فى سجنا ما من السجون الكثيرة المبعثرة على خريطة الكرة الأرضية وفى كل بقاعها وفى كل بلد فيها حتى وكأنه صار لكل كائن حي فى هذا العالم زنزانته الخاصة فى تلك السجون.
فُتح باب الزنزانة وكان لها صوتً عجيبً وكأن الباب يصرخ، دخل الجندي ليجر رجلا قابع فى ركن من أركان الزنزانة ، الرجل علي هيئته وقار رغم قسوة السجن التى أضفت على ملامحه مسحة زينة ، الزنزانة أضيق بكثير من أن يقال عنها أنها ضيقة ، قام الرجل ليسير مع الجندي فى إستسلام عجيب وكأنه على علم مسبق بهذه الجولة ، أو لو يملك أن يعترض ، حتى توقف الجندي أمام غرفة ففتح بابها ودفع الرجل إليها برفق ثم أغلق خلفه الباب
غرفة واسعة جدا حتى لا تملك العين ان تحدد إتساع أركانها بسبب ذلك الظلام الذى يخيم عليها الا من ضوء ذلك المصباح الصغير فوق مكتب اصغر ، يجلس خلفه رجلا هادئ وبجواره جندي ، أمام المكتب كرسي صغير .
توجه الرجل بعدما اشار اليه من خلف المكتب بالجلوس ، الجالس خلف المكتب رجلا هادئ لدرجة البرود كلوح الثلج ملامح وجهه كأنها نحتت من أحجار ، رمق المحقق الرجل بنظرة قاسية تنم عن التحدي والاتهام .
وجه المحقق كثير من الأسئلة العادية التى اجاب عنها الرجل بكل يسر وسرعة ثم ذكر له عدد من الأسماء فأنكر الرجل معرفته بأي من اصحابها ، فسأله عن أسماء أخري فنفي الرجل، كانت لهجة المحقق كانت قد أخذت مجري التحدي وكرر المحقق على مسامع الرجل نفس الأسماء مرة ثانية وكأنها رسالة مسجلة يستمع اليه الرجل أو كأن المحقق لم يستمع الى انكار الرجل ونفيه ، وكرر الرجل نفس الاجابة .
نظر اليه المحقق ثم ابتسم ثم ضغط زر امامه فى المكتب فانفتح الباب ودخل الي الحجرة اربعة رجال طوال القامة حتى ان الواحد منهم كان ينحني حتى يدخل من الباب ، وقفوا امام المحقق فنظر اليهم قائلا أنه بريئ ، توجه الرجال الأربعة نظرهم إلى الرجل قائلين له تفضل مشيرين بايديهم الى الباب ، نظر الرجل الى المحقق والي الرجال الأربعة وإلى الباب ثم الى المحقق قائلا له اقسم لك لا اعرف اى من الاسماء التى ذكرت ، اشاح المحقق بوجهه عن الرجل ، مما زاد الرجل غضبا وتحدي ثم قام واقفا وانصرف مع الأربعة يجر رجليه وكأنه ذاهب إلى الموت ، خرج الرجل خلف اثنين وخلفه اثنين وأغلقوا الباب خلفهم .
مالبث قليلا حتى انفتح الباب ودخل الأربعة بينهم الرجل فاجلسوه على الكرسي الصغير الذى امام المكتب ثم أستداروا خارجين ، نظر المحقق الى الرجل وكرر على مسامعه نفس الأسماء غير كترث بتلك التغيرات التى طرأت عليه وعلى وجهه فقد تغيرت ملامحه واتسخت ملابسه ببقع حمراء بعد هذا الخروج المفاجئ مع الأربعة ولكنه فاجئ المحقق بنفس الاجابة ، فنظر اليه المحقق نظرة حاقدة غاضبة وكانه بينهما ثأر قديم قائلا له ، اني اليوم متفرغ لك تماما ولن تغرب الشمس حتى تلقي على هذه ( واشار الى اذنه ) ما أريد أن أسمعه منك ، وضغط على الزر .
خرج الرجل ودخل الى الغرفة كثيرا حتى تغيرت ملامحه بالكلية ولون ملابسه حتى انه لا يقدر ان يجزم معرفته بلونها السابق ، خارت قواه وذهب ذلك التحدي من عينيه ولكن حل محله نظرة عجيبة لم يتبينها المحقق من اللون الأزرق الذى ألتف حول عينيه فجأة بعد خروجه ودخوله المتكرر ، كرر المحقق نفس الاسئلة مع ابتسامه من شارف على معانقة النصر واشار الى اذنه بحركة استفزازية غبية ، اشار الرجل بايماءة الايجاب فزادت ابتسامة المحقق وهز راسه يمينا وشمالا مبتسما ثم اشار
الى اذنه ، قال الرجل نعم اعرفهم ولكن بصوت خافت لا يكاد يسمعه المحقق ولا حتى هو ، قال المحقق لم اسمع واستدار بجانب وجهه الى الرجل معطيا اياه اذنه ، كان الرجل لا يستطيع ان يتحرك او يقوم من مكانه ولكنه قام بصعوبة شديد واقترب من المحقق ثم ، ثم باغت الرجل المحقق بحركة لم يكن يتوقعها ابدا .
التقم الرجل أذن المحقق مطبقا أسنانه عليها بكل ما أوتي من قوة ، قام الجندي مسرعا يضرب الرجل يلطمه يدفعه ولكنه وكأن أسنانه التصقت باذن المحقق فدخل الي الحجرة الرجال الأربعة وكانت المعركة ، سرعان ما ابعدوا الرجل باسنانه عن وجه المحقق وأذنه .
لم يترك الرجل أذن المحقق ولكن تركت أذن المحقق وجهه ، صرخ المحقق وابتسم الرجل وتغيرت تلك النظرة فى عين المحقق وحل محلها نظرة ألم حتى رآها الرجل فضيعت بداخله كل احساس بالألم وسارت فى جسمه قشعريرة غريبة ونشوة عجية وكأن الألم له رائحة ملئت انفه ، ولها صوت ملئ كيانه حتى انه ابتسم وفتح فاهه وبصق الأذن
.وكان هذا اخر ما فعله فى تلك الليلة ، وبعدها وقع على الارض ، ضربات ، ركلات ، صفعات ، ايادي ملتحمة بعضها ببعض تتسارع حتى تصل الى هذا الجسد الملقي فى الارض الذى غطت الدماء
كل ملامحه وكل كيانه ، كان الرجل قد فقد كل احساس بالألم بعدما تحطمت اسنانه عن اخرها ولم تعد عظمة فى جسده فى مكانها او تحطمت مكانها ، كان ينظر اليهم ولا يشعر باي شئ وكانه صار جسدا بلا روح ، وذهب كل شعور بالالم اى الم ولم يتبقي فى الغرفة الارائحته .