قصة قصيرة "عرض المنصة" للمشاركة فى مسابقة يناير 2014

عرض المِنَصَّة


في البدء كانا برميلين متجاورين، يقف عليهما شابٌ طويل، غالبًا ما يكون وسيمًا يلتفّح بشالٍ فلسطيني أو كوفية صوف على قميص مشجَّر وبنطال من الجينز، غالبًا ما يكون أزرق اللون، يترك لحيته تزحف على وجهه، ثم تطور الأمر ليصبح البرميلان مسرحًا صغيرًا من الخشب لا يتجاوز ارتفاعه المترين وميكرفون صغير، ثم صار المسرح الصغير كبيرًا، يتكون من ألواحٍ كثيرة من الخشب، دُق فيها كميات كبيرة من المسامير وشاشة عرض ومايك وسماعات ومؤثرات صوتية، يقف عليه نفر ما بين ثلاثة وتسعة يتقاسمون الكلمات والأهازيج، يثيرون حماس المستمعين والمتجمعين فتأتي الصيحات والزفرات فتعلو وتيرة الأحداث كأن القيامة قد قامت في عصر يوم جمعة.
هذه هي المنصة برميلان ثم مسرح صغير، ثم مشهد تنحصر له الأبصار، وتُحبس له الأنفاس وتُدق له القلوب.
رأيت مسارح عدة، المسرح العائم في إيطاليا والمسرح الروماني في مِصر، لكن فكرة المِنصَّة لم أرها إلا في مِنصَّة النصر، تلك التي تتكون من طوابق عدة لكبار الزوار والتابعين، يجلس فيها مشاهدو العرض الكلاسيكي النمطي الذي يُقدَّم كل عام، لكن المنصة التي رأيتها مكوَّنة من طابق واحد، واحد فقط، يقف عليها الشاب والطفل والمرأة والشيخ والعالم والمثقف والمتواضع والبسيط، على خشباتها يقف الجميع متساوو الأكتاف، تختلف رؤاهم لكنها تتفق في المكان والزمان.
موعدنا يوم الجمعة، عرض خاص على المنصة، بطلا العرض في هذه الجمعة هُم محمد ومينا، ليسا بطلين عاديين، سيقدمان عرضًا رائعًا، سترهق الأيادي المصفقة وتضحك الوجوه الواجمة، موعدنا يوم الجمعة، عرض "محمد ومينا"، هكذا نادى المنادي، أن احتشدوا في يوم الجمعة حول المنصة المهيبة، طوبى لمن يحضر العرض وتعسا لمن يفوته كلمة يقولها محمد أو مينا.
في يوم الجمعة صحوت باكرًا، إن شئت قلت أن النوم جفاني، على غير عادتي نزلت قبل الصلاة، مررتُ على صديق لي، يحتمل رعونتي ويصدق نهفاتي ويستمتع بفتور كلماتي، قلت له سنصلي الجمعة في الحسين، ثم نذهب إلى المِنصَّة، سنقف أمامها مباشرة، قال لي ستصم آذاننا أصوات مكبرات الصوت فقلت له في حزم: لا ضير، كل شيء يهون في حضرة محمد ومينا.
بالفعل كنا أول المجتمعين حولها، لامسناها بأيدينا، تركناها تملس على أخشابها وسجادها الذي غطاه غبار الأحذية المتسلقة، قال لي الصديق الذي يعمل مهندسًا معماريا: هذه المِنصَّة كبيرة بحق، ربما بنيت بمائة لوح خشب وعشرة الآف مسمار، و...
لكزتُه في كتفه ليكف عن الثرثرة، قلت له في همس: اصمت، حان وقت العرض. أطرقت بعيني إلى الخلف فوجدت الأعداد في تزايد، في البدء كانوا مئات ثم الأف ثم ألوف مؤلفة، أعينهم شاخصة، صخبهم صامت، وحذرهم مترقب، جاء المنادي ليصنع لحظات التشويق والترقب، قال بصوت جهورى: سيبدأ الآن عرض الحياة، من فوق تلك المِنصَّة سيبدأ الطلق الأول في ولادة الحرية، أرهفوا السمع وأعيرونا العيون والآفئدة. فجأة، ظهر محمد ومينا، يرسمان ابتسامة صافية، خرجت من قلبيهما النقيين، قال محمد: أيها الناس، اسمعوا وعوا، اليوم جئت إليكم لأنبئكم بأمر جلل، إن في القُطرِ ثورة، عصماء، بيضاء.
ثم قال مينا: ياقوم آن الأوان لتبدل الراحة جحيم حياتكم المبتئسة.
صفق الجميع استحسانًا لهذا العرض الموجز، هتفَ جمع باسم محمد وآخرون بحياة مينا، دُقِت الطبول، علت الدفوف، عزفت المزامير، ثم سقط الاثنان في نشوة الفرحة.