غيبــوبة حـب ..!!
* كنت مغمضة العينين.. رغم ذلك شعرت بنهوضهم الواحد تلو الآخر لاستقبالي.. فقد سمعت أصوات حجارة وطقطقة أخشاب وإزاحة رمال.. كان لابد أن أفتح عيني كي أرى ما يحدث .. لكني لم أستطع .. كدت أستسلم وأظل هكذا مغمضة العينين..!! حاولت ثانية .. كان الهواء الذي يملأ المكان حولي غريب الرائحة.. كانت رائحته تشبه رائحة نبات الصبار..! حاولت مرة أخرى, وإن كانت تلك الرائحة تكاد تخنقني ..حين نجحت في أن أفتح عيني .. أسرعت بإغلاقهما ثانية.. فقد اقشعر بدني ـ وسرى في أوصالي رعباً شديداً.. تقهقرت بسرعة الى الخلف وأنا في غاية الدهشة من ذلك الاستقبال الهائل لي..!! * ما كنت أحسب أن مجيئي إلى هنا في ذلك الوقت المتأخر من الليل لن يشعر به أحد.. وحتي إن أنا كنت قد جئت في الصباح فلن أتصور أن يكون أحدٌ في استقبالي !! أردت أن أفتح عينى مرة أخرى ـ لكني شعرت بخجل شديد أن أفعل ، وأرى أمامي هذا العدد الهائل من النساء والرجال العراه.. العراة تماما ً إلا ٍّمن بعض الأقمشة البالية التي تستر بعضهم.. كيف لي أن أقف أمامهم.. أتحدث إليهم..أوأشكرهم على تلك الحميمية في استقبالي ..؟! إستجمعت شجاعتي ، وتغلبت على خجلي الذي زال بمجرد أن رأيت الابتسامات تملأ وجوههم.. إبتسامات واسعة ترتسم على كل الوجوه... بذلت مجهودا ً وأنا أخرج ذراعي من تحت الغطاء الأبيض ، الذي يغطون به جسدي المسجي.. كان لابد أن أحييهم ـ أو على أقل تقدير أرد تحيتهم البالغة لي، أشرت إليهم بيدي, فاكتفوا بإيماءة من رؤوسهم ، ولم يرفعوا أياديهم ـ فقد كانوا يسترون بها عوراتهم ، التي لا تسترها تلك القطع الصغيرة البالية من الأقمشة. إبتسمت لهم , فأومأوا لي ثانية برؤوسهم ـ وما زالت نفس الابتسامة الواسعة ، ترتسم على وجوههم !! نظرت إليهم جيدا ً.. إقشعر بدني من جديد.. فأشحت بوجهي عنهم ، ثم أدرت وجهي بسرعة .. حين رأيت بطرف عيني ـ واحدا ًمنهم يتقدم مني بخطى ثابتة مستقيمة ـ واضعا ً يديه بجانبه - هو الوحيد الذي يضع يداه بجانبه - فقد كان الوحيد الذي يحتفظ بردائه الأبيض الذي يلف جسده .. حين اقترب مني ، شممت رائحة عطري المفضل ـ رائحة زهر الليمون- مد لي يده ، وضعت فيها يدي ، نسيتها قليلاً في يده التي مازالت دافئة..!! سرى في بدني دفء محبب . حين شعر هو بذلك ، صرخ في وجهي : عودي.. عودي بسرعة من حيث أتيتِ
ثم صمت . بدا هادئا ً للغاية في صمته ، كروحي التي هدأت وتخدرت أوصالي.. فجأة أخذت يده برودة الثلج..!
أخذ يتوسل إلىّ ، ويرجوني أن لا أستسلم لتلك الرقدة المميتة .. فمازالت - كما قال - الفرصة أمامي ، في أن أسترد روحي الهائمة، فوق رأسي ، في انتظار إشارة قوية مني كي تعود لي من جديد.!!
* كانت عيناه مازالتا طازجتين ، مازالتا تحتفظان ببقايا بريق الحياة ، رغم الحزن الذي يملأهما.. ذلك الحزن الذي أثار فضولي ، في أن أسأله ..!
إنتفض حين سؤالي ، وأجاب بصرخة أخرى مليئة بالتوسلات : عودي بسرعة.. لا تموتي.. لا تموتي ..!!
مد لي يدين أخذتا دفء الكون ، أمسك يدى ، ونظر في عيني ، توسل إلى من جديد توسلاً شديدًا ، كدت معه أخجل ، وأوافقه ، لكن كيف لي أن أترك تلك الدنيا الجديدة الرائعة ، التي أراها في عينيه..؟
صرخت : لا.. لن أعود.. لن أعود ، سأظل هنا معك في دنياك ، دنيا الراحة الأبدية الهادئة البعيدة عن عذاب دنيانا ، وتعاستها..!! لقد قررت أن أحيا هنا ـ قررت أن لا أعود ، حقًّا سأفتقد وليدتي ، التي وضعتها لتوي هنا في المستشفي ، التي أتمنى أن تلحق بي ، تنام بجانبي ، تلوذ بصدري ، تضع فمها الصغير فيه ، ترضع حناني ، كل حناني ، وكل حبي الذي لم يأخذ منه أحد بعد!!
* أشعر با لبرد .. فقد جردتني الممرضة من ملابسي ، وألبستني ذلك الثوب الأبيض الذي يربط من الخلف برباط قصير..!!
إقشعر بدني ، شعرت بخجل شديد ؛ حين تذكرت أنني بلا ملابسي الداخلية . أردت أن أسحب يدى من يديه .. فلم أستطع .. فقد بدأت البرودة تتسلل إلى جسدي ..
* أخذ ينظر إلى جسدي ، يتأمله ، يتأمل صدري.. رقبتي.. وجهي الشاحب .. شفتي الأكثر شحوبا ، أثر ذلك النزيف الحاد الذي أصابني بعد الولادة مباشرةً ـ نزيف غزير سالت معه كل دمائي ، أو كله إلا قليلا ً!!
شعرت بيديه ناعمتين على وجهي ، كنت قد أغمضت عيني. يصرخ في وجهي ، يحاول إفاقتي . أفتح عيني ، بلا مقدمات .. أسأله عن اسمه ، فوجئ بسؤالي ، لكنه أجاب بسرعة : اسمي (وسام )
إبتسمت .. علقت على اسمه الذي أعجبني بشدة ،
وقلت : وأنا (وفاء )
سألته عن سنه . قال : كان ثلاثون.
قلت : منذ متى ؟
قال : ربما منذ عام أو ألف عام !!
حين أبديت دهشتي .. صدرت عني (شهقة قصيرة )
صرخ في وجهي ، أمسك بأكتافي .. هزني بشدة..
رأيت الدموع، تتساقط من عينيه.. شعرت بالبرد الشديد أن جسدي في طريقه ليتحول إلى قطعة ثلج ، إقتربت منه .. أستحث الدفء .. أشفق على ، فتح ذراعيه ، وبهدوء شديد سكنت .. إحتضنني بشوق.. أحسست بنبض قلبه ، شعرت بشىء ..!! ربما يكون الحب .. ربما السعادة..لا أدري !
* كنت أقاربه في السن ، تزوجت منذ عامين تقريبًا ، تحت إلحاح أمي التي كانت تخاف من أن يفوتني القطار .
كنت لا أري فيمن تقدموا لي فارس أحلامي ، لم أجد فيهم نصفي الآخر ، لكني تزوجت ..!!
* قال لي أنه انتقل إلى هنا ، إثر حادث أصابه بجرح غائر، ظل ينزف حتى الموت.
حين سمعت كلمة الموت ، شعرت ببرودة تسري في جسدي .. قال لي بصوت يملأه الحنان : عودي يا حبيبتي إلى ابنتك الجميلة ، ضميها إلى صدرك ، معها ستجدين السعادة التي تفتقدينها ..إختاري لها اسمًا جميلا ً قبليها ، داعبيها ،إحكي لها حكايات صغيرة ..!
* أطلقت صرخة ، أسعدت من يلتفون حول سريري الأبيض.. أخيرًا بدأت أفيق من غيبوبتي!!
*أردت أرفع يدي ؛ فلم أستطع ، كان ذراعي ثقيلاً للغاية فقد كانت تنغرس فيه حقنة نقل الدم والمحاليل ، بحثت عن عينيه .. عن دنياه .. لم أجدها ولم أجده !!
دون أن أدري سألتهم عنه : أين وسام..؟
أسرعوا ، أتوا لي بوليدتي الجميلة ، وضعوها فوق صدري ، قبلت يدها الصغيرة ، إحتضنتها .. إحتضنت ابنتي ( وسام ) ، شعرت بسعادة غامرة ، وشعرت أيضًا بشوق جارف ..!!!
********تمــــت********
فاطمة أحمـد