يمكن أن تستخدم البلاغة استخداما مخادعا ، وقد التفت إلى ذلك ابن الأثير في كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر تحت باب الاستدراج حيث يقول: "وهذا الباب أنا استخرجته من كتاب الله تعالى وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال والكلام فيه وإن تضمن بلاغة فليس الغرض ها هنا ذكر بلاغته فقط بل الغرض ذكر ما تضمنه من النكت الدقيقة في استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم وإذا حقق النظر فيه علم أن مدار البلاغة كلها عليه لأنه انتفاع بإيراد الألفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها والكلام في مثل هذا ينبغي أن يكون قصيرا في خلابه لا قصيرا في خطابه فإذا لم يتصرف الكاتب في استدراج الخصم إلى إلقاء يده وإلا فليس بكاتب ولا شبيه له إلا صاحب الجدل فكما أن ذاك يتصرف في المغالطات القياسية فكذلك هذا يتصرف في المغالطات الخطابية ".وقد أشار ابن سينا إلى أن الاستعارة ينتفع بها على أنها وسيلة خادعة للتأثير على المتلقي الذي يسهل خداعه ، حيث يقول :".....وليعلم أن الاستعارة في الخطابة ليست على أنها أصل ، بل إنها غش ينتفع به في ترويج الشيء على من ينخدع وينغش ، ويؤكد عليه الإقناع بالتخييل ، كما تغش الأطعمة والأشربة بأن يخلط معها شيء غيرها لتطيب به، أو لتعلمل عملها فيروج أنها طيبة في أنفسها.. "
وقد ناقش أمبرتو إكو الغاية المخادعة للبلاغة ، أو قل بلاغة الكذب فى عرضه لنظرية إنتاج العلامة ، مشيراً إلى استعمال الصور البلاغية التحسينية بغرض المخادعة ومنافاة الحقيقة ، إذ ينتج استعمال الصور البلاغية خطاباً أيديولوجيـاً مخادعاً تُصنف فيه أشكال الدعاية المخادعة التى تستهدف إقناع العامة ، ومن ثم وصمت البلاغة بسمعة سيئة فى القرنين الماضيين بسبب الطـريقتيـن اللتين كان يُنظر بهما إلى فكرة الصور البلاغية " ومن هذا أحجم القدماء عن النظر إلى القرآن من منظور البلاغة التي كانوا يعتمدون في تعريفها بعض ما نجده في تعريف الخطابة . فمن مفاهيم البلاغة عند الجاحظ على سبيل المثال مفهوم لاحظ حمادي صمود شدة اقترابه من مفهوم الخطابة اليونانية ، إذ رأى أن الجاحظ قد عرف البلاغة تعريفا يوافق الأغراض والحجج في الخطابة . فهي عنده – كما جاء في البيان والتبيين – " البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة وإظهار ما غمض من الحق وتصوير الحق في صورة الباطل" .
وقد التفت إكو إلى سلوك شاذ يختلط بالغاية الاقناعية للبلاغة ويرتبط باستخدام الشفرات لإنتاج نص أيديولوجي ويصنف تحت هذا العنوان أشكال الدعاية المخادعة التي تستخدم في إقناع العامة , ويقصد بالنص الأيديولوجي "ذلك النوع من المحاورات التي تحاول أن تظهر بمظهر الجدل الحقيقي – من قبل المرسل – باستخدام الافتراضات المحتملة ولكنه يأخذ في اعتباره جزءا بسيطا من معطيات حقل الدلالة , وبذلك يخفى الطبيعة التناقضية للنظام الدلالي العام ، ويقدم وجهة نظره الخاصة كما لو كانت الناتج الوحيد الممكن – يعد هذا السلوك سلوكا شاذا – يستوي في ذلك أن يكون هذا الاتجاه متبنى من قبل المرسل عمدا وسخرية لكي يخدع مخاطبا ساذجا ، أو أن يكون المرسل نفسه ضحية نظرته ذات الاتجاه الواحد " إن مثل هذا النوع من الخطاب الإقناعي يرتبط بأسباب صراعية شبيهة بالحرب ، ولقد كان الدرس البلاغي القديم محكوما بنبضات صراعية تحتاج إلى الإقناع تحقيقا للفوز بالقضايا ، يلفت إلى ذلك ( ديكسون ) ثم يشير إلى أن البلاغة الجديدة " تذهب بعيدا عن هذا الاستغلال السيء للعوائق الموجودة في عملية الاتصال ، والبلاغيون الجدد لا ينظرون إلى البلاغة بوصفها سكينا حادا يستخدم في صراعات ، فمهمتهم الأساسية هي مقاربة المعنى ، وتأمل سلوك الكلمات في السياق ".
هكذا يتجلى أنّ المعوّل عليه في البلاغة هو الصياغة اللغوية وقدرتها على الإيهام والتخييل إلى درجة الإقناع، وبلغة ثانية، المهارة اللغوية التي تمتلك القلوب وتستأثر بها، غير أننا نجد من نظر إلى نماذج المهارة اللغوية نظرة الريب؛ فالجاحظ يذكر أنّ البلاغة هي تصوير الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق . وهذا مؤدّاه مغالطة المتلقي ومخادعته واستدراجه في غيبة من رويته إلى ما يخالف عقله وعلمه.
إن الحديث النبوى يحمل أبعاداً تنظيرية لا تختلف عن هذه الآراء والمقولات ، بل يضع الحديث النبوى أسساً نظرية لاصطناع الأنماط البلاغية فى الأسلوب ، وذلك ببيان مواضع الاستحسان ومواضع الاستهجان ، فليس كل استعمال بلاغي بمستحسن ، ومن هنا تأتى فكرة الدوافع التي تكون من وراء أنماط الأساليب إن كانت ترمى إلى الحقيقة ، أو كانت ترمى إلى المخادعة أو المبالغة فى سلوك لغوى يؤدى إلى قلب الحقائق ، يبين الحديث النبوى هذا النمط المخادع من الاستعمال البلاغي :
فعن أم سلمة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ ، أَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ وَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَدَعْهَا " ( البخاري ك الأحكام 6648 ) وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا التفاوت فى البيان بقوله : " فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ " من هؤلاء الخصم الذين يأتونه ، فيأتي هذا البليغ القادر على البيان بحجج تشوه الحقيقة إلى حد تغيم معه الرؤية فى نظر الذي يقضى ، وفى هذا بيان لغاية غير أخلاقية قد تستعمل فيها البلاغة ، وفى ذلك يقول سهل بن هارون " سياسة البلاغة أشد من البلاغة ، كما أن التوقِّى على الدواء أشد من الدواء " وسياسة البلاغة أي السيطرة عليها وابتغاء الحقيقة فى استعمالها ، فإذا كانت البلاغة عسيرة لا تتوفر لكل إنسان ، فإن القدرة على توجيهها بحيث لا تستعمل إلا لكشف الحقيقة لاتتيسر لكل قادر عليها .
ومن هنا أيضاً كان قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لسِحْرًا " ، وقد جاء فى تتمة الرواية أن المقصود بسحر البيان أن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق ، وبذلك يتصدى الحديث النبوي نظرياً لاستخدام القدرة البلاغية فى أمور مخالفة للحقيقة ، مع الإقرار بوقوع هذا السلوك من البشر فى مواقفهم وتعاملاتهم .( )
والواقع أنّ سحر الألفاظ وجمالها يخدم مبادئ متعارضة، فهو يؤيد الدعاية والاستمالة البعيدة، ومعنى سحر الألفاظ هو تأثير اللغة الجميلة في النفس، وأنّ لفظ السحر يعني إغراء الكلام أو القدرة غير العادية على أن يصرفك إليه دون أن يكون لذلك سبب واضح أو حجة مقنعة. ومن الأمثلة التي ضربها أرسطو لهذه الغاية كلمة " الشفاعة "و" التضرع " وهما داخلتان تحت جنس واحد ، وهو المسألة ، ولكن التضرع أخس من الشفاعة ؛ وذلك أن التضرع يكون ممن هو دون المسئول ، والشفاعة تكون من المساوي للمسئول، فإذا أراد المتكلم أن يحسن التضرع سماه شفاعة ، ومتى أراد أن يحقر الشفاعة سماها تضرعا .
ومن أمثلة ذلك أيضا أن المتكلم إذا أراد أن يعظم أمر مَنْ سرق قال إنه أغار ، وإذا أراد تحقيره قال إنه خان ، وذلك أن هذه الأفعال " سرق – أغار- خان" كلها داخلة تحت أخذ المال دون عوض ،وقد عرض الفائز في سباق البغال على الشاعر " سيمونيدس" أن يمدح بغاله الفائزة في السباق بقصيدة من شعره لقاء مكافأة ضئيلة ، أحجم إذ رأى أنه لا يليق به أن يكتب عن بنات الحمير ، لكنه لما أجزل له المكافأة نظم قصيدة قال فيها :" سلام عليك يا بنات الجياد اللواتي ينتعلن الريح" .
من هذا المنظور، ينبغي التمييز بين نوعين من اللغة، أحدهما صادق حقيقي، والثاني خلاّب ومستحبّ، وقد يتجمع هذان النمطان في قول واحد، وقد يفترقان، وربما لا يكون للحق ميزات ظاهرة، وربما يجتمع للباطل أوجه استحسان باهرة وحسن البيان يرى الظلماء كالنور .وقد عبر ابن الرومي عن قدرة البلاغة على المخادعة والمغالطة بقوله :
في زُخْرُفِ القولِ تزيينٌ لباطِلِهِ والحقُّ قَدْ يعتريه ســوءُ تعبيرِ.
تقول هذا مجـاج النحل تمدحه وإن ذممت فقل قيء الزنابيــرِ.
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما حسن البيان يُرِي الظلماء كالنورِ.
وهناك إشارة من القرآن الكريم تدلّ على المفارقة بين القول الذي يغري الإنسان بالاستماع إليه والحق البريء من الزينة. والقرآن الكريم يشير مرة أخرى بقوله: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ " ويقول أيضا:
" وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ ":
ففي هذين المقامين ندرك ما يسمى بـ"الاستمالة"، وقد نظر إليها القرآن نظرة تحذير إذا كانت استمالة غير مشروعة.
إنّ البلاغة العربية القديمة اتصفت بوجوه من الخداع والرياء المقبول وغير المقبول؛ ولذلك قال الجاحظ: "اللهم إننا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، كما نعوذ بك من العجب بما نحسن" .
"فالاحتفال والصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخييلات التي تهز الممدوحين وتحركهم وتفعل فعلاً شبيهًا بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش، حيث تروق وتؤنق وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن من قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا يذكر مكانه "
والمقصود من وراء هذا هو الافتنان بالقول إلى الحد الذي يفقد الإنسان معه صوابه، فيعجز عندئذ عن التمييز بين خيره وشرّه، وجيّده ورديئه؛ ولهذا إذا وقفنا عند قدرة الْحَجّاج البيانية، نجد الناس ينتقدون قسوته وعنفه وحزمه في معالجة الأمور؛ فقد قال مالك بن دينار: "ربما سمعت الحجاج يخطب ويذكر ما صنع به أهل العراق، فيقع في نفسي أنهم يظلمونه، وأنه صادق لبيانه وحسن تخلصه بالحجاج ".
ويتضح في ضوء هذه الاعتبارات أنّ المقاصد ذات شأن كبير في البلاغة الموروثة، إنها تسود غيرها من الوظائف اللغوية، أو تصرفها حسبما شاءت ؛ فالوظيفة الإفهامية من اللغة، والوظيفة الخطابية، والوظيفة الشعرية، غايتها هي التأثير في السامع وإقناعه. وبتعبير آخر، كانت وظيفة البلاغة الموروثة هي وصف الطرق الخاصة في استعمال اللغة وتصنيف الأساليب بحسب تمكنها في التعبير عن الغرض يتجاوز الإبداع إلى التأثير في السامع أو إقناعه بما نقول أو إشراكه فيما نحس به، وغايتها مد المستعمل بما تعتبره أنجع طريقة في بلوغ المقاصد .
ويحسن بنا -هنا- أن نتذكر أنّ اللغة في بدايتها وظيفة اجتماعية، يمارسها الإنسان ليؤكد بها ذاته، وليستشعر عن طريقها وجوده متفاعلاً مع غيره ممن يشاركه هذه الوظيفة .
وعلى العموم، إنّ للغة وظيفتين جوهريتين هما: التعبير والتوصيل، إلاّ أنّ المقاصد ذات شأن كبير في التراث البلاغي، وكيفما كان الأمر، فقد كانت اللغة في هذا الإطار تستعمل لغايات أخرى، مثل التشريع، أو خدمة أغراض علم الكلام، أو إذكاء العصبية، أو التجمل الواجب لكل من يتصدى لمنصب من مناصب الحكم أو الرياسة .
انطلاقًا من هذا، انطبعت محاولة الجاحظ بطابع نفعي واضح، يمكن أن يعدّ بدون مبالغة أكمل محاولة في التراث اللغوي العربي لتأسيس ما يسمى بنفعية الخطاب La pragmatique du discours؛ فمما يلاحظ أنه من أبرز مقومات طريقته في تناول الخطاب اللغوي، أنه يتناوله من زاوية كونه عملية تواصل Communication، وهذه العملية تستوجب حدًّا أدنى من الأطراف لا يقلّ عن ثلاثة: المتكلم والسامع والكلام، والرابط بين الأطراف هي الوظائف الثلاثة: الوظيفة الإفهامية، والوظيفة الخطابية، والوظيفة الشعرية، غير أنّ الأولى تقوم من القيمة مقام الأصل؛ إذ لا يتصور الجاحظ خطابًا لغويًّا مهمًّا مهما كان مستواه، لا يكون الفهم والإفهام قاعدته، وغاية هذه الوظائف جميعًا هي السامع .
لقد كان تصور الجاحظ الجمالي على هذا النحو، وبالتالي كان الجمال عنده ينبع من النافع، واستقى جانبًا من دستوره الأخلاقي؛ فالخير ليس في الكلمة الجميلة، بقدر ما هو في الكلمة الناجحة التي تعمل في النفس عمل الغيث في التراب، كما يقول .
وينبغي أن نتذكر أنّ الجاحظ من كبار المعتزلة الذين أعطوا مسائل البيان اهتمامًا كبيرًا، حيث تحدّث عن الألفاظ وملاءمتها للمعاني، وعن الإيجاز والإطناب، ويشير في كتابه البيان والتبيين إلى السجع والازدواج والاقتباس والكناية والاستعارة وغيرها، كما يشير في كتابه الحيـوان إلى الحقيقة والمجاز، وينبغي أيضًا أن نأخذ في الحسبان أنّ موقف الجاحظ كان من موقع العربي المدافع عن الفصاحة لأسباب لغوية لعلها مشوبة بموقف سياسي، يدافع عن سيادة العِرق العربي، أو من المتكلم المناظر المؤمن بأنّ القول ترتيب ورياضة . وجملة الأمر، كان الجاحظ ينتمي إلى نحلة تعد اللغة سلاحها الأساسي للظهور على الخصوم والإقناع بالمذهب إبّان المناظرات والمجادلات.
وهذا مؤداه أنّ نظرة البلاغيين القدماء إلى اللغة كانت من زاوية نجاعتها في المجادلة وقدرتها على التأثير في المتلقي وإقناعه. من هنا كان الحجّاج البلاغي يعتبر إجراء خطابيًّا استراتيجيًّا إذا ما رام المتكلم التأثير في السامع واستمالته لأخذ قرار ما، أو اتخاذ موقف معيّن، أو القيام بعمل ما؛ لذلك فالصور الأسلوبية والصور الاستعارية والبيانية من العناصر ذات الأهمية القصوى في عملية المحاجة والجدال .
هكذا بالبلاغة ينتصر الشاعر لقضيته ويسوغها في النفوس ويتمّ تمكينها في الذات، "إنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة" ؛ وهذا ما جعل المتكلمين والمعتزلة يعتبرون تعلّم البلاغة غاية في حد ذاته؛ فهي تمكنهم من أداة ناجعة، يظهرون بها على خصومهم في المناظرات والمجادلات .
وما يعنينا هو أنهم ركزوا على مقاصد البلاغة العقائدية ووظّفوها لغايات جدلية إقناعية، ومنه أصبحت اللغة خادمًا من أجل الوصول إلى نهائي أو موقف حاسم ؛ الأمر الذي جعلها تهدف إلى كسب تأييد المتلقي في شأن قضية أو فعل مرغوب فيه من جهة، ثم إقناع ذلك المتلقي عن طريق إشباع مشاعره وفكره معًا، حتى يتقبل ويوافق على القضية أو الفعل موضوع الخطاب؛ فالبلاغة -كما قلنا- توجّه بخصائصها للقلب والعقل معًا؛ إذ يجمع القول فيها بين المضمون العقلي للشاهد وصوره البيانية، أو بين التبرير العقلي والمحسنات البديعية .
انطلاقًا من هذا اعتبرت البلاغة هي الطريقة والوسائل المتبعة في الكلام حتى تنفذ معانيه إلى عقل وقلب السامع وما يقتضيه ذلك من وضع محسنات بديعية وإبانة وإظهار وإقناع. ويعود هذا التصور إلى كون البلاغة العربية قد نشأت في أحضان الصراع بين العقائد؛ فقد وصف القرآن الكريم بعض الناس بأنّ لهم ألسنة حادة، ووصف طائفة أخرى بأنّ لهم القدرة على الجدل والخصومة، مما يدلّ على أنّ اللغة ظاهرة من مظاهر الصراع وليس السلام.
ولقد رأى البعض أنّ الأبحاث البلاغية نشأت في عصور قوامها الاضطراب السياسي والاجتماعي، ومن الطبيعي أن يفقد المنطق العقلي وقاره في هذا النحو.
وفي الختام أشير إلى أني حينما عنونت الموضوع اخترت بلاغة الكذب لا كذب البلاغة ؛ حتى لاأتهم بالاعتداء على الثوابت ، وأقول إننا نقول إن فلان كلامه ريحني وطيب خطري وفلان كلامه حلو ، فهذه كلها بلاغات وإن كانت للإقناع بالكذب.
نظرة ربما كانت مختلفة ولكنها ليست مخالفة . وفق الله الجميع للخير ، وأدعو الجميع لقراءة التراث قراءة ثانية وثالثة ورابعة ....لعلنا نقف على جمال العبارة