جرعة وطن ....قراءة نقدية
قرأت الديوان باهتمام بالغ , و ابتداء من الغلاف الرائع , إلي الإهداء الجميل , تدرك أنك أمام عمل فني متكامل .
و أشهدكم أني في العادة لا أقرأ إهداءات الكتب , و لكني في هذه المرة , وجدت الإهداء مختلفا , فهو معبر عن محتوى الديوان , و ما به من فكر و فن , يقول الشاعر :
من لم يحمل هموم الوطن لا يستحق أن يستنشق هواءه
و لا أن يطعم من خيره
و لا أن يحيا فوق ترابه ....
إليك أنتِ
إليك وحدك
إليك أنت... يا مصر
أهديك ..نزيفي...
و ظننت تبعا لهذه المقدمة , أني سأجد بين دفتي الديوان , هموم مصر وحدها , و لكني وجدت كل هموم العرب , و مآسيهم و أحلامهم , و تذكرت قول الشاعر الصديق رضا عفيفي : العرب في قلب مصر .
نعم ..العرب في قلب مصر , و هموم العرب هي همومها , كيف لا و هي الأخت الكبرى , و التاريخ يشهد كم عانت مصر من أجل أخوتها .و قد أحسن الشاعر بقوله : أهديك نزيفي , فكل قصيدة فيها نزيف وألم صادق .
سأبدأ تعليقي النقدي بما بدأ به الشاعر ديوانه , ألا و هي قصيدة ( صرخة أم ).
يقول الأستاذ عادل عوض سند :
إيه بيجرى جوّه بيتنا ؟!!
إيه جرا لك يا هيبتنا
إنتي واخدة هدنة ..و لاّ
ضيّعوكي من طيبتنا ؟!
و سؤاله يحمل قدرا من الاستنكار و التعجب , من الحالة المتردية , التي وصلنا لها من ضياع الهيبة و الضعف .
و أعجبني سؤال الشاعر للهيبة , ففيه تجسيد للهيبة , في صورة إنسان يُسأل و يسمع السؤال ( أي أننا أمام استعارة مكنية بليغة ) ...و لكن هل تأخذ الهيبة هدنة ؟! ...فيرد الشاعر على تساؤله :
إنتي فعلا ضيعتي..لكن
جوّه بركان لسّه ساكن
لو يثور حتلاقي ناره
واحمراره
و الحمم نازله بتحرق
كل أخضر ..كل يابس
ياللي عابث
جوّه أول قبله..لأ
ده ميراث المسلمين
يقول الشاعر بأن الهيبة لم تمت , بل هي ضائعة فحسب , أو كامنة مثل البركان الخامد , الذي ما يلبث أن ينفجر و يثور , حين تُمس المقدسات و تُنتهك ... و إن كنت أرى أن لفظة " احمراره " زائدة عن الحاجة الفنية .
و يضع الشاعر الحل للمشكلة , و يوضح متي يعود الحق السليب :
ربنا ح يردّه لينا
لو نكونوا مسلمين
فنحن أمام جملة شرط , وقدّم الشاعر جملة جواب الشرط , علي جملة الشرط في براعة و بلاغة , و ذلك للإشعار بأن الأمل الكبير , هو أن يعود الحق لنا , و تم تأخير جملة الشرط ( نكونوا مسلمين ) للإشعار بعدم تحقق هذا الشرط , علي أرض الواقع... و كلنا يعرف أن " لو " كأداة شرط , تفيد امتناع الجواب لامتناع الشرط أليست هذه براعة من الشاعر , ذو الاحساس الفطري بالجمال و البلاغة و النحو العربي ؟
وقد يقول قائل : نحن مسلمون ! , و لكن ما يقصده الشاعر , أن نكون مسلمين من طراز فريد – مسلمين بجد – يقول الشاعر :
مثل خالد..مثل طارق
مثل عمرو ..اللي أمره
كان بيمشي
ع الصغير و الكبير
و كلنا يعرف كم من البطولات , لهؤلاء الرجال الأفذاذ – رضي الله عنهم – و لكني أسائل الشاعر , عن قصده من قول :
مثل عمرو ..اللي أمره
كان بيمشي
ع الصغير و الكبير
فإني لم أفهم ماذا عنى شاعرنا , بهذا المقطع على وجه التحديد .
و أستطيع القول بأن شاعرنا يمتلك حسا سياسيا و وعيا عميقا بالأمور" على عكس حكّامنا العباقرة و من يطالبون بالسلام!!" حين قال :
ده صراع حق و وجود
مش صراع أرض و حدود
و قال :
اضربوا الإسلام بقوّة
برّه ..جوّه
و اشربوا نخب انتصاركم !
نعم هذا جوهر القضية و سر الصراع و في ذلك يقول العلاّمة محمود محمد شاكر- رحمه الله - في كتابه العظيم " رسالة في الطريق إلى ثقافتنا " :
( فوجفت قلوبهم و رجفت , من هول ما هم مقبلون عليه – أى الغرب – إذا تمت لدار الإسلام اليقظة , و استوت و بلغت أشدّها , و استقامت خطواتها على سنن الطريق , لذلك سعت دول أوروبا في صراع مستميت , من أجل نهش أطراف دار الإسلام - ص 128 وما بعدها ..بتصرف يسير . ) فالحرب إذا ليست حرب أرض , بل هي حرب على ما هو أخطر , و أكبر من أمر الأرض و الحدود ....فأين أنتم يا دعاة السلام ؟!!
و يذكرنا الشاعر بالمذابح , التي ارتكبتها العصابات الصهيونية , بحق إخواننا و بمساعدة الطاغوت – أميريكا - يقول :
يا اللي ساندتكم أميركا
في المدابح من سنين
مين حينسى ؟ دير ياسين
من حينسى ؟ صابرا كانت
أو جينين
و لاحظ معي حلاوة النغم الناتج عن تتابع حروف الروي هكذا :
كا – ن – ن – ت – ن
بهذا النمط لا نرى أن الشاعر يجري وراء القافية , بل ما يقوده هو المعنى و الشكل الجميل , وفي هذا جمال لا يخفى , لأن تتابع نفس حرف الروي في عدة أبيات أو سطور شعرية قد يؤدي إلى الملل , و قد يؤدي بالشاعر إلى أن يبحث فقط عن الكلمات التي لها نفس الحرف الأخير و هذا عيب خطير , و لكن لا أحد تقريبا سلم منه , حتي كبار الشعراء على مر تاريخ الشعر العربي .
ثم نأتي في نفس القصيدة " صرخة أم " إلى ذروة الدراما و الحدث و هذا المقطع هو أكثر ما أعجبني في القصيدة حين قال الشاعر :
مسرحية باسم طوبة
و البطولة للطفولة
و يّا أحداثها الأليمة
و يّا أحداثها العظيمة
( فصل أول)
طفل طالع فوق كتافه
شنطة فيها كتاب و دفتر
ناسي أكله و ناسي يفطر
فكره كان ناسي القلم
هذا الطفل هو بطل الرواية, وهو نفس بطل المشهد في رائعة " نزار قباني "
- الغاضبون - حيث يقول:
يا أحباءنا الصغار سلام
جعل الله يومكم ياسمينا
من شقوق الأرض الخراب
طلعتم وزرعتم جراحنا نسرينا
هذه ثورة الدفاتر
و الحبر
فكونوا على الشفاه لحونا
أمطرونا بطولة و شموخا
و اغسلونا من قبحنا...
و قد أحسن أستاذ عادل في تصوير ملامح شخصية , و حياة هذا الصبي في جاذبية , و بساطة شديدة .
( فصل ثاني )
هوّه نفس الطفل راجع
جثة ملفوفة بعلم
اختصار و لا أورع لكل أبعاد المأساة ..و لكن ليست هذه هي الذروة الفنية .
( فصل ثالث )
أم واقفة
شفت ف عنيها الألم
كان وليدها بيندفن قدام عنيها
و ف إيديها
طالعة جايباله القلم
أما إيدها التانية كانت
ماسكة لفة فيها لقمة للفطار
لقمة مخبوزة بمرار
نعم هو مرار الحياة و الاحتلال و مرار الطناش العربي و العالمي بكل أسف ...ودن من طين و ودن من عجين ... كما يقول المثل الشعبي !
و انظر معي إلى روعة هذه الأم و هذا الإفطار الذي أعدّته لوليدها :
اللي كانت حاشياهوله
بالأمومة و النعومة
حاشياهوله بالكرامة و الرعاية
( و النهاية )
بوسه ف جبين الشهيد
نعم الحياة قاسية و المحتل همجي ( و هذا دأب المغتصِبين و القوى الاستعمارية في كل وقت و في كل مكان ) .
نعم لقد رسم لنا الأستاذ عادل صورا درامية جميلة , و فنّية لأبعد الحدود و لكني أرى أن لفظة " الرعاية " أضعفت السياق الفني للمقطع بعض الشئ , فبعد ذكر الأمومة و النعومة ثم الكرامة أظن كان من الأنسب أن نقول مثلا : و النضال أو البسالة أو شئ من هذا القبيل ...فليعذرني أستاذي الحبيب عادل إن كنت أرى أن لفظة الرعاية قلقة في موضعها , و هي ليست من عادل عوض سند في شئ .
و كم أعجبني بالقصيدة وجود أمّين , و ليس أُمّا واحدة , في القصيدة فكأن هناك حالة من التعادل الموضوعي بين الأم ( الإنسانة ) و الأم ( الأرض/الوطن ) فنرى الأم تخاطب ابنها الشهيد و تقول :
سبت أمك ..سبت همّك
بس نازل حضن أدفى
راح يضمك
إنت راجع حضن أمك
حضن سايع منكو ياما
بالسلامة..بالسلامة
بالسلامة..يا ابن عمري
فالمأساة إذا ليست مأساة أم واحدة , بل كل أمهاتنا ثكلى في أرضك يا فلسطين الحبيبة ...ثم يأتي الوعد – النبوءة – و يا ليتنا نراها بأعيننا , و نشارك فيها بدمائنا و أرواحنا :
بكره تطرح كل ذرّه في القبور
نار ..و نور
راح يثور العضم و يطلّع شرار
يتولد من بين قبوركم
أحلى ألوان النهار
و تكتمل النبوءة بقول الشاعر :
تتحرق نجمة داود
و كنت أتمنى أن تكون هذه الجملة نهاية القصيدة , و لكن الشاعر – و هو أستاذنا بكل تأكيد – استمر في القصيدة , بأسلوب غلبت عليه الخطابة, بعض الشئ ,و إن كان لا يخلو من جمال .
أنتقل الآن إلى نص آخر و هو ( حصة تاريخ ) هذه القصيدة تضعنا أمام أزمة – و هي الأكثر خطورة على الإطلاق – ألا و هي تزييف و تسطيح العقول , و إخفاء أو تجاهل الحقائق , في عقول الناشئة من أبنائنا , و قد عرض الشاعر لنفس القضية في قصيدة ( جزيرة العجايب ) , و إذا فسدت عقول هؤلاء الناشئة فقل على بلادنا يا رحمن يا رحيم ...فقد انتهى كل شئ إلى الهلاك و الضياع وها نحن نسمع أغاني المهرجانات – بئست الأغاني – و التفاهة و السطحية و البلطجة في كل مكان..و والله لو حكّموني عليهم لأعدمتهم أمام عيون الناس لأنهم قتلة !! ...و لا حول و لا قوة إلا بالله .
المهم...يضعنا الكاتب بوعي و حرفية شديدة أمام هذه المأساة , من خلال مدرّس التاريخ الواعي بتاريخه و حضارته و أزماته , و بين الموجه و هو رمز السلطة و الحكومات التي باعت كل شئ يقول الشاعر :
دخل المدرس.. و ابتدا
حصة تاريخ
من غير تاريخ
وضعنا الأستاذ عادل في عدد قليل من الكلمات أمام جسد بلا روح أو وجه بلا ملامح حين قال :
حصة تاريخ
من غير تاريخ...
و قد اختار الشاعر بحر الكامل و تفعيلته( متفاعلن ) و هوبحر مناسب للحكي و الحوار...كما أنه أجاد استخدام النقط حين قال :
دخل المدرس..( نقطتان ) و ابتدا
فإن بين دخول المدرس الفصل , و بين بداية الشرح فاصلا زمنيا قصيرا , عبّر عنه الشاعر بالنقطتين , و قد استخدم الشاعر نفس التقنية , في أكثر من موضع بالديوان , و لكنها من أفضل ما يكون في قصيدة ( جرعة وطن ) حينما قال :
( من منكمو يحبّها مثلي أنا )
وهذه الأغنية في الراديو ...أما البطل فيقول :
مث ...لي ...أن .....؟!!
و تقطيع البيت بهذا الشكل , يعبر عن فراغات زمنية , يوحي بحالة خروج الروح – روح هذا الرجل , الذي تعاطى جرعة زائدة , من شئ خطير اسمه وطن .
و زيادة الفراغ الزمني بعد حرف النون من كلمة " أنا " التي لم يكملها الرجل فعليا , يعبر عن موته و يختم الشاعر الجملة بعلامة استفهام و علامتي تعجب و كأنه يسألنا ...ماذا حدث للرجل ؟...فقد أجاد الأستاذ عادل , بكل تأكيد استخدام علامات الترقيم و النقط ...و نعود إلى حصة التاريخ
بدأت المواجهة بين المدرّس و الموجّه يقول :
لقيت موجه مادته
دخله فورا حصته
و شده من كول بدلته
بيهدده....تصاعد درامي ممتاز
بيقوله ايه ..احترس
ماتجيبش سيرة قدسنا
يعني اتخرس
و خلّي موضوع الحصص
عن رقصنا ........إخفاء الحقيقة و تغييب الوعي
و يقول الموجه / رمز السلطة معلنا سر القوة العظمى المهيمنة على قرارات حكامنا :
( يعلوها سطح الكونجرس )
يعني اتوكس
ما تقولش حاجة عنّها
ده لأنها
ما تهمناش دلوقتي
سيبك منّها
هنا يبرز التخلي عن قضيتنا الجوهرية , و يصبح الوعى العام غائصا , في الملذات و التفاهة و الجنس :
مناظر الرقص الخليع
عقلك يضيع
و الإعلانات الهادفة
لو مقرفة..
أهي يعني لحمة بتشغلك
و تهمّلك أفكار كتيرة بتقتلك
والنتيجة المؤكدة لنظام تعليمي فاشل و مجتمع بهذا الفساد هي :
و أهم شئ في مهنتك
يطلع صاحبنا في حصتك
ما يعرف الليل م النهار
هوّه كده..خليه حمار
و يطرح الشاعر قضية الدروس الخصوصية , و الجري وراء لقمة العيش , فالقضية معقدة , و كأننا سقطنا داخل شبكة عنكبوت , و يصعب علينا الخروج منها و النجاة .
و في قصيدة ( صيام الأقصى ) يعرض الأستاذ عادل نفس الصنفين من الناس الموجودين في قصيدة ( حصة تاريخ ) , الصنف الأول : من باعوا كل شئ و باعوا التاريخ و القضية , و الصنف الثاني : يمثّله الشاعر , و هم الحالمون بفجر جديد و أمل مشرق ...يقول الشاعر :
خايف عزمي ف يوم يتكسّر
لما الأكل قصادي يفوت
أصل الناس
ف الأرض التانية
دفعوا تمن الأكل سكوت
لكن الشاعر له موقف مختلف , و لن يفطر ساعة الغروب مثل الناس التانية يقول :
أصل أنا عكس العالم كله
ح افطر لمّا
الفجر يبان..
و عنوان القصيدة ( صيام الأقصى ) يتكون من كلمتين متجاورتين , و هما مضاف و مضاف إليه مما يفيد أننا أمام حالة مختلفة من الصوم , و هذا شيء له دلالته , لا سيّما إذا رأينا نفس النمط من العنونة , شائعا في أكثر الديوان , و انظروا معي إلى عناوين القصائد الآتية :
صرخة أم –نخلة الصبر- حصة تاريخ – صيام الأقصى- جرعة وطن – بعث أمّه – جزيرة العجايب – جوه السجون – برئ وراء القضبان ..." تسع قصائد " .
و بعض القصائد عناوينها تتكون من نعت و منعوت مثل :
الحمل الكاذب – الوطن المبتور – الصراخ المكتوم – العزاء المفروض – العدل الفرعوني ... "خمس قصائد "
ربما يكون لعنونة القصائد بهذين النمطين , في الغالب له دلالة فنية ..من حيث كونها ترمي إلى التحديد أو التخصيص و توضيح المعني , كما رأينا من عرضنا لدلالة عنوان " صيام الأقصى " .
و ربما يكون له دلالة نفسية واجتماعية , حيث ان الشاعر يميل إلى التجمع و الوحدة , أكثر من الوجود بمفرده ...و ربما للمدينة – الاسكندرية – و للعمل الجماعي , تأثير في الميل إلى هذه العناوين , و الشاعر وحده هو الذي يستطيع أن يخبرنا إن كنتُ محقا أم أن رأيي خاطئ .
و أرى أن عنوانا مثل " العدل الفرعوني " يثير فينا تناقضا , حتى قبل أن نقرأ القصيدة فالعدل يتناقض جوهريا و بداهة مع حالة الفرعنة ...و أتساءل : هل يكون الفرعون عادلا ؟أعتقد الجواب : لا ...يقول الشاعر :
و ناس عايشه ف إيوان كسرى
ملايينها بتتهرب في سرّيه
على سويسرا
وناس ف العز منقوعة
و ناس في الفقر مزروعة
و ممنوعة تبص لفوق
و ناس بتفوق عشان تسكر
و ناس من سكرة الدنيا
ماهيش بتفوق !
أليس عنوان القصيدة دالاّ على ما في مجتمعنا من تناقض و انعدام المنطق ؟!وضعنا الشاعر أمام هذا التناقض الصارخ , بحرفيّة عالية و ذكاء شديد , من خلال استعراضه لحالة أبناء الوطن الواحد , حيث نرى أناسا في أعلى عليّين , و آخرين في أسفل سافلين , و كما يقول الشاعر: " زي الدود " .
و قد أحسن الشاعر باستخدامه " إيوان كسرى " و هذا ينم عن ثقافته العربية , فقد كان إيوان كسرى شيئا يفوق الخيال , بالنسبة للعرب القدماء , و فيه من الكنوز و العجائب ما فيه !
كما أعجبني جدا صورة حالة السُكْر , التي فيها الشعب , حيث نجد صنفا يسكر من اللذة , و الصنف الثاني سكران من الأسى و المعاناة...و لفظة " السكرة " التي استعملها الشاعر تدل على الحيرة و التخبط و الألم الشديد " مثل سكرة الموت " و قد أحسن الشاعر استخدامها بكل تأكيد .
و الشاعر يستخدم النون الإسكندرانية كثيرا " و لهذا دلالته بدون شك "...و لا نجد هذا إلا بين أصحاب البلد الأصليين... فانظروا إليه يقول :
و راح نعمل أنا نوحك
وحابني سفينتي في الشارع
و عايزك تسخري منّي
و شئ واحد مطمّني
بإني حنرسي ع الجودي
و قد تكررت هذه النون , في أكثر من موضع بالديوان , و هي سمة من سمات أستاذ عادل و لا شك في ذلك .
و يستخدم الشاعر القصة القرآنية , في اقتباس أو تناص جميل , و قد أجاد شاعرنا الاقتباس من القرآن و الحديث الشريف , في أكثر من موضع بالديوان , و قد اقتبس في النموذج السابق قصة سيدنا نوح - عليه السلام - و الطوفان ...و كأن الشاعر كان يحلم بالثورة , منذ وقت كتابة القصيدة في عام 2006 فبعد الظلم و الظلام , لابدّ من عودة العدل و النور من جديد ...و قد حدثت الثورة , و تحققت النبوءة , و لكن هل تنجب البذرة , واحدا كما وصفه الأستاذ عادل :
يكون أشبه ( بأبو أسماء )
( أبو حفصة )
أمل بتمنّي يتحقق
لكن خايف !
و أشهدكم أني خائف , مثل أستاذ عادل و أكثر ...فالحلم قد يتحول فجأة إلى كابوس :
و اشوف قدامي من تاني
شبيه .. فرعون ...
و في قصيدة " نخلة الصبر " نرى حالة من التعادل الموضوعي , بين النخلة و الوطن .الوطن الذي يضن على بنيه بالخير , و يهنأ به الآخرون و رغم ذلك يقول الشاعر :
رغم البرودة ف ضمّتك
رغم الفتور ف معاملتك
الكل يعشق ضلّتك
ألم يقل أحمد شوقي – أمير الشعراء - :
أحرامٌ على بلابله الدوحُ
حلالٌ للطيرِ من كلّ جنسِ
يبدو أن هذا قدرك يا مصر !!
و في قصيدة " الحمل الكاذب " نجد الشاعر على وعي تام بالصراع بين العرب و إسرائيل , و على وعى تام – و هذا دأبه – بالمؤامرة الدولية , و التخاذل العربي , و لكنه واثق من أن أرضه و حقه سوف يعود :
و رحت بشكوى لخواتي
لقيتهم في العسل نايمين ...هذه حال العرب !
و قلت المحكمة الكبرى
تجيبلي حقي م الظالم
أتاري المحكمة عارفة
و قاضي الجلسة كان عارف ....بل إن القاضي كان منهم !!...و هذه حال المجتمع الدولي !
أما الأمل الوحيد هو :
نهايتها... على إيديّه
و عندي ولاد تجيب حقّي
و أرضي ف يوم تعود ليّه ...
عندي توضيح صغير , بشأن جملة كتبها الشاعر يقول :
ما هي فاتحالهم الأبواب
على الغارب
نقول : ترك الحبل على الغارب , و الغارب في اللغة أعلى سنام الجمل , و قولنا ترك الحبل على الغارب , كناية عن الطلاق – الحرية - أي اذهبي حيث شئت , و الأصل فيه أن الناقة إذا رعت و عليها الخطام , ألقى على غاربها , لأنها إذا رأت الخطام , لم يهنئها شئ , أي لم ترع العشب بحريّة و طلاقة ( مجمع الأمثال – الميداني ...بتصرف يسير ) , وقد استعارها الكاتب للباب ليدل على حالة الانفتاح الشديد , و عدم التحفظ في اختلاط الأنساب و الأجناس , فلا بأس بفعله هذا , لأنه لم يخلّ بأصل اللغة .
و انظروا معي إلي قصيدة " الحية و القرصان " , و كيف تأثر الشاعر بقصة سيدنا موسى - عليه السلام - و تحول عصاه – بأمر الله – إلى ثعبان , يلقف ما يأفكون , و قصة السامري و عجله يقول :
واحنا لا حول ..ولا
و لا حتى ح نجيبله الولا
اللي بعصايته يغلبه
( و تلقف ) اللي يحدفه و بيجلبه
ما ولّى عصر الأنبيا
واحنا بذكاء الأغبيا
صدّقنا إفك ( السامري )
وسجدنا للعجل الذي
صنعه بدهبنا و نفطنا
في عدد قليل من الجمل , استخدم الشاعر بمهارة , قصتين من قصص القرآن , ثم و بعدها في نفس القصيدة يقول :
و الرب قال ( إن تنصروه )
ثم يقول :
( يا خير أمّه أخرجت )
و يقول متأثرا بحديث الرسول - صلى الله عليه و سلم – حديث الغثائية , حيث نحن كثير , و لكن بلا جدوى , يقول :
مع إننا ..
كترة ..و لكن ( كالغثاء )
و يتساءل :
فين الذكورة اللي تحبّل أرضنا
و تجيب ولد..يخشى الإله
و يحيي أمه ..للأسف
موتى علي قيد الحياه
استخدام جيد لكلمة " الذكورة " في هذا السياق , و إن كنت أرى من الأفضل , استخدام كلمة الرجولة , فهي أشمل و أقوى , في الدلالة , فكم من الذكور , لا تجعلهم ذكورتهم رجالا , و هم من وصفهم الشاعر , في قصيدة " اغتصاب " حيث يقول :
و دي أي جنة يخشّها ؟
( ديوث ) ما يعرفش الشرف
جتنا القرف
نسينا ديننا و ربنا
و خذلنا فينا المصطفى
و الآخره بعناها بقروش
مايهمنا غير العروش
ويصف الشاعر هؤلاء الأشخاص – عديمي الرجولة - في قصيدة " الحية و القرصان " يقول :
معظمنا راحوا اتفرّجوا
قلعوا العقال..اتفرنجوا
على بعض قاموا اتجرأوا
واتفرّقوا...بقينا عود
جوانا حزمة أسئله
فالسلبية و عدم الشرف , ليست من صفات الرجال الرجال .
و لا أملك سوى الإعجاب بجودة التناص , مع الحدوتة الشعبية المعروفة , حين أتى رجل على فراش الموت , بأبنائه ليعلمهم , معني و أهمية الاتحاد , و أعطى كلا منهم عودا ليكسره , فانكسر العود , و لكنهم فشلوا جميعا في كسر حزمة الأعواد , و استطاع الكاتب بحساسية و شاعرية , أن يلخص القصة في أقل عدد من الألفاظ , و في صورة شعرية أخاذة , فقد جعل العرب , بمثابة الأعواد الخشبية الضعيفة , بفعل فرقتها , كما أن الجرس الموسيقي , الذي يحدثه الجناس الناقص بين ألفاظ – اتفرجوا..اتفرنجوا..اتجرأوا , كل هذا يجعل المتلقي , يتفاعل مع النص الشعري بطرب بالغ .و يحدثنا الشاعر في ديوانه , عن بوش و حرب العراق و عن كوندوليزا رايس و رامسفيلد و عن عدم المساس , و هذا يعبر - بلا شك - عن وعي الشاعر بالأحداث الجارية و التاريخ .
و قد كتب الشاعر سلسلتين من القصائد : السلسلة الأولي عنوانها حروف و دموع... و السلسلة الثانية بعنوان خرا – بوش و كل سلسلة منهما عبارة عن مجموعة قصائد , أتت تحت عنوان مشترك , و لكل قصيدة عنوان فرعي- بين قوسين - و أظن أن السلسلة تعبر عن استمرارية الحالة الشعرية , أو استدعائها في اوقات مختلفة فمثلا خرا – بوش تواريخها هي :
1- بيتك بيتك 5-4-2003
2-الغول 15-4-2003
3-الروبوت 28-4-2003
4-إيه غاصبني 21-2-2007
نحن إذا أمام حالة من الاستمرارية الواقعية , و الاستمرارية الفنية , عبر عنها الشاعر كأفضل ما يكون من تفعيلتين ( بحر المتدارك – فاعلن , بحر الرمل – فاعلاتن ) و هما قريبتان من بعضهما مما يؤدي بنا إلى حالة من الوحدة الموسيقية , أو على الأقل , عدم الشذوذ بدرجة كبيرة .
و قد أجاد الشاعر استخدام الحروف – و أظنه يحب هذه الطريقة – في أكثر من قصيدة ... بحيث يكون لكل حرف دلالته , أو تتجمع الحروف معا في كلمة لها دلالة , و ارتباط وثيق بالمعنى و المضمون , المطلوب توصيله , مثلا يقول الشاعر في ( حروف و دموع ) :
و الإيدين مرفوعة تطلب
(حاء و قاف )
اتبتر منه اللسان
و يقول فيها كذلك :
( دال .. و ميم )
اللي زي السيل بينزف من سنين
و يقول في ( العدل الفرعوني ) :
ما عاد يؤمن
ولا بميمك و لا بصادك
و لا برائك
و لا يعمل بآرائك
و هكذا في أكثر من موضع بالديوان ...
و نأتي في ختام قراءتي النقدية , إلى درة العقد , و جوهرة التاج ( جرعة وطن ) , نعم هذه القصيدة من أجمل ما قرأته على الإطلاق , و مهما أتحدثْ , عن جمالها , و إحساسها , و شاعريتها , فلن أوفيها حقها , و لذلك سآتي بمقاطع منها , على سبيل المثال :يرسم ملامح بطل المأساة و حياته كالآتي :
فوق اللي فاضل
من حصيرة فرشتي
مددت رجلي المتعبة
و رجعت بالضهر لورا
و ايديه خلفي مشبكة
دارت عنيه بدمعها
تفحص حيطاني الاربعة
ف اوضه ارضي مخربقة
و حارة تنفر رملها
مع كل خطوة مسربعة
لابن الجيران
تعمل موسيقى ع الورق
جنب الحيطان
و يخبرنا عن وجدان الرجل و عقليته :
و رموز لمصر الخالده
صوره قديمة للهرم
و النيل كمان
فوق منهم
صورة ( جمال )
و رف شايل كام كتاب
هلكان و مال
ثم حالة الاحتضار :
و أقول خلاص حان الاجل
و العين تحس بزغلله
و احس صدري بينقبض
آخد شهيق
بتراب و فيه ريحة البلد
تزفر عنيه بالدموع
ثم حالة الوجد و العشق للوطن , رغم الشقاء و المعاناة :
و يجيني صوت راديو الجيران
واسمع بقى
( مصر التي في خاطري و في فمي )
ما عرفش ليه ..رغم الشقا
( أحبها من كل روحي و دمي )
و الوعي السياسي :
مكتوب عليه !!
( عدم المساس )
و وعود ماليها
أي صحة من الأساس
تاريخه من عشرين سنة
أبلع ف ريقي اللي ساعات
بيمرّره تصريح سخيف
ثم الحكمة و المثل :
( الصبر مفتاح الفرج )
و كنت صابر ربما
ييجي الفرج
و حالة الفقر المدقع و الجوع الشديد :
واسمع لجلد البطن صوت
لما افتكر شئ من رغيف
فاض من فطار يوم التلات
و امد ايدي ننفضه
من نمل عشش و بات
يكسر صلابة لقمتي
ثم الموت :
أصل الطبيب حدد و قال
آخره الخميس
يعني النهارده ..و قول ساعات
و ح ينتهي مرضي الطويل
اللي انكتب فيه صفحتين
تقرير لمدمن مات حقير
سطره الاخير
فيه كلمتين
( تعاطى جرعة زائدة
من شئ خطير
أنهى حياته البائسة )
و بحبر تاني مختلف
كان بين قوسين
( شامم وطن )
و لسه صوت
راديو الجيران
جوه الودان
بيقول غنا...
كان الأجل لحظتها حان
آخر نفس
ردد معاه
( من منكمو يحبها مثلي أنا )
مث...لي أن.....؟!!
و انظروا معي إلى استخدام كلمة " شئ " إنه استخدام رائع , حيث ان الوطن لا يعني الكثير في ذهن الخونة , لدرجة أنهم يقولون عنه " شئ " و جاءت كلمة شئ نكرة , للدلالة على التفاهة...
و لكن الوطن ليس شيئا تافها , و لا قليل الشأن , أيها الجبناء الخونة ..
و في الختام أقدم التحية و الشكر لشاعرنا الجميل , فهو رجل وطني مخلص , لقضايا الأمة , بأسرها , التي نسأل الله , أن تعود لسابق عهدها , أيام العزة و الأمجاد , و أن نعود خير أمة أخرجت للناس .
لكم كل الشكر على حسن الاستماع . و تحية من القلب للأستاذ " عادل عوض سند " هذا الشاعر الرائع..
عاطف عبد العزيز الحناوي
تم الفراغ من كتابته في :
الاسكندرية في 9-7-2012
19 شعبان 1433
ألقيت هذه الدراسة في نادي شباب العضايمة في حفل توقيع ديوان جرعة وطن للشاعر الكبير عادل عوض سند 18-7-2012