أبو نواس..قلبٌ لا يعرف القنوط*

1.

اسمه الحسن بن هانئ بن صباح,و يقال له أبو نواس البصري، دمشقي الأصل،ولد بالأهواز في خوزستان ، ثم رحل إلى البصرى و بها تعلم اللغة و النحو وتأدب ، و روى الحديث و من أشهرها حديث: "لا يموتن أحدكم إلا و هو يحسن الظن بالله، فإن حُسن الظن بالله ثمنه الجنة"*(1) ،وحدَّّثَ عنه جماعة منهم الشافعي وأحمد بن حنبل و مشاهير العلماء.
إذا ذكرت اسمه فلا تتربص سوى الاعتقاد السوء كونه كان من شعره المجون و أشعارا منكرة وله في الخمريات و القاذورات والتشبب بالمردان والنسوان وأشياء بشعة شنيعة، فمن الناس من يفسقه و يرميه بالفاحشة*(2) ،لكن قلّ من يعرف أن الله حباه قلبا رقيقا لا يعرف القنوط ،فهيا معا نذكر خاتمته السعيدة و إنما الأعمال الخواتيم، فلنترك الجانب المظلم السيء من حياته و لنتعرف على الجانب المضيء على قلبه النابض و لنتعلم منه حسن الرجا و الظن الحسن بالله و كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تذكروا هلكاكم إلا بخير"*(3) و"لا تسبوا الأموات؛فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"*(4)
قال أبو نواس:
إذا خلوت بالدهر يوماً فلا تقُـل خـلوتُ و لكن في الخلاء رقيب
و لا تحسبنَّ اللهَ يغفـل ساعـة ولا آثما يخــفى عليه يغـيب
لهونا عن الآثــام حتى تتابعت ذنــوبٌ على آثـارهن ذنوب
فياليت أن الله يغفر ما مــضى ويــأذن فـي توباتنا فنتـوب
أقول إذا ضاقت علـىَّ مذاهـبي وحلَّت بقلـبي للهمــوم ندوب
لطول جنايتي و عظم خطـيئتي هلكت ومالي في المتاب نصيب
وأغرق في بحر المخافة آيسـا وترجع نفسي تــارة فتتـوب
وتذكرني عفو الكريم عن الورى فأحيا وأرجو عــفوه فـأنيب
وأخضع في قولي و أرغب سائلاً عسى كاشف البلوى عليَّ يتوب

قال حسن بن داية : دخلت على أبي نواس وهو في مرض الموت فقلت:عظني ، فأنشأ يقول:
فكثِّر ما استطعت من الخطايا فإنك لاقـيا ربا غفورا
ستبصر إن وردت عليه عفواً وتلقى سيداً ملكاً قديرا
تعض ندامة كفيك مما تركت مخافـة النارا الشرورا
فقلت : ويحك بمثل هذا الحال تعظني بهذه الموعظة؟ فقال: اسكت حدثنا حمَّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه و سلم:"ادخرت شفاعتي لأهل الكبائرمن أمتي"*(5).و قال الربيع و غيره عن الشافعي قال: دخلنا على أبي نواس في اليوم الذي مات فيه و هو يجود*(6) بنفسه فقلنا :ما أعددت لهذا اليوم؟ فأنشأ يقول:

و قال يوسف بن الداية: دخلت عليه و هو في السياق*(9 ) فقلت : كيف تجدك؟ فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال:
دبَّ فيَّ سـفلا وعــــلواً وأراني أموت عضواً فعضواً
ليس يمضي من لحظة بي إلا نقصتني بمرها فى جــزواً
ذَهَـبت جـدتي بلـذة عيشي وتذكرت طاعة الله نــضواً
قـد أسأنا كـلَّ الإساءة فـالا هل صفحاً عنا وغفرا وعفواً
ثم مات من ساعته سامحنا الله وإياه آمين.
وقد كان نقش خاتمه لا إله إلا الله مخلصا ، فأوصى أن يُجعل في فمه إذا غسّلوه ففعلوا به ذلك.
و لما مات لم يجدوا له من المال سوى ثلثمائة درهم و ثيابه وأثاثه، وكانت وفاته في سنة195هـ ببغداد ودفن في مقابر الشونبزي في تل اليهود، وله 50 سنة وقيل 60 وقيل 59سنة عـفا الله عنه و تغمده برحمته الواسعة وتجاوز عن زلاته وفسح له في قبره آمين آمين
وقد رآه بعض أصحابه في المنام فقال له ما فعل الله بك؟ فقال غفر لي بأبيات قلتها في النرجس*(10):
تَفَكَّرَ في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع الملـيك
عيونٌ من لُُجيْينٍ*11 شاخصاتٌ بأبصارٍ هيَ الذهبٌ السبيك
على قضبِ الزبرجدِ*12 شاهدات بأن اللهََ ليس له شــريك
وفي رواية عنه أنه قال غفرلي بأبيات قلتها وهي تحت وسادتي فجاءوا فوجدوها برقعة في خطه:
المصدر)): البداية والنهاية للإمام الحافظ عماد الدين (إسماعيل بن كثير)-سنة195من الهجرة)) بتصرف من الكاتب

الهامش:
*القنوط :من باب قنط وهواليأس ، قال تعالى:{ قُل يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهُم لَا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}الزمر53

1*ذكره الخطيب البغدادي(1\396)،و موضع أوهام الجمع والتفريق(1\432) (محققا طبعة مكتبة الصفا-أحمد بن شعبان بن أحمد،محمد بن عيادي بن عبد الحليم) ، وعن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ،قبل موته بثلاث،يقول:"لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن"( رواه مسلم 7229- طبعة دار الكتاب العربي- )
2*قال محمد بن عمر:سمعت أبا نواس يقول:والله ما فتحت سراويلي لحرام قط. -يقصد ما زنيت- و لنا الحكم بالظاهر والله وحده يتولى السرائر،والله أعلى وأعلم.

3*حسن: انظر الجامع الصغير(9765) رواه النسائي عن أم المؤمنين عائشة

4*صحيح: رواه البخاري (1393)

5*صحيح: صححه الألباني رحمه الله في المشكاة(5599)،وظلال الجنة(835،831) (محققا الكتاب-البداية والنهاية-)
*فائدة:حديث رسول الله ليس دعوة لارتكاب المعاصي والكبائر إنما هو دعوة لعدم القنوط وبما أن الكبيرة أمرٌ جلّ ،قال تعالى:{ الذِينَ يَجتَنِبُونَ كَبَائِرَ الِإثمِ وَالَفَواحِشِ إِلَّا اللّمَمَ }-النجم من الآية 32- وبما أن نبينا عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رحيما يحب لأمته الخير أدّخر شفاعته لعظائم الأمور طلبا لمغفرتها من ربٍ غفورٍ رحيم،وما حمل أبو نواس على مقولته كان لشدة رجائه بربه،والله أعلم

6*يُقال : يَجُودُ بنفسه إذ كان في السياق ....ويقال: جِيدَ فلان إذ أشرف على الهلاك ( لسان العرب)

7*بيتٌ لم يُذكر في المصدر إلا أنه مشهور فأضفته ربما كان للشافعي –الكاتب-





8*( ذلكم الشعر منسوب للشافعي مُطولاً في معجم الأدباء و الأمر له أحتمالان إما أن يكون للشافعي وحفظه أبو نواس منه فكلٌ منهما عاصر الآخر،أو يكون لأبي نواس – كما في بهجة المجالس وأنس المجالس -وزاد فيه الشافعي وقد كان من شاهديه ساعة الاحتضار وأُرَجِحُ هذا لقوله <أنشأ يقول>والله أعلم ،إن أردت معرفة المزيد فسل أحد خبراء اللغة والشعر) اجتهاداً من الكاتب

9*السِّياق: نزع الروح(مختار الصحاح)

10*النَِّرجِس: -بكسر النون-نبتٌ من الرياحين،من الفصيلة النرجسية،ومنه أنواع تُزرع لجمال زهرها وطيب رائحتها، وزهرته تُشبَّه بها الأعين(المعجم الوجيز)

11*اللُجَين:الفضة

12*الزَّبَرْجَد: حجرٌ كريمٌ، يُشبه الزُمُرُّد؛ وهو ذو ألوانٍ كثيرة أشهرها الأخضر المصريّ، والأصفر القبرصيّ (المعجم الوجيز)

أستاذ عماد جزاك الله كل خير على هذه المعلومات المفيدة عن أبى نواس ويقال له شاعر الخمر والنساء أيضا غفر الله له ولنا جميعا وشكرا جزيلا لك على تلك الدراسة