كان على العالم العربيّ أن يرسم للشّاعر منذ الوثنيّة صورةتتلاقى فيها بعض العيوب كالتّبجّح والجبن والزّهو والفجوريؤيّدها بخبث بعض الشّعراء المأجورين ( 1 ) إنّ الأخبارالمتعلّقة بالقرن السّادس قليلة ، والحقّ يقال ، وهي دائماموضع شكّ ( 2 ) .ولا ريب في أنّ احتقار الشّاعر يتناقض ، والاعتبار التّطيّريالّذي اتّسم به الشّاعر بصورة عامّة ، فهل يعود السّببإلى انتساب الشّاعر إلى قبيلة منبوذة ( 3 ) ؟ومن الغريب ، أن لا تسعفنا معطيات التّراجم بأيّ دلالةفي هذا الاتّجاه ولعلّه ينبغي التّفكير ببساطة ، بأخلاق بعضالشّعراء المشهورين ، فإنّ صورة حسّان بن ثابت أُثقلت حتّىضاعت معالمها الأصليّة ، كما دُفِعت شخصيّة الحطيئة إلىحدّ التّشويه ، ولا ريب في أنّه لم يكن المقصود في البدء ، وفي أكثر الحالات إلاّ المواقف الشّاذّة جدّا ، وكان على الدّعوة الإسلاميّة في مكّة أن تطرح القضيّة من خلال نظرةجديدة ، فإنّ مشركي مكّة بإعلانهم حرمان الرّسول ، صلعم ،إصرارا منهم على اعتباره ، في بدء الدّعوة مجنونا ( 4 )قد أثاروا بذلك استنكار النّاس ( للشّعراء الملهمين ) وآثارهم المشربة بالوثنيّة :" والشّعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر أنّهم في كلّ وادٍ يهيمون وأنّهم يقولون ما لا يفعلون " ( 5 )ويعود تاريخ نزول هذه الآيات إلى زمن الدّعوة الإسلاميّةفي مكّة ، وكان لهذا الاستنكار ما يسوّغه ، غير أنّه ليسمن داعٍ إلى أن يبقى على هذا الشّكل طوال الدّعوة في المدينةفإنّ ثمّة آية نزلت لتحدّ من مرماها ، وذلك بالتّخفيف من إثمالشّعر :" إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروامن بعد ما ظُلِموا " ( 6 )وهل فرضت مقتضيات الدّعوة في المدينة هذا الاستثناء لمصلحةالشّعراء الّذين أسلموا ؟ ليس بوسعنا تأكيد ذلك ، فقد بلغ هوىالشّعر درجة من التّأصّل في قلوب معاصري محمّد ، صلعم ،بحيث دعا إلى التّخفيف من وطأة نظرته إلى الشّعر ، فإنّ القرآنالّذي لا يحرّم أبدا الموسيقى ( 7 ) ، لا يحرّم أيضا ، فيالأصل، الشّعر في حدّ ذاته ( 8 ) ، ومهما كانت الأحاديث ( 9 )مشكوكا فيها ، فهي لا تتيح مع ذلك استخدامها للتّدليل على نفورأسرة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ، وحاشيته من الشّعر ، كماأنّه يستحيل إيراد معطيات نرى من خلالها مؤسّس الإسلام يرتجلأبياتا من بحر الرّجز ( 10 ) كما جاء في بعض الرّواياتالمشكوك فيها .إنّ هذه الأقوال ينسخ بعضها بعضا ، فضلا عن أنّ القضيّة شيءآخر ، لقد نظم الشّعر بين صحابة الرّسول نفسه ، على أنّه يجدر بنا القول:" إنّ الشّعر في نظر بعضهم ، وبخاصّة الخليفة عمر بن الخطّاب ( 11 )مدعاة للارتياب بقائله ، وبالتّالي مجلبة للعداء ، ففيه أثر الوثنيّة ، فكانوايخشون أن يوقد هذا الشّعر أو يؤجّج النّزاعات القبليّة ( 12 ) ، ولذالم يحجموا عن التّذكير باستنكار القرآن للشّعر ( 13 ) . إن هوى الشّعر في نظر الكثيرين من أهل التّقوى يتعارض والورع ، قالوا :" خيرا للإنسان أن يملأ بطنه قيحا من أن يملأه شعرا ( 14 ) .وكانوا في القرن الثّالث الهجريّ يقولون : " لا تعلّموا بناتكم الكتابولا ترووهنّ الشّعر ، ومن القرآن سورة النّور " ( 15 ) .وقيل لأحدهم في ذلك الزّمن : كيف تقول الشّعر مع النّسك والفقه ؟فقال : " إنّ المصّدور لا يملك أن ينفث . " فإذا كانت هذه الأقوالالّتي تحطّ من قدر الشّعر رائجة في ذلك الزّمن ، فكم تكون حدّتهاشديدة على أفواه النّاس المهيّئين ، في العصريْن التّالييْن ، للعنالوثنيّة ! ويجدر فسح المجال لتقدّم مفهوم ( الإعجاز القرآنيّ ) (16)ولا ريب في أنّ الحيطة من روح الشّعر ، مضافا إليها المنزلة الدّنياالّتي وضع فيها الشّعراء المأجورون ، لم تكن منتشرة خارج بعض الأوساط المدينيّة ، فقد عاد سلطان الشّعر مع مرور الأيّام ، كما سنرىفيما بعد ، إلى الظّهور من جديـــــــــــــــــــد .وبقي ـ مع ذلك ـ من آثار الخصومة الأصليّة للشّعر ، حرج ونوعمن وخز الضّمير المولّد لتيّار إعادة الاعتبار للشّعر . ولكنّ الحديثعمل ـ بعامّة ـ بمهارة لا تنكر ، إذ أظهر الرّسول ، صلعم ، لنصرتهالإسلام أكثر منها لموهبته الشّعريّة ، كما أظهر الرّسول عليه صلاةالله وسلامه ، وهو يستنشد الشّعراء الوثنيّين ، ليس لقيمتهم الذّاتيّةبل لأنّهم مطبوعون بطابع الحكمة المشابهة لحكمة الدّين الجديد (17)ثمّ تذهب الرّوايات التّقليديّة بعيدا ، فتضع على لسان الرّسول ، صلعم ،: " إنّ من الشّعر لحكمة " (18) .وتناولت عمليّة ردّ الاعتبار هذه أشخاصا معاصرين آخرين (19)وبخاصّة أشدّهم عداوة للشّعر ألا وهو الخليفة عمر بن الخطّاب فإنّ الطّريقة الّتي لجأت إليها تلك الأحاديث ظلّت كما هي ، فالشّعرفي نظرها مبارك إذا قطع صِلاته بالعادات الوثنيّة (20)وظلّ أسلوب ردّ الاعتبار للشّعر ، الّذي بدأ مع الأجيال الإسلاميّةالأولى ، مستمرّا طوال عصور عديدة (21) فهو يعبّرـ في الواقع ـ عن وازع وجدانيّ عند أقلّيّة كانت ـ دون ريب ـمستعدّة ، قبليّا ووسط الظّروف الجديدة ، لوضع الميل الجارفوالعامّ للشّعر في مكانه . ولذا رؤي من الأوفق التّكيّف معالماضي تشوّفا إلى انتصار الإسلام المقبل في هذا المجالوغيره من المجالات .
الإحالات : 1 ـ يشير الرّحّالة ( موسيل ) في كتابه " عرب الرّواية " إلى مقدار ازدراء البدو للشّعراء المأجورين
وذلك بسبب طمع هؤلاء وأخلاقهم المنحطّة ، وانتحالهم الشّعر ، ومنها المثل الشّائع في أوساط البداوة :
" قصّاد كذّاب " .
2 ـ انظر عن جبن حسّان بن ثابت " الأغاني " ج 4 ص 164 وما بعدها ، فهل تعتبر الأخبار من قبيل
النّادرة .
3 ـ كما هي الحال في عصرنا . " إنّ القصّاد غير البدو في سريا أصلهم ، أحيانا من قبائل الصّليب
والشّرارات " ، انظر " مونتان " ( قصص شعريّة ملتقطة عند عرب شمّر في الجزيرة " 72 .
4 ـ انظر القرآن ، سورة " الطّور " 52 ـ 59 ، 60 .
5 ـ الشّعراء 26 ـ 227 .
6 ـ الشّعراء 26 / 227 .
7 ـ إنّ بعض المقاطع الّتي رأى فيها بعض المفسّرين تحريما للموسيقى ليست حاسمة على الإطلاق
انظر ( مرغليوث ) " أصول الشّعر العربيّ " المجلّة الآسويّة الملكيّة 1925 م ، صص 417 ـ 449
8 ـ في القرآن آيات عديدة فيها تقاطيع موزونة عروضيّا ، ( رايت ) " قواعد اللّغة العربيّة "
ج 2 / 359 وهي نادرة جدّا ، ولعلّها طبعا من قبيل المصادفة .
9 ـ ثمّة قصائد منسوبة إلى أبي طالب عمّ الرّسول ، صلّى الله عليه وسلّم ، مذكورة في سيرة ابن هشام
ج 1 / ص 280 ( قصيدة هجاء من بحر الرّمل ، وقصيدة في مدح الرّسول ـ صلعم ـ من الطّويل ،
وقصيدة في تقريع المكيّين في اثنين وتسعين بيتا ج 1 / 292 ، وقصيدة في مخاطبة أبي لهب ) راجع
" نسب قريش " 200 ، إنّ جميع هذه الآثار الشّعريّة مصنوعة كما هو واضح .
10 ـ راجع " صحيح البخاريّ " و"لسان العرب " الّذي يدلّ على أنّهم كانوا في البصرة يوفّقون بين
إنشاء الشّعر من الرّجز المنهوك مع اللّعنة المصبوبة ، في الأصل على الشّعر بصورة عامّة .
11 ـ هناك أخبار تظهر هذا الخليفة معاديا للشّعر ( الأغاني ) ج 4 صص 140 ـ 144 .
12 ـ انظر ما روي عن تحريم منسوب إلى الخليفة عمر بن الخطّاب ذي علاقة بقصائد متبادلة قديما
بين المدنيّين المسلمين ومشركي مكّة ( مع ذكر سند كغيره من الأسناد ) الأغاني ج4 / 140 ـ 144 .
13 ـ انظر الأخبار الّتي رواها البخاريّ في صحيحه ج 4 / ص 51 .
14 ـ صحيح البخاريّ ج 4 / ص 52 .
15 ـ البيان والتّبيين ، ج 2 / ص 180 ، لعلّ التّحريم قديم جدّا .
16 ـ المصدر السّابق .
17 ـ انظر أحمد ضيف " بحث عن الغنائيّة والنّقد عند العرب " بالفرنسيّة ، ص 205 .
18 ـ راجع " الأغانيّ " لأبي الفرج الإصفهانيّ ، ج 4 / ص 142 .
19 ـ في رواية : " إنّ من الشّعر لحكمة وإنّ من البيان لسحرا " .
20 ـ قيل إنّ أبا بكر الصّدّيق ـ رضي الله عنه ـ وبلال الحبشيّ كانا ينشدان الشّعر في المدينة ، ولكنّ هذا
كان بتأثير البرداء ( الحمّى الأجميّة ) .
21 ـ انظر صحيح البخاريّ ج 4 / ص 51 ( رواية بيت من شعر لبيد ) طاهر النّحويّ " شرح سقط
الزّند " ( القاهرة 1202 هـ ) ج 1 / ص 2 ، ( رواية بيت من شعر أميّة بن أبي الصّلت ورواية
بيت من شعر طرفة بن العبد ) " مارغليوث ) " أصول الشّعر العربيّ " ص 419 مع إحالة إلى ابن
القيّم الجوزيّة في تلبيس إبليس ، ص 260 ، الأغاني ج 11 ص 76 .
22 ـ كان الخليفة عمر بن الخطّاب يستنشد جلساءه شعر زهير بن أبي سُلْمى شاعر الشّعراء ، لأنّه
( كان لا يعاظل في الكلام ، ولكن يتجنّب وحشيّ الشّعر ، ولم يمدح أحدا إلاّ بما فيه ).الأغاني 10/289
ـ 290 .