رغم حياته القصيرة التى انتهت بحادث أليم, إلا أن إبداعه الأدبى وبخاصة فى القصة القصيرة باق يفرض نفسه على ساحة الإبداع. إن كنت تكتب قصة فلابد أن تقرأ منه لتعرف.
يعتبر يحيي الطاهر عبد الله(1938-1981) من رواد القصة, فهو ينتمى إلى جيل الستينيات(جيل بلا أستاذ_ كما يحبون أن يوصفوا أنفسهم) ذلك الجيل الذى خرج منه أيضا إبراهيم أصلان وصنع الله ابراهيم, وجمال الغيطانى....
توفى يحيى الطاهر عبد الله يوم الخميس 9 أبريل 1981 قبل أن يتم الثالثة والأربعين بأيام في حادث سيارة على طريق القاهرة الواحات، ودفن في قريته الكرنك بالأقصر.
رثاه الكثير من الكتاب والشعراء.
فكتب الشاعر أمل دنقل
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد. لم يمت. هل يموت الذي كان يحيا. كأن الحياة أبد.
وكتب يوسف إدريس في رثائه (النجم الذى هوى) ونشرت بالأهرام في 13/4/1981، كما رثاه عبد الرحمن الأبنودي وكتب (عدودة تحت نعش يحيى الطاهر عبد الله).
........
وقد أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب جميع أعماله فى كتاب(يحيي الطاهر عبد الله.. الأعمال الكاملة) وهو متوفر بسعر رمزى( أدعوكم لاقتناءه)
.....
ومن هذا الكتاب ومن القصة الأولى التى أقرأها, وقفت مشدوها للكلمات التى بين يدى.
اقرؤوا معى قصة:
جبل الشاى الأخضر
كان جدي يصب الشاي في الأكواب من ثلاثة أباريق صغيرة، وقد فرغ :
تناول إبريقا كبيرا مملوءا بالماء الساخن وملأ الأباريق الثلاثة من جديد وأعادها إلى المجمرة، من جواره أمسك بالإبريق الأكبر من كل الأباريق – والمسمى بالأوزة لطول عنقه – وصب منه الماء البارد في الإبريق الكبير حتي الحافة وأعاده أيضا إلى المجمرة. كنا صامتين فجدي لم يكن قد تكلم بعد ..
كنت أرقب المجمرة : الأباريق الصغيرة الثلاثة كانت ترقد في الرماد الناعم .. والماء كان يتقلب داخلها تحت قسوة الوهج ويقلقل الغطاء الحارس .. والماء المحترق كان يهرب من تجويف العنق ويصفر .. وكانت أفواه الأباريق الثلاثة تبخر الدفء في جو الغرفة الشتوي .. وكان الإبريق الكبير يصفر صفيرا عاليا – فهو يرقد في قلب المجمرة تتحلقه عيون الجمر الملتهبة وتتسلقه حتى المنتصف وتتوهج على سطحه النحاسي اللامع شديدة الاحمرار .
كنت أعي أنه لابد يرقبني – وقد مسح المكان بعينيه وحاضرني ولاحق بصري وأمسك بالشيء الذي سقطت عليه عيناي ليواجهني به ككل مرة أمام الجميع .. يصعد الدم وتنتفخ به عروقي وتكاد تنفجر .. ويلتهب وجهي ويظل ساخنا يتشقق كما يحدث لإناء الفخار داخل الفرن الحار .. تكون الكلمات في فمي كخيوط الصوف المغزول : مملوءة بالوبر الجاف وقد تشابكت وصنعت أعدادا هائلة من العقد .. اعرف أنه الخجل أمام الجميع أحس أنني بغير ملابسي .. يصرخ باعتقاده القاطع بأنني أبول على نفسي أثناء نومي برغم أنني لم أعد طفلا .. ينسب ذلك لحبي للنار المشتعلة .. وولعي بالجمر الأحمر المتوقد .. عيون الجميع تتحلقني .. تظل تتسلقني .. أحسها تكويني من الجنبين .. تتوالى الحروق وتأكل جسمي ويتوالى اللسع الحار .. وأنفجر باكيا ..
عيناي أغمضتهما بسرعة .. وفتحتهما نصف .. فتحتهما عليه : جالسا بجواري وقد أسقط علي عينيه الغاضبتين ، همهم لم يكن جدي قد تكلم بعد ، رمقه بغضب .
- كامل .. أخضر ولا أحمر ؟.
رد أبي في عجل وكان متحرجا ..
- أيوه يابا .. أحمر
كان جدي يوزع علينا صنوف الشاي .. طلبت لي شايا أخضر .. ولما كانت عواطف أختي والتي تصغرني بتسعة شهور كاملة قد طلبت لنفسها من جدها شايا أحمر .. وكنت مدركا أن الأمر يحتاج من جانبي لقدر من السرعة في التصرف لينتهي تماما .. قلت محدثا جدي في صوت واطئ وجعلته مرحاً :
- مش انت زمان يا جدي كنت صغير زينا .. وكنت بتشرب الشاي الأحمر لكن كبرت وعرفت إن الشاي الأحمر بيحرق الدم فشربت الشاي الأخضر.؟..
كان جدي يبتسم .. كنت أنظر له وكنت أخشى أن أقرأ وجه أبي ..
قلت مخاطبا جدي :
- طيب ليه عواطف الصغيرة تشرب الشاي الأحمر .. والله العظيم ثلاثة يا جدي دمها كله حيتحرق .. أصل دماغها ناشفة من نوع الحجر وعايزة الكسر ..
كانت عواطف متذمرة .. وكان جدي يبتسم مازال .. أما أبي فقد فاجأني :
- مفيش غيرك اللي دماغه ناشفة وعايزة الكسر ..
نظرت إلى يده ممسكة بالكوب ممتلئا حتى منتصفه بالشاي الأحمر
أدركت أنني تعجلت، خاطبته :
- أصلها مش بتسمع الكلام .
قال أبي في أمر قاطع :
- روح شوف البهايم في الحوش .. خلي نوال أختك تجيب اللبن بسرعة ... ونظر إلى عمتي "شرقاوية" وقال في أمرٍ أخف :
- خدي البنت ونضفي شعرها في الشمس بره .. خليها تغسله بعد كده .
كنت قد جريت حتى السقيفة وتخطيت السقف العاري النائم تحت الشمس الحرة من الغيوم – قبل أن تصل عمتي"شرقاوية" ممسكة أختي عواطف بيدها وكانت أختي عواطف متململة فأخرجت لها لساني وجريت باتجاه الحوش .. كنت أسمع عواطف تشتمني. - إن شاء الله ضربة دم يابو ..
كانت تفهم أنني سأضربها فلم تكمل .. نظرت لها وأبديت الشر ... قلت "
- طيب يا أم قملة ..
كنت أسمعها تبكي مجرورة خلف عمتي وأنا أدفع باب الحوش :
كانت نوال أختي والتي تكبرني بتسعة شهور كاملة – راقدة فوق ظهر جاموستنا .. وكانت نائمة بصدرها وقد حضنت عنق الجاموسة بكلتا ذراعيها .. وكانت تمرجح ساقيها وتحك فخذيها ببطن الجاموسة الأسود السخين .. كنت أري أصابع قدمها التي تواجهني كخمسة مسامير دقت أسفل بطن الجاموسة.
صرخت معلنا عن وجودي فقفزت نوال على الأرض مفزوعة ودلقت ماجور اللبن المملوء .. وجريت أنا لأنقل الخبر لأبي وجدي .
مررت بالسقف : كانت الشمس الحرة من الغيوم قد ألهبته بالسخونة .. وكانت عواطف وعمتي "شرقاوية" محتميتين بظل الجدار القصير .. وكانت عواطف راقدة فوق حجر عمتها .. وكان رأسها نائما بين الفخذين .. وكانت عمتي تقلب شعر عواطف وتدهنه بالجاز الأبيض من كوز صفيح يجاورهما ..
في الغرفة كان جدي يصب لنفسه كوبا من الشاي الأخضر .. وكانت أمي موجودة ترضع رمضان أخي الصغير جدا .. قلت لأبي إن نوال دلقت اللبن وإنني وجدتها فوق ظهر الجاموسة وإنها كانت تحرك ساقيها .. وقلت إن أصابع قدميها العشرة كانت كعشرة مسامير من الحديد دقت أسفل بطن الجاموسة .. اصفر وجه أمي وسحبت ثديها من فم الولد رمضان فبكى .. وأرقدت هي ثديها تحت ثوبها الأسود "الباتستا" أما أبي فقد قام منتصبا كالقصبة المشدودة المسنونة الرأس، وكان جدي يدوس شفته السفلى تحت أسنانه، أما أمي فقد خرجت من الغرفة ولاحظت أنها راغبة في البكاء ..
وفي لحظة كان أبي قد عاد وصرخ بأنها غير موجودة .. وزعق طالبا أمي .. وصرخ فيها طالبا منها أن تحضر نوال من تحت باطن الأرض .. وفي غمضة العين كانت أمي قد أحضرت نوال وهي تجرها ونوال تصرخ بصوتها العالي الباكي لأمها وأبي بأنني كذاب .. صرخت فيها بدوري :
- أنا مش كذاب .. انت اللي كذابة .
سقط كف أبي علي صدغي بقسوة أوقعتني وصنعت خيطا من الدم:
كان دافئا .. كنت ملقى على أرض الغرفة التربة المرشوشة بالماء .. وكان أبي يسحب نوال من ضفيرتيها ويجرجرها على الأرض .. كانت عمتي "شرقاوية" قد جاءت وكانت أختي عواطف منكمشة وملتصقة وممسكة بثوب عمتها .. وكان جدي ممسكا بسيخ ينتهي بخلقة وخطاف يقلب به الجمر .. كان يأمر أبي في غيظ :
- اضرب .. اضرب يا كامل
كنت أشعر بطعم الطين في فمي وجانب وجهي نائم على السطح الترابي الذي لم يعد جافا .. وكان الدم يسيل من جانب فمي ولا يتوقف .. وكان ساخنا مازال .. وكانت نوال أختي معلقة من عراقيبها بحبل مشدود إلى وتد ثبت بجدار الغرفة. وكان أبي يصعد ويهبط بكل جسمه كثورٍ مذبوح .. كان يرفع يده ويهوي بعصاة لينة رفيعة ويضرب الجسم العاري .. والدم كان يشخب من الجسد العاري ويغطي وجهي ولا يجعلني أرى .. كانت أمي تصرخ .. وكان صوتها باكيا .. وكان أخي رمضان علي صدرها لاشك يبكي .. وكانت تخاطب أبي :
جوِّزها يا كامل .. كفاية يا كامل وتتجوز .
كنت مغمض العينين وكنت أبكي .. وكنت مازلت على الأرض نائما ولم أعد منتبها للدم يطفر حارا من جانب فمي .. ولم أع بعد لماذا طلبت أمي من أبي أن يكف عن ضرب نوال وأن يزوجها.. لكني كنت أتمنى لو يتم ذلك .. أن تتزوج نوال وأن يكف أبي عن ضربها وأن تخرج من هذا البيت .
كانت أمي قد لامتني وأرقدتني على الفراش الأرضي وغطتني بالحرام الصوف .. ولكني كنت أرتعش .. كانت تقدم لي الكوب .. وكنت قد طلبت أن أشرب .
زعق أبي :
- إيه ده ؟...
قالت أمي :
- ميه ورماد ..
صرخ أبي ...
- ارميه يا بهيمه .. ادي الولد ميه بسكر .. واعصري كمان لمونتين ...
قالت أمي :
- مفيش لمون عندنا .
قال أبي :
- أطلع أنا أجيب لمون .. وانت دوبي السكر في المية .
كنت أدرك أنني سأنام وكنت عطشا .. وكنت أدرك أن أحلاما كثيرة ستأتي .. وكانت كل الأصوات قد غابت .. وربما كانت نوال تئن بصوت واطئ .. واطئ ولا يمكنني أن أسمعه .. ولا يمكنني أن أسمع خطو قدميه الحافيتين تنغرسان في الرمل الساخن الجاف – وقد هبط من فوق ظهر ناقته "عاتكة" .. وبلغ الجبل وصعده .. يجمع من حوافيه أعشاب الشاي الأخضر .. الخضراء .. ويأتي معه أيضا بحبات الليمون الخضراء.