتشفها العلماء - حديثا – ومازال هناك الكثير والكثير وصدق قول المولى " سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" .
إذن فالعرب أدركت هذا جيدا ، فلم تعجزهم بلاغته فحسب بل إنهم عجزوا أن يأتوا بكلام جمع بين الإعجاز في مضمونه والاتقان في بلاغته ونظمه، فكل شاعر لابد وأن يجد في ديوانه بل في القصيدة الواحدة بعض الأبيات أو الكلمات التي لا يستحسنها ، أما القرآن فبلاغته قائمة من أول الحمد لله رب العالمين " إلى " من الجنة والناس" .
لذا فلقد سجل لنا التاريخ اعترافات المشركين وعلى رأسهم الوليد ابن المغيرة – وهو من هو في اللغة ومعرفة الشعر – حيث ذكرت كتب السيرة هذه الواقعة ، وسأنقل إليك ما ذكره صححب الرحيق المختوم يقول تحت عنوان:
المجلس الاستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة :
وخلال هذه الأيام أهم قريشًا أمر آخر،وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أيام أو أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لابد من كلمة يقولونها للعرب، في شأن محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأيـًا واحدًا،ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا: فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم. قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، [وإن عليه لطلاوة] وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك." وكذلك سجلت قصة إسلام لبيد بن ربيعة الشاعر المعروف ، لما استمع إلى آيات من سورة فصلت .
هذه بعض تأملاتي وخواطري كتبتها يوم الاثنين الرابع عشرمن شوال لسنة ألف وأربعمائة وسبع وعشرين من الهجرة النبوية المشرفة ،على صاحبها الصلاة والتسليم ، الموافق السادس من نوفبر لسنة ألفين وست ميلادية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك عدة تساؤلات دارت في خاطري فحاولت أن أقف لها على إجابات . ربما كانت هذه الإجابات غير مقنعة لبعض إخواني، ولكنني أقول إنها محاولة للفهم . فلست كما يظن البعض متجنيا على التراث العربي فأنا عربي أحب العرب وأتمنى لهم السيادة والقيادة,وإنما الدافع الذي دفعني لذلك حرصي على أن يكون الشباب المثقف مُعْمِلاَ لعقله ، لا يقبل كل ما يقال أويكتب إلا بعد البحث والتروي ، حتى لاتخدعه الكلمة المطبوعة ، أو المنسوبة لجهابذة العلم ، ويجب على الباحث عن الحقيقة أن يسيء الظن بمن ينقل عنهم حتى يطمئن إلى صحة مانقل عنهم. فلا يخدعنا لفظ براق ؛ لأن النبي قال:" إن من البيان لسحرا"
ومن هذه الأسئلة : هل مانسمعه الآن من مصطلحات بلاغية يرجع إلى العرب؟.
معظم المؤرخين للبلاغة العربية يرون أن البلاغة في العصر الجاهلي بلاغة ذوقية غير معللة , يقول الدكتور شوقي ضيف:" الشعراء حينئذ (أي في العصر الجاهلي) كانوا يقفون عند اختيار الألفاظ والمعاني والصور ، وكانوا يسوقون أحيانا ملاحظات لا ريب أنها أصل الملاحظات البيانية في بلاغتنا العربية "
وهكذا ظلت في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي وإن زادت بسبب تحضر العرب واستقرارهم في المدن والأمصار ، وبسبب رقي الحياة العقلية فقد " أخذوا يتجادلون في جميع شئونهم السياسية والعقيدية ، فكان هناك الخوارج والشيعة والزبيريون والأمويون , وكان هناك المرجئة والجبرية والقدرية والمعتزلة ، ونما العقل العربي نموا واسعا ، فكان طبيعيا أن ينمو النظر في بلاغة الكلام ، وأن تكثر الملاحظات المتصلة بحسن البيان ..."
حتى إذا جاء العصر العباسي الأول اتسعت الملاحظات البلاغية ؛ لتطور الحياة العقلية والحضارية ، ونتيجة لظهورجيل من الموالي والفرس الذين دخلوا في الإسلام ، فأتقنوا اللغة العربية ، وأظهروا فيها براعة منقطعة النظير ، بالإضافة إلى ما ترجمموه من كتب الحضارات الأخرى ،" ومن أشهر هؤلاء ابن المقفع 134 هــ فقد ترجم عن الفارسية كتبا تاريخية وأخرى أدبية وسياسية ، كما ترجم كليلة ودمنه وأجزاء من منطق أرسططاليس ، واتسعت الترجمة بعده ، وأُسست لها دار الحكمة ، وأكب المترجمون من السريان وغيرهم ينقلون الترا ثاليونانيوالفارسي والهندي. وكان ذلك تحولا كبيرا في الفكر العربي ، إذ أصطبغ بثقافات أجنبية كثيرة "
فنرى في كتابات ابن المقفع إشارة إلى ما سماه البلاغيون فيما بعد بـ " حسن الاستهلال " و"رد الأعجاز على ما تقدمها" كما أنه تحدث عن فكرة المقام التي قامت عليها لبلاغة فيما بعد.
" فالبيان العربي نسيج جمعت خيوطه من البلاغة العربية في المادة واللغة ، ومن البلاغة الفارسية في الصورة والهيئة ، ومن البلاغة اليونانية في وجوب الملاءمة بين أجزاء العبارة"
حيث إنه قد ظهرت في القرن الثاني للهجرة طبقة من الكتاب يعملون للخلفاء ، ويعملون في الدواوين ، ومعظمهم من الفرس والسريان والقبط ، أو ممن تأدبو بأدبهم ، وهؤلاء وضعوا معالم يسير عليها الكتاب .
وقد" ظهر آنذاك الجدل وظهرت المعتزلة ، وهم أل لدد وخصومة فاتصلوا بالمنطق وبالجدل ومن ثم اتصلوا بالخطابة .. وكل ما نعتقده أنهم" تصوروا صناعة الكلام كما كان يتصورها اليونان من بعض الوجوه غير أن تأثير " الهيلينية " ( اليونانية) كان واضحا في نتاج الشعراء ونتاج الكتاب الذين ينتمون إلى أصل أجنبي كأبي تمام وعبد الحميد وأحمد بن يوسف وغيرهم من كتاب المأمون"
وكان لظهور علم الكلام أثر واضح في تطور الدرس البلاغي يقول الدكتور شوقي ضيف" ولم يكن الشعراءوالكتاب وحدهم الذين مضوا يدرسون وجوه البيان والبلاغة في فنهم ، فقد كان يشركهم في ذلك طائفتان من المعلمين ، أخذوا في الظهور مع أواخر القرن الأول للهجرة وأوائل الثاني ، وهما طائفة المتكلمين الذين كانوا يعنون بتعليم الشباب فن الخطابة والمناظرة .....ثم طائفة اللغويين والنحويين وكانوا يحترفون تعليم اللغة ومقاييسها في الاشتقاق والإعراب .."
هكذا أخذ المتكلمون يتعلمون البيان والفلسفة يقول الجاحظ:" لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنا في الصناعة ، يصلح للرياسة ، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة ، والعالم عندنا هو الذي يجمعهما "
" وقد نشأ الاتجاه الفلسفي متأثرا بالاتجاه العقلاني الذي سلكه المعتزلة ، وتأثرو فيه بالفلسفة اليونانية التي ذاعت وشاعت في نهاية القرن الثاني الهجري وأوائل الثالث إثر نشاط حركة الترجمةفي عهد العباسيين. فقد أمدت هذه الحركة المعتزلة بسلاح جديد استخدموه في مقارعة الخصوم ، وفي الذود عن أرائهم وأفكارهم ،وكان إمام هذا الاتجاه أبا الهذيل العلاف (ت 235ه / 849م )وتلميذه إبراهيم النظام (ت 231ه / 845م)أما الأول فقرأ كتب الفلاسفة وانتهج مناهجهم ، وأما الثاني فقد قال عنه الشهرستاني : أنه "قد طالع كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة"
" ولا ريب في أن العرب ليسوا بدعا من الأمم والشعوب ، بل هم كغيرهم يتطورون ويتأثرون بالزمان والمكان وظروفهما ، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا . وشتان بين عربي الصحراء القديم وعربي العصر الأموي الذي ورث كسرى وقيصر ، وخرج من صحرائه ، ونزل في الشام والعراق وغيرهما من الأقاليم الإسلامية "
فلقد" اتفق مؤرخو اللغة العربية وآدبهاكما اتفق مؤرخو الإسلام على أن العرب لم يكن لهم وجود أدبي ولا سياسي قبل عصر النبوة،وأن الإسلام هو الذي أحياهم بعد موت ونبههم بعد خمول"
ويقول د/ مبارك أيضا " وأنا لا أنكر أن العرب تأثروا بالفرس في حياتهم الأدبية ، فإن من الطبيعي أن تدخل في اللغة والعقول عناصر جديدة بسبب المعاشرة والاغتراب والاطلاع على آداب الناس في مختلف الأقطار . فكل أمة في الأرض تتأثر حضارتها وآدابها وفنونها بالنماذج الجديدة التي تصل إليها عن طريق المعارض الدولية ،وعن طريق السياحات وتبادل الآراء والأفكار في العلوم والفنون والآداب."
مع هذا فقد رفض الدكتور فشل أن يكون البلاغيون تأثروا بالتراث اليوناني أو الفارسي في استنباط القواعد البلاغية ، ورد على الدكتور إبراهيم سلامة ، وإن كان لا ينكر نظرهم في تراث الفرس واليونان والهنود والروم ..
المهم أننا يمكن" أن نستنتج أن البيان العربي إلى منتصف القرن الثالث الهجري لا يمكن أن يكون عربيا صرفا ، أو أعجميا محضا، فهو بيان غير تام التكوين ..وأبوابه لا تعدوا الكلام على صحة الحروف ومخارجها ، والكلام على الخطيب وموقفه وإشاراته ، والكلام على سلامة اللفظ والعلاقة بين الألفاظ والكلام على العلاقة بين اللفظ والمعنى."
وبالرجوع إلى الثقافة العربية نجد المنطق قد أثر فيها كثيرا بحيث أفاد منه علم الكلام والفلسفة، وأفادت منه العلوم الدينية كالأصول، وأفاد منه النقد الأدبي في بعض مناهجه، وتتجلى إفادة هذه العلوم من المنطق في ضبط مناهجها وجعلها قائمة على البحث الدقيق المحكم.
وإذا استعرضنا تأثير الفلسفة وفروعها من المنطق والكلام في البلاغة فإننا نجد أن هذا التأثير كان قويا واسع المدى يشمل جميع مراحل عمرها، فقد نشأت البلاغة في أحضان كثير من العلوم كان المنطق والكلام على رأسها، والدليل على هذا أن أكثر البلاغيين كانوا يتعاطون الفلسفة والكلام، وأذكر منهم بشر بن المعتمر، والجاحظ، وقدامة بن جعفر، وعبد القاهر الجرجاني، والزمخشري والسكاكي وغيرهم كثير، وقد كان لصلة رجال البلاغة بالفلسفة أثرها في توجيه الأبحاث البلاغية توجيها كلاميا فلسفيا مما جعل بعض الباحثين يذهب إلى القول بأن البلاغة كانت وديعة في يد المتفلسفين على مر الدهر.
ولتأثير الفلسفة بمنطقها وكلامها في البلاغة صور ومظاهر كثيرة: منها أن المتكلمين وضعوا المصطلحات وأمدوا بها البلاغة أثناء نموها وتكوينها بحيث استفادت من ذلك في وضع أسسها وتدعيمها وجعلها نشاطا خاصا قائما بذاته، ومنها أيضا ظهور الفنون البلاغية على يد الباحثين في الإعجاز وأغلبهم من المتكلمين الذين تمثلوا المنطق واعتمدوا عليه في أبحاثهم الاعتقادية، ومنها كذلك النزعة الجدلية الحجاجية التي سيطرت على البلاغة ولا سيما عند المتكلمين، ومنها الكلام على أوجه الحسن الفلسفي كما نجد في البيان، والكلام على الأسباب والمسببات كما نجد في المجاز المرسل، والكلام على الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي كما نجد في علم المعاني، وهي مسألة أدت إليها الفلسفة الإلهية.
وازداد تأثير المنطق في البلاغة قوة عند المتأخرين، فالسكاكي مثلا حين ألف كتابه مفتاح العلوم في العلوم الأدبية أردف علوم البلاغة بالبحث المنطقي في الحد والاستدلال وعلل ذلك بأن "تت