دمعتان لامعتان
كانت تمشي بتؤدة تنم عن وهن شديد حنت الأيام قامتها ورسمت خطوط الزمان آثار الأيام الصعبة التي مرت بها.
هاهي تقصد مقعداً في هذه الحديقة العامة التي تتوسط مدينة حلب . إنها حديقة غناء واسعة وتزداد اتساعاً عندما تضم هموم زوارها وتحتضن أشجانهم ، وكأن أحزان حلب كلها تلوذ بأشجارها التي تحمل بين أغصانها الكثير من أسرار الناس وأحزانهم .
تقدمت السيدة الطاعنة من المقعد الذي أشغله , وتجاوزته إلى المقعد المقابل , برزت أناقتها المتميزة , ومحفظتها السوداء اللامعة ذات الإطار الذهبي والحمالة المعدنية البراقة تزيد من أناقتها .
كنت أحدث نفسي لماذا تزور الحديقة وحيدة .....؟ أين أولادها وحفدتها...؟
كان النسيم عليلاً معطراً بشذا الياسمين وكنت في غمرة متعتي أتأمل جمال الأشجار وتمايل الزهور على أكتاف الزنابق , وأنهض برأسي حتى يصل نظري إلى أعالي الأغصان التي تتوج الأشجار العالية الشامخة , وكأنها تحكي تاريخ أجدادنا الحمدانيين وأمجادهم ..
ثم تغوص نظراتي بين الأغصان المتلاحمة والنسائم العليلة كانت تداعب وجهي وزقزقة العصافير تشغف روحي فتثير البهجة في نفسي , وعندما أطرق رأسي ناظرة إلى الفراغ تعود إلى ذاكرتي أحلام غابت وأمنيات وآمال ملأت روحي فرحاً وحزناً .
فيعتصرني حنين إلى ذلك الحب العقيم الذي سلب مني الأمان وبعثرني بين زوايا الغربة.
أجيل النظر حولي ثانية ... فأرى السيدة الأنيقة تفتح محفظتها ملتقطة من جوفها كتاباً صغير الحجم , وتغرس نظراتها بين السطور غارقة في بحر عميق , فكم كان يطيب لي متابعتها خلسة؟.
الأشجار تبدو مدناً أسطورية تعج بآلاف العصافير والسيدة الأنيقة تتربع على مقعدها ملكة وقورة على عرش الطبيعة الغناء وهي تقلب صفحات كتابها , وذاكرتي عاصفة هوجاء تكاد تنال من صبري , وبصعوبة أكظم رغبة في البكاء.
أسأل نفسي : أيمكن لحب عقيم أن يزهر؟
ولأشلاء ذكريات أن تنتعش ؟ هيهات ....هيهات.
السيدة تجيل النظر حولها تتأمل المكان الرائع وأنا أتأملها .. وهي تطوي كتابها وتعيده إلى مكانه بهدوء يعج بالحزن العميق.
ترى هل لديها عالم دفين يسكن أعماقها مثلي؟.
التقت نظراتنا , ابتسمت لها وعندما بادلتني التحية بابتسامة انتفضت من مقعدي واتجهت نحوها وبادرتها :
• كيف الحال سيدتي؟
• الحمد لله يا بنتي .. تفضلي..
• أرجو أن تكون صحتك جيدة...
• أرجو من الله أن تدوم العافية إلى أن تأتي ساعة الرحيل
تذوقت طعم حزن دفين في نبرات صوتها وتابعت الحديث معها:
• ماذا كنت تقرئين سيدتي
• آه يا بنتي ..... إنك تفتّقين جروحي القديمة ، وقد بذلت الكثير من الحزن حتى رتقتها .
• عذراً.... ربما هيجت أشجانك.
• ما عليك يا ابنتي سوف أقص عليك حكايتي لعلّي أخفّف من وطأة ألمي , إنها مذكراتي , وعندما يشدني الحنين إلى ذكرياتي أجلس هنا على هذا المقعد , واستذكرها .. إنها حكاية تعود إلى أربعين سنة عابرة ... لقد أحببته منذ كنت طفلة , هجرني بقصد السفر واعداً إياي إرسال بطاقة زيارة لنتزوج هناك في الغربة ما إن يحصل على عمل وتتحسن أحواله المادية , بعد سفره استمرت المراسلات بيننا خمس سنوات ثم انقطعت أخباره ... ومازلت أنتظر . ..
• أو تنتظريه ثلاثين عاماً ؟ ألا تشعرين بالوحدة والوحشة؟.
• لست وحيدة لدي صديقات من جيلي يؤنسنني.
• اعذريني سيدتي كان لديك متسع من الوقت لحب جديد .
• وهل الأمر بيد الانسان؟.
• لقد نما حبنا منذ الطفولة وعشت معه أسعد الأيام , كانت تحسدنا الفراشات والزهور , وعندما رحل كان رحيله عن عينيّ لكنه ظل في قلبي.
اجتمعت الفراشات الساحرة الألوان ترفرف حول السيدة وغردت البلابل لها أشجى الأنغام ،إنه عرس الطبيعة الصديقة
قالت متنهدة :
لن يموت الحب وتخمد جذوته ما دمت في هذه الحياة ، وتألقت في عينيها دمعتان لامعتان .