بداية أودُّ تقديم شكري الجزيل للأستاذ الكريم أبو القوافي, لافتتاحه هذه المطارحة الفكريَّة إغناء للثقافة, ومحاولة الوصول إلى مفهوم موحَّد حول قضيَّة باتت موضوع جدل في بعض الملتقيات الأدبية.
وأشكر أيضاً الأخ محمد الزَّينو السَّلّوم الذي دعاني للمشاركة في هذا الموضوع.
أيها الأخوة: من وجهة نظري أرى أن الشِّعر هو الشِّعر بأيِّ ثوب كان وبأيِّ زيٍّ تَزَيَّا.
وكما قال الأخ عبد الصَّبور ( الشِّعر ما أشعرك) وقالت الأخت وداد الهواري (الشِّعر بالفصحى أو بالعاميَّة هو عملة واحدة).
فالشِّعر له أركان ثلاثة ( الفكرة , الصورة , الوزن أو الإقاع ) فإذا فقد إحداها خرج من دائرة الشِّعر إلى جنس آخر من أجناس الأدب.
وأنا أختلف مع من قال أن العاميَّة وليدة الفصحى بل العكس هو الصَّحيح, فمن يتصفَّح تاريخ الأدب العربي , يرى أن اللَّهجات المختلفة للقبائل العربيَّة قبل الإسلام كانت تختلف باختلاف مناطقهم, وعندما يجتمعون الشُّعراء والأعيان في سوق عكاظ, كانت تتلاقح اللَّهجات فيما بينها فتتولد لهجة جديدة, يُحْتَفَظُ ما يستساغ منها ويهمل الباقي, ما جعل الفصحى في قريش مستنبطة من مختلف اللَّهجات وهي أَقْوَمُهَا لفظاً. بينما بقيت عاميَّة اللَّهجات في مواطنها مستعملة, لكن لغة قريش أخذت تطغى عليها.
إلى أن جاء القرآن الكريم ليثبِّت الفصحى بشكلها النهائي وتصبح اللَّهجة السَّائدة الرائدة المُتَدَاوَلَة في جميع القبائل والأقطار, ورغم ذلك بقي من يتكلَّم ويستعمل لهجته المحلِّيّة ولو على نطاق ضيِّق.
كما بقي التَّعليم بين النَّاس يقتصر على تحفيظ آيات القرآن الكريم الأمر الذي حفظ سلامة اللُّغة فيما بينهم.
لكن عصر الاستعمار والتَّسلُّط البربريّ على اختلاف أنواعه بعد أفول الدَّولة العبَّاسيّة, أشاع الفقر بين الناس ما أجبرهم إلى الحاجة للعمل لكسب القوت اليومي.
الأمر الذي أُهملت فيه قضيَّة التَّعليم والتَّحفيظ والتي اقتصرت فيما بعد على فئة معيَّنة من الشَّعب, إضافة لما كان يسعى إليه المتسلِّطون في إبقاء عامة الشَّعب في حالة جهل تام مبعدين عن العلم والمعرفة.
إلى أن جاءت النَّهضة القوميّة عن يد الرُّوَّاد الأوائل في بلاد الشَّام وفي مصر العزيزة وانتشرت شعلة وضَّاءة في أقطار الوطن العربي, وقد شهدنا في القرن الماضي انتصار حركات التَّحرُّر الوطني, والتي بعد انتصارها استدعت المدرِّسين من الشَّام ومصر إلى أقطارها لتدريس مختلف الاختصاصات وبخاصَّة اللُّغة العربيَّة كما في الجزائر واليمن وغيرهما.
لكن عهود التَّخلف التي سيطرت فيما مضى على أقطار الوطن العربي, أفقدت هذه الأقطار الكثير من التَّطور والتَّقدم العلمي, بحيث أصبح لزاماً على الطُّلاب العودة لتعلُّم اللُّغات الأجنبيَّة من أجل استيعاب العلوم الحديثة والتي سبقونا بها.
وهنا بدأت إشكاليَّة الاهتمام الجَّدي بلغتنا العربيَّة بينها وبين الاهتمام باللُّغات الأجنبيَّة, إضافة إلى ما يلاقيه الطَّالب من صعوبة في علم الصَّرف والنحو باللُّغة العربيَّة, الأمر الذي زاد من إهمال الطَّلبة لتعلُّم اللُّغة العربيَّة بجدِّية تامَّة والاكتفاء بالعاميَّة والتَّفرُّغ للاستزادة من باقي العلوم, يضاف إلى ذلك الانهماك في علوم العصر (كومبيوتر) وغيره.
ـ وللإجابة على التَّساؤل: كيف يمكن أن ندفع المتلقِّي للاهتمام بالفصحى كاهتمامه بالعاميَّة؟
أرى أن عصرنا يتَّصف بعصر السُّرعة ولا يروق للمتلقِّي أن يجلس ليسمع مطوَّلاً, لذلك يجب مراعاة الاختصار والتكثيف بصور مبسَّطة جديدة وقصيرة في معالجة قضايا معاصرة, تهمُّ المتلقِّي بل تمسُّه مباشرة, وبلغة فصيحة سليمة مع الابتعاد عن التَّعقيد.
ـ كما أرى أن الشَّاعر لايملك حرِّيّة الاختيار بين العاميَّة والفصحى في حالة حلول الإلهام الشِّعري, ومن تجربتي أقول: كنت أفكر في أحد الأيام بنظم قصيدة زجليَّة أضعها افتتاحيَّة لمجموعة شِعريّة كنت قد جمعتها للمرحوم الشَّهيد شقيقي الأكبر بعد استشهاده, فما وجدت نفسي إلاَّ وأنا أكتب قصيدة فصيحة, جاءت بالغة الأحاسيس والمشاعر لما أُكِنُّ من شعور تجاه أخي الشَّهيد.
ـ أما وإن كنت في لجنة تحكيم لأحكم بين عملين لشاعرين بالعاميَّة لم أسمعهما مباشرة؟
فمن واجب المحكِّم أن يكون واسع الاطلاع والثقافة يستطيع تقمُّص حالة الشَّاعر ولهجته, ليدخل في عالمه ويكشف مراميه ويمسك خيوط الدَّلالة في القصيدة وحتى غايتها.
ـ ومن حيث اللَّهجة الأقرب إلى دائرة الفصيح؟
أرى أن اللَّهجة العاميَّة في بلاد الشَّام هي الأقرب إلى دائرة الفصيح, والدَّليل على ذلك:
ما جاء بتعليق الشاعر الأستاذ عادل عوض سند على قصيدتي (الصَّمت) والتي اعتَبَرَها فصيحة مع أنها قصيدة زجليَّة بلهجتنا المحلِّية.
كما أودُّ أن أضيف: بأن أول هدف من أهداف جمعيَّة شعراء الزَّجل في سورية هو: تقريب اللَّهجة العاميّة ما أمكن إلى الفصيحة مع المحافظة على خصوصيّة الزَّجل, ونرى الكثير من قصائد الزَّجل يمكن قراءتها بالفصحى مع التَّغاضي بعض الأحيان عن قواعد الصَّرف والنَّحو, بحيث نلجأ أحياناً لتسكين المتحرِّك أو تحريك السَّاكن, بما يخالف قواعد الإعراب, والعاميَّة هي الأقرب إلى عامة الشَّعب من الفصيحة.
وإن اللَّهجة الأكثر فهماً في الوطن العربي, كانت اللَّهجة المصريّة, بسبب الأفلام والأغاني التي ساعدت على انتشارها وفهمها.
والآن نجد لهجة بلاد الشَّام أخذت تضاهي لهجة مصر, أيضاً بانتشار الأغاني الشَّاميّة وخاصَّة أغاني فيروز ووديع الصَّافي وصباح فخري وغيرهم.
ـ وحول تجربتين عامَّتين, الأولى لشاعر فصيح صاغ العاميَّة, وأخرى لشاعر عاميَّة فقط.
كما سبق وقلت في بداية الحديث, الشِّعر بأركانه الثَّلاثة (فكرة, صورة, وزن), فمن من الشَّاعرين يستطيع تحقيق الأركان الثلاثة بشكل جديد وبصورة مبتكرة يحصل على قصب السَّبق.
وبصورة عامة الشِّعر موهبة من الله تعالى لايمكن تعلُّمه, ومن يكتب الشِّعر نتيجة تعلُّمه دون موهبة, يأتي شِعره (صفُّ كلام) لا روح فيه كالورد الصِّناعي.
أما صاحب الموهبة والذي أغناها بالثَّقافة والاطلاع تجد إبداعه في صور مبتكرة مع جزالة في التَّعابير وانسيابيَّة رقيقة وإقاع وزن منسجم مع فكرة الموضوع.
ـ أخيراً الفصحى ليست عاجزة عن توليد مفردات جديدة, ومعروف عنها لغة الأدب والشِّعر, وقد قام الكثير من الأدباء بتوليد وتصريف تعابير جديدة من مصادرها لم تكن قد استعملت من قبل.
ويبقى على المجمع اللُّغوي أن يسعى في هذا الاتجاه لاستدراك اللازم.
ـــ أعتذر شديد الاعتذار للإطالة , لكن الموضوع أرى أنه يحتاج لتفنيد أكثر , مع جزيل الشُّكر .