الأفق الإبداعي للثقافة
قراءة سوسيونقدية في الشعر العامي
محمد عبدالعال (*)
مؤتمر مطروح مايو 2010 لاشك أن استفادة النقد الأدبي في العقدين الماضيين من المنجز الذي قدمته الأنثروبولوجيا في تطوير الدراسات الثقافية قد أتاح للدراسة المنهجية بُعدا تأسيسيًا جديدًا يتمثل في إضفاء الصيغة الاجتماعية على الدراسة النقدية المنهجية دون إغفال البعد الجمالي النصي، فقد ساعد هذا التضافر النسبي بين حقلين معرفيين متباينيين (النقد الأدبي والأنثروبولوجيا) على قبول الوجهة النقدية التي تزاوج بين الإبداعي والاجتماعي بعيدا عن الدعاية الأيديولوجية أو التورط في مقاربة نقدية تتخلى عن العلاقة المنطقية الناتجة عن أثر المجتمع في الخصائص الإبداعية للفن عامة أو للنص الأدبي بصفة خاصة؛ ولا شك أيضا في أن الجدل الذي أثير بين المناهج النقدية ذات المرجعية الاجتماعية الخالصة (النقد الماركسي) وبين المناهج الشكلانية الخالصة (البنيوية) قد ساعد كثيرا في قبول الطرح الثقافي الحديث في قراءة النص الأدبي، فقد استمرت جهود الباحثين في محاولة التقريب بين النظرية البنيوية باعتبارها نظرية لا تاريخية ومن ثم لا اجتماعية، وبين النظرية الماركسية باعتبارها أهم النظريات التي تُعطي اهتمامًا خاصًا بالتاريخ كعنصر أساسي في حركة المجتمع، هذه الجهود التي تبلورت تحديدًا في جهود (لوي ألتوسير) ؛ كذلك مع ما تبعها من جهود (ميشيل فوكو) الذي عالج موضوع الثقافة بمعناه الواسع في تحليل الخطاب وأنواع الكلام باعتبارهما أدوات انتقال الثقافة، أو في دراسات (يورجين هابرماس) حين نظر للطقوس – أيًا كان تصنيفها – بوصفها شكلا من أشكال الاتصال واللغة التي تنقل المعلومة الاجتماعية.
إن هذا المنجز الذي أعاد الصيغة الاجتماعية للمقاربات النقدية هو ما يقدم الضمان المنهجي لدراسة النص الأدبي بعيدا عن الدعائية الأيديولوجية – كما سبق أن أشرنا-، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه المنهجية ليست المبرر الرئيسي في اختيارنا للنقد الثقافي كمنهج نقدي في قراءة شعر العامية في إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي، بل العكس هو الصحيح، فإن النص المدروس هو ما اقترح منهجية النقد الثقافي بمرجعياته الاجتماعية لدراسته، فمما لا شك أن المنهجية الثقافية في دراسة النص الأدبي هي المنهجية الأكثر ملائمة للشعر العامي، وذلك من أكثر من ناحية :
أولا : أن مستوى اللغة العامية هو الأقرب إلى وعي الجماعة الشعبية بما يعني ارتباطه بالمجتمع وتجلياته الثقافية اليومية، على عكس اللغة الفصحى التي ترتبط بالنخبة.
ثانيًا : أن ارتباط الشعر العامي بالمجتمع في صورته التداولية واليومية يجعل المنهجية الثقافية هي الأنسب لدراسة سوسيونقدية تحاول أن تقدم مقاربة لنص إبداعي لا ينحِّي المجتمع من غاياته.
وعلى الرغم من أن علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا لم يستقروا على مفهوم واحد لتعريف الثقافة إلا أننا نميل إلى المفهوم الذي طرحه (إدوارد تايلور) باعتبار أن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتضمن المعرفة والمعتقد والفن والأخلاق والقانون والعادات وأي قدرات أو عادات يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع (1)؛ وهذا المفهوم يعتبره الباحثون التعريف الأفضل للثقافة، فهو تعريف جامع شامل وأقرب إلى الوصف، وينقل مفهوم الثقافة من المستوى التجريدي إلى مستوى الوقائع الاجتماعية التي يمكن ملاحظتها ودراستها بشكل مباشر في فترة زمنية محددة، وتتجلى الخصيصة الأهم والأكثر تأثيرًا في تصور المفكرين حول الثقافة ومفهوماتها المتعددة، وهي أنها في الأصل ظاهرة تتجلى عبر مجموعة من الخطابات اللغوية، حتى وإن كان موضوعها فني، فإن الوعي بها يتم عبر النظام اللغوي الرموزي الذي يشكل وعاء للثقافة ومضموناً لها في آن.
وفي هذه الدراسة نقدم رؤية سوسيوثقافية تستجلي أهم الملامح الفنية والجمالية في مجموعة من نماذج الشعر العامي في إقليم وسط وغرب الدلتا دون أن تتخلى تلك الرؤية عن البعد الاجتماعي الكامن في هذه النصوص وهي : ديوان (قصاقيص أحلام) للشاعر/ أحمد زغلول، وديوان (ضل الملامح) للشاعر / صبري عبدالرحمن، وديوان (بير مسعود) للشاعرة / وفاء بغدادي، وديوان (حاجات تانية) للشاعر / محمد دغيدي، وديوان (برغوت) للشاعر/ محمد صلاح عطيطه، وديوان (ذكريات بتموت كل يوم) للشاعر/ إبراهيم محمد منصور، وديوان (وشم الخروج) للشاعر / فتحي بكر. ولعلنا لا نبالغ إذا ذهبنا إلى أن ذلك البعد السوسيوثقافي هو الرابط الأكثر تجليًا في هذه النصوص. وتتمثل هذه الملامح الفنية والاجتماعية فيما يلي :
أولا : التركيز على الهم الاجتماعي.
ما يتضح جلياً أن معظم النصوص المدروسة قد اهتمت بالتركيز على الهم الاجتماعي بتجلياته المختلفة، ولا غرابة في ذلك إذ يظل الشعر العامي هو الأكثر قدرة على التعبير عن هموم المجتمع والبسطاء، وقد تنوعت طرائق شعراء الأقليم في التعبير عن هذا الهم الاجتماعي، إذ يستخدم أحمد زغلول في قصيدته بعنوان (ياعمنا) المفارقة في رصد ما آل إليه الوضع الاجتماعي الراهن، يقول :
سيفك أليف
حتى الجياد المفترض فيها الصهيل
مقالتشي غير النونوه
يا طفلنا
من بعد ما تحيى العلم
إتلقى برجولة الرصاص
واحنا علينا المندبة
مين راح يفرق وقتها
بين الرجال والسيدات
الحد صار زي التلات
تلك المفارقة التي تتجلى منذ وصف السيف بالأليف من خلال أسلوب الإسناد الخبري للتأكيد على أن الأمر أصبح حقيقة لا مراء فيها، كذلك في التغير الذي طرأ على طبائع المخلوقات : نونوة الجياد – مين راح يفرق وقتها بين الرجال والسيدات، هذا التغير الذي انمحت معه الفوارق الزمنية الطبيعية، ليصل في نهاية القصيدة إلى ذروة المفارقة :
وفي كل ما بيسقط شهيد
بنسب نلعن في اليزيد
ونكمل الأحداث بتاعة فيلمنا
كذلك فقد تجلى استحضار الرمز الثقافي في شخصية (يزيد بن معاوية) الذي عُرف بفساده وظلمه واستباحته للمحرمات؛ وكما يبدو فإن قضية الوطن وما يتعرض له من هزات اجتماعية وسياسية هي العنصر الأساسي في الهم الاجتماعي، وهو ما عبر عنه محمد دغيدي بشكل مباشر في قصيدته (وطني حبيبي) التي يقدم فيها تسلسلاً تاريخيًا لمراحل انحدار تصورات المجتمع عن مفهوم الوطن، يقول :
زمان
مش قوي
كان جد جدي
يقول لجدي :
الوطن مالوش حدود
له جناح
يتفرد ويطير هناك
........
سمعت جدي يقول لأبويا :
لو ح ترفع يوم سلاحك
لو تدافع مرة عنه
يبقى أسهل
لو نحدد لك وطن
لو مساحة من تراب
يبقى أرض
يبقى أرض تشيل وجودك
والنهاردة
أبويا قاللي :
يا بني ليه ح تروح بعيد ؟!
بص تحتك
جنب منك
ح تلاقيه
ح تلاقيه قدام عينيك
تقدر إنك
تلمسه تمسكه وتخاف
عليه
أما أنا محتار ف ابني
لما ييجي بكرة يسأل ع الوطن
راح أقوله ايه ؟!!
في هذه القصيدة يقدم محمد دغيدي رؤية فلسفية تكاد تكون رومانسية لمفهوم الوطن، فمفهومه الشعري للوطن ينظر إلى الوطن / الفكرة باعتباره تجسد صورة أكثر واقعية للوطن أكثر من صورته المادية محددة المعالم والتضاريس، وهذه الرؤية على الرغم من شعريتها إلا أنها تجسد حقيقة التحولات التي طرأت على مفهوم وتصورات المجتمع عن الوطن بعد أن أصبح مرتعًا للغرباء يعيثون فيه كما يشاءون، هذا بالإضافة إلى تفعيل تقنية الحوار السردي في القصيدة، وهو الأمر الذي تكرر في بعض النصوص المدروسة ويحيل إلى قدرة الشعر العامي على استيعاب ما سواه من تقنيات إبداعية لا تنتمي إلى جنس الشعر – كخصائص فنية -، وإنما تستقي شعريتها من قدرتها على التعبير عن الواقع ؛ وهذه التيمة الاجتماعية هي ما عول عليها أيضا الشاعر فتحي بكر في ديوانه (وشم الخروج)، إذ يقدم تصويرا لحال الوطن بين قتامة اليوم وسراب الغد، يقول :
واقف وحيد بالمفترق
على اليمين
فدادين كفاحك ملحت
صبحت مدافن للغريب
على الشمال ملكين عتاة
بيجرجروك وبيطحنوك
حيفان دقيق للمعدمين
ويحصدوك سنة بسنة هيكل عضام
ووراك بكرة اللي مش واضح ملامح سحنته
وخيال مآتة
ف قلب شارع مختفي
لا أنت اللي قادر
تلتفت أي إتجاه
ولا اللي قادر
تبتدي خطوة دخول
ثانيًا : شعرية العادي
تميز شعراء العامية بالإقليم باستخدامهم لمفردات الحياة اليومية العادية والبسيطة وبقدرتهم على تضفيرها داخل النص الشعري دون الشعور بغربتها أو استهجانها، ولا غرابة في ذلك فقد قررنا منذ البداية أن الشعر العامي هو الأقدر على التعبير عن المجتمع بتفاصيله البسيطة، وليس الأمر منحصرًا في استحضار هذه المفردات اليومية وحسب بل إن كل استحضار ينطوي على طرح لإشكالية اجتماعية أو فردية أو سياسية، وبكلمة فإن استحضار اليومي التداولي ينطوي على طرح لإشكاليات ترتبط بثقافة الجماعة الإنسانية وبآلامهم، وبأحلامهم أيضا، يقول صبري عبدالرحمن في قصيدة (كالعادة) :
كالعادة
راح تاخد نفسك على ركن بعيد ف القهوة التجارية
تقعد فرداني
وتطلب شاي
وتفك الكيس بشويش
وتشيل الفتلة بإيدك
على طرف المعلقة تعصرها
وبتسرح في الجزمة الدايبة
والخلق الدبلانة حواليك
وبنات قدامك ماشية بتترجرج
م الفوران
وكلام واحد لما يقولك
أوعه تبص وتتغزل ف الشارع
أو حتى تشم روايح البارفان
أو تحلم إنك...
إيه ؟
طول عمرك ما حلمت
وازاي ح تروح من غير العيش
وزبادي
كالعادة ح تقوم تلعن
وتبص لصاحب القهوة
وتشاور.. أيِّد
وعلى الرغم من التقارب الشديد في الصورة الشعرية بين هذه القصيدة وبين قصيدة (يا صاحبي) للشاعر الكبير صلاح عبدالصبور، فإن عنوان القصيدة (كالعادة) باعتباره علامة إشارية على القصيدة يحرر هذه القصيدة من شبهة التقارب – إن كان في الأمر ثمة شبهة – إذ بالتأكيد على اعتيادية الجلوس على المقهى بتفاصيله المتنوعة (الانفراد - الشاي – الجزمة الدايبة – الخلق الدبلانة)، هذه الجلسة المعتادة لا تنتهي فقط بـ (وتبص لصاحب القهوة.. وتشاور أيّد)، ولكنها تطرح همومًا اجتماعية أخرى، وتساؤلات هي في حد ذاتها مفارقة :
وازاي ح تروح من غير العيش
وزبادي
وهذا الاستحضار لتفاصيل العادي واليومي لا يقف عند حدود المشاع والمعتاد فقط، وإنما يتجاوز ذلك لإضفاء رؤية مغايرة له، يقول محمد صلاح عطيطة في قصيدة (بسكويت) :
قلبك بسكويت الشاي
دايما يخوض التجربة للآخر
أوقات يدوب من غمسة بهداوة
وميستحيش انه
عاشق لآخر نقطة في الفنجان
هذا الاستخدام المغاير للعادي لا يقف عند حدوده الواقعية وإنما يتجاوز ذلك لإضفاء قيمة شعرية على هذا اليومي المعتاد، وهو ما يتجلى كذلك في قصيدته (ريسيفر) التي يستخدم فيها مفردات –بدءًا من العنوان - لا تنتمي إلى الثقافة العربية بقدر ما تعكس مدى التأثير الذي مارسته الثقافة الغربية على حياتنا اليومية، يقول :
كل البيوت مطبقيات
حاضنه أطباق القمر
وأنا قلبي رسيفر
مفتوح على السماوات
اتكعبل في قناة أرضية مشفرة
بعتتله
دعوة خاصة للمشاهدة
استقبل منها كل وجوه العملة الأخرى
كذلك فإن هذه الرؤية المغايرة للأشياء تظهر في قصيدة (لما الواد سيد مات) للشاعر أحمد زغلول والتي يتناول فيها همًا اجتماعيا وهو أمراض الكبد بأسلوب سردي يفتح جماليات النص على أجناس أدبية مغايرة لجنس الشعر فيغتني بها هذا الأخير، وهذا التناول لا يكون على حالته هكذا وإنما ينظر إلى هذا الهم من زاوية مغايرة تمامًا، يقول :
شفتك على باب الحجرة في مستشفى الطلبة
في ملامح أطفالنا الخضرا الـ كنت بتلعب في عقولهم
تبادلهم
باكياس الشيبسي وتسرق منهم بسهولة
شعرهم الناعم الاسود
طعم الضحكة المليانة شروق
وتبدل
في مكان الطلعة الطاهرة سواد
وبرغم الخوف
إنك مرة تقرب مني
ألقاني برحب وبامدّ الإيد
أفتح لك جوه الكبد وريد
وادعيك
لوليمة تكفي شراهة غدرك
وتزيد
لكن شرطي الأوحد
تبعد عن كل اللي شايلهم جوه ف قلبي
إياك
إياك ما تمس في راسهم شعره
لـ ساعتها
بيك
من غيرك
راح أموت
أما أكثر النماذج دلالة على تلك الرؤية المغايرة للأشياء فتتجلى في قصيدة (ريجيم) للشاعرة وفاء بغدادي، تقول :
البنت اللي الناس بيقولوا عليها تخينة
طلع الوزن الزايد قلب
القلب اللي اتّاكل كله
شايفاه واقف بيدور
على حد جعان
الجوع اللي الناس بتشوفه
فوق أسفلت الشارع
مش هو الجوع اللي ف عين البنت
آه.. البنت
.....
لما انكسرت منها الدبلة الفضة
سألت فران الحتة
عندك عيش سن ؟؟
وفي هذه القصيدة تستخدم وفاء بغدادي تقنية قرآنية في التصوير المتسلسل، وهو ما يمكن أن نعتبره تناصًا تقنيًا في آليات التصوير مع الآية الكريمة : اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ"سورة النور – 35 "
ثالثًا : خطاب الذات والعنصر الوجداني
اهتم بعض شعراء الإقليم بالتأكيد على أكثر العناصر التي تميز الجنس الشعري – عامي كان أو فصحى – عما سواه من الأجناس الأدبية، ألا وهو التعويل على العنصر الوجداني والعاطفي، وعلى الرغم من أن هذا العنصر الوجداني يكاد يكون عنصرًا ذاتيًا خالصًا، فإن الشاعر / إبراهيم محمد منصور يقدم في قصيدته (كيان مفتوح) بُعدًا جديدًا للوجدان، يقول :
مفتوح كيانك – للعابرين – شارع
أنت لسه معديتوش
وبترمي حلمك في الطريق
يكعبل الداخل
ويوصل الخارجين
بتلم الشارع ما بين أملك
وبين الناس
وتفرد المسافات
بينك وبين ضلك
في هذه القصيدة يقدم وجداناً منبعه الذات ولكنه يتوجه إلى المجتمع أكثر من انغماسه في الفردية، وهو الأمر الذي تواتر في أكثر من نص، بما يجعلنا نقرر أنه على الرغم من أن المثير الوجداني في الشعر يكون في العادة فرديًا خالصًا إلا أنه قد تجاوز الفردي إلى الاجتماعي في شعر العامية وهو ما يؤكد على البعد الاجتماعي الذي تطرحه اللغة العامية من ناحية، وعلى منهجية الدراسة السوسيوثقافية من ناحية أخرى، ولا يعني ذلك أن نصوص شعراء الأقليم لم تلتفت إلى البعد الذاتي في التعبير عن العنصر الوجداني والعاطفي، وهو ما بدا واضحا في قصيدة (راجعة) للشاعرة وفاء بغدادي، تقول :
أكيد راجعة
أكيد راجعة
أكيد
وح اطرح من سنين عمري
سنين سبعة
وح انسى إني حبيتك
ونني القلب كان بيتك
ولا عمرك ح تبقى إله
ولا أبدا حاكون رابعة
كذلك فقد تجلى ذلك في قصيدتها (وسقطت من الغرفة رقم
، التي قدمت فيها نمطًا فريدًا وغير متعارف عليه من أنماط التناص، وهو ما يمكن أن نطلق عليه التناص مع الحالة الوجدانية، تقول :
رغم إن ملاية الفرش
اللي أنا نايمة عليها
ماهيش بيضا
والأوضة بتاعتي
من غير أرقام
واللي بتيجي تشد الصبح من العين
ما بتعرفش عيونها تفرّق
بين الأبيض والأسود
وما فيش جنبي أي ورود
بتموت علشاني
بالرغم ده كله
جوايا حاجات بتقوللي
إني في نفس الأوضة
وعلى نفس الفرش
ف نمره تمانية !
ففي هذه القصيدة لا تدَّعي وفاء بغدادي أنها في نفس غرفة الشاعر الراحل أمل دنقل، أو أن ثمة رابط ما يجمع بين غرفتها وبين غرفته رقم (
في معهد الأورام، بل على العكس فإنها تنفي إمكانية وجود أي تشابه مرئي بين الغرفتين، ولكن ثمة حالة شعورية متناص معها تؤكد على وحدة الشعور والإحساس بينهما.
إن النص الشعري العامي نص ينتمي إلى ذات مبدعة – لا شك في ذلك – بيد أن ما حاولنا أن نستجليه في هذه الدراسة أن هناك مجموعة من العوامل تفتح آفاق هذا النص على كل من المجتمع، منها – أولا - طبيعة المادة الشعرية (اللغة العامية) التي تتخلى عن تعقيدات الفصحى لتقارب المجتمع في أبسط صوره، و –ثانيًا – الموضوعات التي تناولها الشعر العامي لتقارب المجتمع في أعمق صوره.. إن الشعر العامي ليس رؤية بسيطة للحياة والمجتمع وإنما ينفذ إلى أعماق الرؤى الفلسفية والوجودية حول الذات والمجتمع ليقدمها سهلة سلسة في قالب إبداعي يجسد ثقافة المجتمع دون أن يتخلى عن فردانيته الوجدانية والعاطفية.
(*) مدرس مساعد النقد الأدبى الحديث – كلية الآداب – جامعة المنوفية.