قراءة في قصيدة أشواق الجازورينا للشاعر عاطف الجندي
***********************************************
أول ما لفت انتباهي للقصيدة التي بين أيدينا الآن عنوانها و كما يقولون في المثل الشعبي السائر – الجواب بيبان من عنوانه – فإننا أمام عنوان شعري و أمام حالة من التوحد مع الطبيعة و استلهامها .
شجرة الجازورينا كما عرفها الشاعر :" شجرة باسقة تنمو على ضفاف الترع في الريف المصري " و يقول عنها الزراعيون : الجازورينا أو الكازورينا أفضل مصدات الرياح و بذلك فهي تحمي الأرض الزراعية من خطورة زحف الصحاري عليها .. و كأني بالشاعر و هو يقاوم الدنس كأنه جازورينة تقاوم الفساد و التصحر فنراه يقول :
أنا ( جازورينٌ ) عائدٌ
لشطوط دفئكِ
يا فتاة , فطهّريني
من ذنوب الإفكِ و ارو قلبيَ
المحروم من صبحٍ نقي
انظروا لهذا التوحد مع الطبيعة كعادة الرومانسيين الكبار فالشاعر يفهم لغة الوجود كله و يتفاعل معه و كأنهما – أي الشاعر و الطبيعة – انعكاس لبعضهما البعض .. و انظروا لهذا الذكاء الشعري – الذي منبعه صدق التجربة – حين قال : ارو قلبي المحروم هنا نحن أمام معنيين :
أولهما : أن الشاعر محروم من الصبح النقي و أن الفتاة سوف ترويه من شئ يذهب عنه هذا الظمأ و هذا الإفك
ثانيهما :أن الشاعر محروم من شئ لم يخبرنا عنه مباشرة في القصيدة – بل أخبرتنا عنه صوره و ألفاظه – و من ثم فإنه سوف يُسقى من الصبح النقي الذي سيمحو عنه هذا الظمأ .
و أظن المعنيين متكاملين و ليس فيهما من تعارض .
و أرى أن الصور الشعرية – من استعارات و كنايات و مجازات – و هي صور جزئية رسمها الشاعر ببراعة حتى إنها تكاملت من أجل إخراج صورة كلية و إنتاج دلالة و معنى كبيرا أراده الشاعر , فكل مقطع في القصيدة كأنه لون رسمته فرشاة فنان قدير يتجاور مع ما جاوره من ألوان لإخراج لوحة جميلة مليئة بالحركة و الحياة , و حسبك الاستشهاد ببعض الألفاظ الموحية و الصور المدهشة في بساطتها و طزاجتها – و أقوى ما في العبقرية بساطتها فانظروا معي هذه الكلمات : " القرى , نافلة , فرض , صلاة الروح , سماء القلب , شامخة , ضياءك , القمر السنيّ , الدفء , أنسام , زهرة ...." كل هذه الألفاظ و غيرها في القصيدة لها دلالة نفسية عميقة بكون الشاعر يهفو إلى أيامه الأولى – و هو ابن القرية كغيره من الشعراء أصحاب البصمة الشعرية المميزة و لا فخر - حيث الطهارة و البراءة و الصداقة و الصدق و الدفء و هذه المعاني التي نفتقدها كثيرا في زحام الحياة في المدينة – التي هي بلا قلب على حسب تعبير أحمد عبد المعطي حجازي .
و إن كان من مأخذ – و لعلي أكون مخطئا – فإنما هو في قول الشاعر :
ما مرَّ فى هذا الطريق ِ
سوى الصديق ِ
و بسمة ٍ
بالطيب ِ فاغمة ٍ
كلمة " فاغمة " و رغم أن معناها اللغوي سليم ( حيث جاء في المعجم الوجيز : أفغم البيت : ملأه طيبا , و الفَغْمَةُ من الطيب : رائحته ) إلا أني شعرت بكونها غريبة عن القصيدة و جوها الهادئ من الناحية الصوتية فحرف الغين كما يقول لسان العرب : باب الغين المعجمة : الغين من الحروف الحلقية ومخرجها من الحلق ، وهي أيضا من الحروف المجهورة ، والغين والخاء في حيز واحد ... و أمر التنافر الصوتي و علاقته بالبلاغة و الفصاحة و استخدام الصوتيات في النقد الادبي أمر يحتاج إلى مزيد من البحث ... ربما يتاح لي الوقت و القدرة للقيام بها فيما بعد إن شاء الله ( و إن كانت هذه الظاهرة قد تمت دراستها في التراث العربي كما ذكر ذلك الكاتب المغربي الدكتور عبد الحميد زاهيد في كتابه " الصوت في الدراسات النقدية والبلاغية التراثية والحديثة عرض ونقد - دراسة صوتية " ) .
و يكثر الشاعر من استخدام المضاف و المضاف إليه في علاقة جمالية واضحة يقول مثلا :
هذي مآذنك البعيدةُ
في سماء القلب شامخةٌ
و هذي الارض تعرف من أكون ...
فالسماء و هي المنفتحة و اللانهائية منسوبة و مضافة إلى القلب فكم يبلغ اتساع هذا القلب و ارتفاعه ! و كأن السماء تكتسب التعريف من القلب و قبله كانت مجرد شئ نكرة ! " حيث أن سماء – نكرة – صارت معرفة بإضافتها إلى القلب – معرفة بالإضافة "
و يقول :
ثوب الطفولة ....
و يقول :
جلبابَ أغنيةٍ قديماً
يحتمي فيه الصبيّ
انظروا لهذا الاستخدام المجازي المدهش في قوله : جلباب أغنية قديما و هذا الصبي الذي يحتمي في هذا الجلباب !
و قد أحسن الشاعر – و هكذا دأبه – في استخدام المفردات البسيطة المستمدة من الحياة اليومية الريفية يقول :
هذا أبي
و نوارجٌ
و مناجلٌ
تهمي إليّ
انظروا إلى براعة التصوير و بساطته و كأن النوارج و المناجل " أدوات زراعية " ذرفت دموعها عندما رأت الشاعر ...أرأيتم هذه العلاقة بين الشاعر و الطبيعة ..إنها علاقة عشق و توحد و اشتياق و حنين فالأرض تشتاق إليه وتعرفه كما أن أدوات الفلاح ذرفت دموعها شوقا إليه – و هذه استعارة جميلة – و لو كان الشاعر هو الذي ذرف دموعه لكانت جملة عادية تخلو من كل جمال شعري .
و يقول الشاعر في مقطع آخر من القصيدة :
و دخان جارتنا
رغيفٌ طازجٌ
و طقوس هذه القرية الحسناءِ
مفتتحٌ نديّ
هل نشعر بالتكلف و اللف و الدوران حول المعاني ؟..... بالطبع لا فإن الشاعر يدخل لما يريد قوله مباشرة و دون غموض و دون تكلف و كما قلت سلفا – منبع هذا الصدق الناشئ عن صدق الحالة الشعرية – كما ان موسيقى القصيدة و هي من بحر الكامل موسيقى عذبة و هادئة و كما يقول إدجار ألان بو :" الشعر هو خلق الجمال الموزون " مؤكدا بذلك على أهمية و حضور الجانب الإيقاعي للغة الشعرية و هذا نفس ما ذهب إليه العرب و نقادهم من قديم الزمان حيث التاكيد على أهمية موسيقى الشعر – الوزن ... و يا ليت قومي يعلمون !
أقول في الختام : نحن بإزاء نص شعري تحققت فيه و ظهرة بقوة و تماسك كل عناصر العملية الإبداعية فوجدنا التجربة الشعرية و وجدنا اللغة الشعرية و الخيال الشعري و فوق ذلك كله شعرنا بأصالة هذا الأديب – عاطف الجندي – و صدقه الفني كأوضح ما يكون في هذا النص – أشواق الجازورينا .
و اخيرا أقتبس من الشاعر قوله :
يا أيها الولد الذي
عشق الجمال
و كانه
يا أيها الحلم العصيّ
نعم يا أستاذنا .. أنت هذا الولد الذي عشق الجمال و حقّقه و قصائدك حلم عصي عزّ أن يصل إليه الكثيرون ممن يدعون لأنفسهم و يزعمون أنهم مبدعون ... ويا ليت قومي يعلمون !
القصيدة :
أشواق الجازورينا
***
شفَّ التراب ُ
عن التراب ِ الحرِّ
فارتبكت دموعي
لم يكن إلاىَ وحدي ..
و الطريق ُ إلى القرى
سفر ٌ و نافلة ٌ و فرض ٌ
في صلاة الروح ِ
أو ذكرى نبيْ
***
هذى مآذنك ِ البعيدة ُ
فى سماء القلب ِ شامخة
و هذى الأرض ُ تعرف ُ من أكون ..
و لن أكون َ سوى ابتدائك ِ
لم أكن إلا ضياءَك ِ
يا سماءَ الوجد ِ
و القمر السَّنيْ
***
هذى مداخلك ِ الحبيبة ُ
تنتشي
و المسجد ُ الشرقيُّ
يفتح ُ حِضنه ُ
و الداخلون َ ، الخارجون َ
الخارجون َ ، الداخلون َ
يسِّلمون الدفءَ
في طهر الوليْ
***
ما مرَّ فى هذا الطريق ِ
سوى الصديق ِ
و بسمة ٍ
بالطيب ِ فاغمة ٍ
و أنسام ٍ
- من التاريخ ِ - قادمة ٍ
تثير كوامن َ الأشواق ِ
تبعث ُ زهرة ً
- هِمْنا بها -
ترتد من عبق ٍ قصي
***
و الدرب مشدوه ٌ
إلي وقع ٍ أثير ٍ
و المدى في الروح ِ عذب ٌ
من حقول الحنطة السمراءِ كنت ُ ..
و كنتُ في ثوب الطفولة ِ
أرتدي
جلباب َ أغنية ٍ قديمًا
يحتمي فيه الصبيْ
***
هذا أبي
و نوارج ُ
و مناجل ٌ
تهَْمي إليْ
***
و دُخان ُ جارتِنا
رغيف ٌ طازج ٌ
و طقوس ُ هذى القرية ِ الحسناء ِ
مفتتح ٌ نديْ
***
نفسُ الرُّغاء ِ أو الثغاء ِ
و صوتُ محراث ٍ
يشقُّ رتابة الأيام ِ
بالثور الفتيْ
***
و أراك َ تجري
عندما انتفض الصراخ ُ
و نوَّحت ْ
أمي عليْ
***
يا بسمة َ العمر ِ الذي
قد ضن َّ
بالبسمات ِ ليْ
***
يا أيها الولدُ الذى
عشق َ الجمال َ
و كانه
يا أيها الحلم ُ العَصي
***
إن الحياة جميلة ٌ
أين انتباهُك َ
قد تموت ُ إذا انتظرت َ
أمام َ جبار ٍ عَتيْ
***
و الثور ُ منطلقا
يثيرُ الأرضَ
يرتجل ُ انتقامًا كالغبيْ
***
يا أمَّنا
يا أم ُّ لم يكن اضطرابك ِ
غيرَ ناقوس ٍ يدق ُّ
بنبض ِ قرآن ٍ لديْ
***
يا أمَّنا
يا أمُّ لا تتخيلي
وجعي على وجع القصيدة ِ
ينزفان ِ على المدى
قمرًا طفوليًا
سقانا بسمة ً
و سقته ُ من
عسل ِ القلوب قبيلتي
و انداح في رئتي
عبيرًا سرمديْ
***
لا تحسبيني
قد نسيت ُ كما نسِيت ِ العابرينْ
أو لم تكوني
توأمي في الجُرح ِ
قافية َ القصيدة ِ
وابتداءَ توهجي
و بكارة َ الشفة ِ التي
رضعتْ حليبَ صفائِها
من كرمة الدَّوح ِ الجنيْ
***
أو لم تكوني
بسمة َ الإصباح ِ
مُحسنة َ الظلال ِ
و ناىَ أغنية ٍ
يعيد ُ العمرَ للعصر ِ النقيْ
***
أنا ما نسيتك ِ
فاذكريني
مثلما ذكرت عيونك ِ
حقل َ قمح ٍ
أو ثمار التوت ِ
فى وله ٍ سَميْ
***
أنا ما نسيتك ِ
فاذكريني
إنني مازلت ُ
فلاحًا
- برغم تغيِّر الأزياء ِ -
منبهرًا
بطينك ِ المنقوش ِ في سمتي
قوىَّ الزند ِ
أضرب ُ فأس أحلام ٍ
و أنتظرُ الخفيْ
***
أنا ( جزورين ٌ ) عائد ٌ
لشطوط دفئك ِ
يا فتاة ، فطهريني
من ذنوب الإفك ِ و اروي قلبي َ
المحروم َ من صبح ٍ نقي
***
وضعي يمينك ِ
في يميني َ
رجعي سمتي إلي !
***
* الجازورينا : شجرة باسقة تنمو على ضفاف الترع فى الريف المصري
عاطف عبد العزيز الحناوي
الاسكندرية
8 ربيع الآخر 1434
18 فبراير 2013