أركانة التي ... للأديبة مريم بن بخثة... قراءة نقدية بقلم : عاطف عبد العزيز الحناوي
حينما قرأت النص للمرة الأولى لاحظت الحضور الطاغي للمكان في هذا النص فكأن المكان هو بطل القصة / المأساة التي ترويها الأديبة هاهنا و لم أكن أعرف أركانة و لا ما حدث لها و لكن النص فيه مجموعة من الإضاءات حول ذلك المكان الثري بالحياة التي تدب بين أركانه و على جدرانه لدرجة أنه حتى بعد موته فإنه ما زالت نقوش الحياة فيه خضراء يانعة على حد تعبير الكاتبة نحن إذن أمام مكان يتحدى الموت بقوة و يتحدى البكاء برغم ما جرى له و فيه و لكأني بالأديبة تتوحد في المكان و يتوحد فيها فأوصافها و صورها البيانية التي رسمتها تعبر بحسم عن روح التحدي و القوة .
نرى ليل المدينة و هو يتسكع و نرى الذاكرة المثقوبة و هما صورتان بليغتان حيث كونهما استعارة مكنية لطيفة حيث في صورة الذاكرة المثقوبة تم تشبيه الذاكرة بأنها وعاء و هذا الوعاء مثقوب فهل تراه سوف يحتفظ بشئ مما فيه ؟!
و كم أجادت الأديبة في استخدام المضاف و المضاف إليه لتعكس لنا مزيدا من التركز و التوغل في الحالة النفسية و الشعرية و كما نعرف جميعا بأن المضاف إليه يتوحد مع المضاف فكأنهما كلمة واحدة و هذا يفيد التخصيص كما يفيد النسبة و لنر الآن مجموعة الإضافات التي قامت بها الأديبة في نصها و ما فائدتها في تجربتها الفنية :
ناي الوجع
|
| حليب الوطن
|
حناء الغدر
|
| نشيد الحرية
|
صوت نواح
|
| لحظة الفرح
|
عشاق الدماء
|
| عناقيد الحلم
|
كفن الصمت
| في مقابل
| بهجة الربيع
|
زمن الوهم
|
|
|
أزمنة الغياب
|
|
|
زمن البكاء
|
|
|
المجموعة الأولى كما هو واضح تعبر عن حالة الحزن و العدمية التي اجتاحت المكان بجبروت لا يرحم .
و المجموعة الثانية كما هو واضح أيضا تعبر عن حالة التحدي و الحياة و الأمل .
و هذا التباين بين الحالتين يتبدى في ثنايا القصيدة حيث هناك أعداء للحياة / عشاق الدماء و هناك في مقابلهم الحالمون بالحياة و بهجتها .... و لكن السؤال : أي من الفريقين سينتصر في النهاية ؟ و من ترى ستكون له الغلبة أزمنة الغياب أم لحظة الفرح ؟ هل ترى ينتصر الجمع على المفرد أم تحدث المعجزة ..من يدري ؟!
أيا ما كان من أمر فإن الأديبة أبدعت في رسم صورها الفنية و حتى في استخدامها للأفعال – في صورة فعل الأمر بالذات – و في أفعال الأمر المزيد من التحدي و التحريض على الفعل و الرجاء و الأفعال التي استخدمتها هي :
افرشي – غنّ – أعلني – انفضي – عودي " مرتين " .
كذلك استخدمت واحدة من أخوات كان أكثر من مرة و هي تدل على الاستمرارية و الصمود " ما زال " ..ما زال نقشها أخضر يانعا ( انظروا للتحدي في مواجهة الموت و الدمار ) .
كما تستخدم الأديبة كذلك ألفاظا ذات إيحاءات طقوسية و رمزية كاستخدامها لألفاظ مثل الوشم و النقش و التمائم ..
ختاما أقول : لكأني بالأديبة مريم بنبخثة تحاول جمع العالم كله في ورقة واحدة .. فالنص بين يديها عالم متكامل من العلاقات بين الفكر و الشعور و بين اللغة الواضحة غير المبهمة كعادة من يكتبون النثر .
و أود تأكيد حقيقة أراها جديرة بالتأكيد و هي أنه لا مجال للتخلص من سلطة الإيقاع و الوزن العروضي بنسبة مائة في المائة مهما حاول صاحب النص النثري فعل ذلك فتلك الموسيقى طبيعة و جزء من كيان اللغة العربية ذاتها
( مخالفا بذلك قول الأستاذ عماد غزالي و هو شاعر نثر مصري و غيره كثيرون يزعمون نفس الزعم حيث قال في حوار له مع جريدة الخليج 6-5-2013 : فهي الشكل الشعري العربي الوحيد –يعني قصيدة النثر - الذي يخلو تماماً من الوزن العروضي ) و كم وجدنا في نصوص نثرية مقاطع موزونة على إيقاعات الخليل التي ينقم منها النثريون و مثال على ذلك من نص أركانة ما يأتي :
تقول مريم بنبخثة :
و غنّت لليلٍ حزينٍ ..
و هو من تفعيلة المتقارب " فعولن " حيث يتوالى حركتان فساكن ثم حركة فساكن.. و غير ذلك كثير في نصوص مريم بنبخثة و في نصوص الكثيرين من شعراء النثر ...
و قد أوضحت ذلك من قبل في مقالة لي بعنوان الاقتباس من القرآن الكريم في الشعر ..
الوزن و الإيقاع المنتظم – أكرر – من المستحيل التخلص منه تماما في الشعر العربي بل و في الكلام العادي و في النثر أيضا .
أخيرا ..أشكر الأديبة الذكية التي طوّفت بنا في عالم من الخيال و الشاعرية بأسلوبها الجذاب و غير المبهم و هذا يجعل إبداعها قريبا من النفس سواء كان القارئ رجلا عاديا أم أديبا و ناقدا .. شكرا لك مرة أخرى و لمزيد من الإبداع و الجمال بإذن الله .... و إلى النص :
[ltr]لأركانة اهدي قصيدتي ، أركانة التي
[/ltr]
[ltr]
[/ltr]
[ltr]أركانة التي
هذا ليل المدينة
يتسكع في أزمنة الغياب
بين رفات يسكنونك أركانة
مازالت هناك ذاكرة مثقوبة
تطل على ناي الوجع
مازال هناك صوت نواح
لنوارس حلقت في المدى
و غنت لليل حزين
على أسمنتها نقشت حناء الغدر
هذا ليلك أركانة مزهوا بانكسارك
أفرشي له ثمورا و حليب الوطن
غني له نشيد الحرية
أعلني انك صرت قداسا
لكل الذين رحلوا لحظة الفرح
اركانة التي غنت للموت
ذات ليلة
مازال نقشها اخضر يانعا
مازال الوشم مزارا للعائدين من زمن الوهم
مازالت تعلق تمائم تحجب
عين الشمس.
هناك حيث كانت الحمراء تشتهي
عناقيد الحلم
و بهجة الربيع تبتغي
أركانة التي حملت نعشها بكفيها
وراحت تنقش على سرير مراكش
الولاء.
هاهو الليل يكشفها كمومس لعشاق الدماء
أركانة انفضي عنك كفن الصمت
عودي كالبهاء
عودي بلا ألم
فقد ولى زمن البكاء
[/ltr]