التاريخ / 6مارس1994
بدلة صيفية (بيج فاتح) وكرافت Valantino إشتريتهم خصيصا لتجربة ركوب الطائرة لأول مرة.
الرحلة إلى كيجالى (العاصمة الرواندية).... على مرحلتين ....ترانزيت نيروبى (عاصمة كينيا)....الإقلاع منتصف الليل . الترانزيت 6 ساعات نستبدل الطائرة بأخرى.....نيروبى.......... كيجالى.
معظم الرحلات من القاهرة إلى داخل افريقيا والعودة أيضا تتم منتصف الليل ربما بسبب الحرارة.....؟
لم أكن وحدى .. برفقتى أحد الزملاء (د.هانى . ش ) طبيب تخصص مسالك بولية (جراح )...من القاهرة ..كنا قد إلتقينا سابقا بمبنى وزارة الخارجية. فى الدور المخصص لمكاتب صندوق الدعم الأفريقى....ورحلتنا كانت كمبعوثين (خبراء) للعمل بالدول الأفريقية والتى ينقصها بعض الخبرات فى مجال الطب على وجه الخصوص.
قبل الإقلاع طلبت من هانى الجلوس بجوار النافذة حتى أقوم بوداع مصر حيث لم أكن أنتوى العودة مرة ثانية .كنت قد قررت العمل فى رواندا لأربع سنوات أو خمس وتوفير نقود أسافر إلى استراليا وأستقر بها نهائيا ...لإننى إعتبرت أن مصر على وضعها آن ذاك 1994 لا أمل فيها وستنحدر من سئ إلى اسوأ.
وصلنا نيروبى بسلامة الله....بالطبع الحقائب زائدة الوزن
ولكن نحن لا نتسلمها فى الترانزيت.. نراجع عليها فقط وتوضع فى المخزن..... معى الهاند باج فقط و التى وضعت بها كتب الطب باللغتين الإنجليزية والفرنسية و كانت تزن 39ك جم بالتمام والكمال .. لو وضعتها فى باطن الطائرة لدفعت غرامة وزن زائد ... الحقائب بباطن الطائرة.وضعت بها كل ما أمتلكته آن ذاك....
تعرفت علينا مندوبة شركة الطيران فى سهولة وعندما سألتهاعن ذلك أجابت من الشياكة التى تسافرون بها ! المهم مرت الساعات حتى جاء موعد الطائرة. .نادوا علينا وبعد أن عبرنا البوابة فوجئنا بحمامة
بيضاء على الممر أمامنا.. قيل لنا أنها طائرتنا...(طائرة 40 راكب روسية الصنع )
ميكروباص طائر ... ماتكفيش الشنط وحدها ! ....ركبنا الطائرة التى
حوت خليط عجيب يمثل حوالى 20 دولة..... ومن أربع قارات على الأقل
الساعة الثانية عشر ظهرا...... وموعد الإقلاع 12 و15 دقيقة
الطائرة على الممر والمحرك لم يعمل بعد.....درجة الحرارة داخل
الطائرة لا تقل عن أربعين.... خلعت الكرافت والجاكت ثم القميص
ثم الفانلة الداخلية ...ثم بدأت أسكب الماء من زجاجة الماء البارد
على رأسى
لتظهر آثار تسلخات على أكتافى........ نتيجة لوزن الهاند باج
تجادلت مع طاقم المضيفين وأجبرتهم على السماح لى بالخروج من الطائرة وتحركت بعيدا عن الممر حتى أستطيع أن أدخن سيجارة ..الساعة الثانية والنصف بالتمام... أتت المضيفة لتصطحبنى مؤكدة لى أن الطائرة ستقلع ....عدت معها .....وأقلعت الطائرة بسلامة الله
وصلنا إلى كيجالى وأرتديت البدلة التى أصبحت تشبه بدل الصاعقة...كما لوأنهم مسحوا بها أحذية الركاب......................... كل هذا نسيته عندما
نزلنا من الطائرة........فالمنظر هنا أكثر من رائع....لوحة رسمتها الطبيعة الخلابة....
الجو فى رواندا جميل....ودرجة الحرارة ثابتة طوال العام (24 درجة م ) لإرتفاع كيجالى عن مستوى سطح البحر حوالى 3000 متر..وهى عبارة عن مجموعة من الهضاب.. ويطلقون عليها بلد الميل كولين ( أى الالف هضبة) ......اللون الأخضر هنا نقى وجميل متعدد الدرجات......لم أرى مثله من قبل.
إستقبلنا عند باب الطائرة الاستاذ / جمال أحد موظفى السفارة ....وخرجنا بدون أى معوقات تذكر ومن صالة كبار الزوار .....والشنط طبعا لم تصل
أوصلنا الموظف عند منزل أحد الزملاء وهو طبيب أيضا... (د.ك )........
(ومن باب العلم فقط ( د.هانى و د. ك من الأخوة المسيحيين)
المنزل يشبه فيلات المعادى فى أوائل السبعينات و الحى هادئ من الأحياء التى يقطنها الأجانب.....مرت الليلة جميلة ونمت وأنا متفاءل
فى الصباح التالى ذهبنا إلى السفارة المصرية
والتى تعتبر فخر لمصر من حيث المساحة والمبنى الفخم والعلم المرفوع عليها .....حاجة مشرفة.
قابلنا السفير ...الأستاذ سامح درويش رجل ذو كاريزما لماح وخفيف الظل....
علمت أن مبنى السفارة ملك مصر وهو جديد وأن هناك آخر مماثل فى بوروندى..
وأن وزير الدولة السابق للشئون الخارجية والذى كان يعمل حينها سكرتير عام الأمم المتحدة.....هو من ساعد على بناء السفارتين .
على الفور قام السفير بدعوتنا على العشاء للتعارف...فى( منزل الملحق طبعا ) الذى لم يبدى أى إعتراض...لكن عيناه كانت تقول شيئا آخر!
مر العشاء جميل وباسم إلا من جملة إعتراضية لم يعلق عليها أحد...تذمرت فيها زوجة الملحق من الحبسة !....وأبدت رغبتها فى العودة إلى مصر وهذا ربما يفسر سبب النظرة التى إعتلت وجه الملحق عند إقتراح العزومة.
لم تخلو الجلسة من سماعنا لبعض أصوات الطلقات النارية المتقطعة
لم تفرق معى كثيرا.. ولكن تساءل عنها د. هانى ......هذه الأصوات والتى
لم نسمعها الليلة السابقة فى المنطقة التى يسكن بها د. ك ...............
بعد العشاء إقترح علينا د.ك أن نكمل السهرة فى ديسكو ..لم نمانع
ولكنى سألته عن السرقة المسلحة..... فأخبرنى ...أن الرئيس
جوفينال هابياريمانا..(هو إسمه كده ) أصدرأمرا بإعدام مرتكبى السرقة
بالإكراه.... وتعليق جثثهم فى الشوارع ......وتم إعدام حوالى ثلاثين من اللصوص
أصبحت رواندا بعدها أكثر الدول الإفريقية آمانا بالنسبة للأجانب والسواح.........!
عدا (0الشئ العادى) خطف قطعة نقدية أوشنطة تحملها فى الشارع أو فى أحد الأسواق....أشياء من هذا القبيل
وتعلمت من يومها ثلاثة أشياء أثناء التجوال فى بلد غريب
هذا بالأضافة لباقى التعليمات التى ينصح بها السواح والأجانب
وهى:
1-إذا رأيت نفس الوجه مرتين فى جولة واحدة..... فهذه ليست صدفة
2-إذا شعرت أن هناك وقع أقدام خلفك توقف وأنظر لوجه المتقدم جيدا
ودعه يمر أمامك.....وسر أنت خلفه
3-إذا توقف بأى حجة فلا تترك الطريق الرئيسى بأى حال حتى لوكانت الطرق الجانبية تؤدى إلى منزلك مباشرة.
أعجب ما فى رواندا أنه لايوجد بها سيارات الأجرة (التاكسى ) ووسيلة المواصلات الشعبية هى الأتوبيسات (وهى مهداة من اليابان للشعب الرواندى) ولذلك يرفض الأهالى ركوب الأجانب بها بإعتبارها هدية لهم....
وتتبقى وسيلة واحدة بخلاف السير على الأقدام ....وهى الدراجات البخارية
التى يقود معظمها صبية فى السادسة عشر أو أقل.......
ولك أن تتخيل أنك تنزل طريق حلزونى من أعلى جبل على دراجة بخارية يقودها صبى لاتعرفه ويسير على حافة الطريق وتكتشف من الرائحة أنه سكران .. .عشر دقائق من الرعب المتواصل ... ...بدأت بعدها
التفكير فى شراء سيارة....بالفلوس الإحتياطى التى كانت بحوزتى.....أسعار السيارات معقولة ...الجمارك أقل من 10% زى باقى الدنيا (عدى مصر) التى يسرق فيها المواطن بشتى الطرق.............
ما علينا بدأت الخيوط تتجمع لدى وأعرف كل شئ عن رواندا
- السكان 6مليون نسمة تقريبا....4.5مليون من قبيلة الهوتو
1.5مليون من قبيلة التوتسى...منهم نصف مليون داخل رواندا
- ومليون لاجئ على حدود أوغندا منذ عام 1962حين قام الهوتو بثورتهم للتحرر من البلجيك والتوتسى.
- الرئيس الأوغندى متزوج من إحدى بنات التوتسى
وقد أستعان بهم لعمل الإنقلاب العسكرى الذى حكم به أوغندا
ولذلك هم مقاتلين جيدين ومدربين ومسلحين جيدا
- رواندا إحتلها الألمان فى القرن التاسع عشر
- وبعد الحرب العالمية الأولى آوائل القرن العشرين وقعت تحت سيطرة القوات البلجيكية
- وأصبحت رسميا تحت الإنتداب البلجيكى عام 1934.. وقد أسس البلجيك بها العديد من الطرق وأهتموا بالتعليم والزراعة والصناعات... أنشأوا دولة ...... معتمدين أساسا على أبناء التوتسى ..... وقاموا بالتفرقة بين ابناء القبيلتين كطبيعة أى مستعمر......حتى البطاقات الشخصية كان يكتب فيها توتسى أوهوتو....
- يتواجد البلجيك بصورة رمزية كحماية المطار مثلا.......هذا ما رأيته
- جيش الهوتو تدريب وتسليح فرنسى والجنود يحملون بنادق صناعة مصرية.. عندما سألنا عنها قيل لنا أنه فى آوائل الثمانينات
حاول التوتسى النزوح إلى الداخل وإستنجد الرئيس الرواندى بمبارك فأرسل
له بعض السلاح وكان من ضمنه تلك البنادق..!!!!!
- أما الجبهة وهى مليشيات التوتسى فسلاحها أمريكى إسرائيلى
-
- هناك قوات من الأمم المتحدة لحفظ السلام ( أصحاب القبعات الزرقاء ) كما يطلقون عليهم.. رئيسهم كندى الجنسية ومعظم القوة بنغالية......(من بنجلاديش )
الوضع فى بوروندى لايختلف كثيرا... أغلبية من الهوتو ...والرئيس أ من الهوتو ولكن الجيش من الأقلية التوتسى وكذلك معظم المناصب
الإدارية العليا.....ورواندا وبوروندى كانتا دولة واحدة فى السابق....أيام الإحتلال الألمانى.
-هناك فرق ملحوظ فى الشكل بين أفراد القبيلتين فرجل قبيلة الهوتو
فى الغالبية أفطس الأنف ذو شفاه غليظة......أما رجل التوتسى ذو
أنف رفيعة وشفاه رفيعة ورفيع الجسد غالبا
-نساء التوتسى شبه نفرتيتى ...و بالرغم من سمار اللون هناك
من لهن عيون ملونة.
منذ وصولنا ونحن نعلم بوجود وفد من جبهة التوتسى لإجراء
مفاوضات سلام مع الرئيس الرواندى تحت إشراف ووساطة العديد
من الدول..... و معهم بعض القوات الرمزية يعسكرون فى مبنى البرلمان.....هذا ملخص المعلومات التى أمتلكتها فى الإسبوع
الأول لى فى كيجالى.
المهم إتفق معنا السفير وكذلك الأطباء الروانديون على أن
اول شهرين
لنا هى فترة تأقلم نتردد فيها على المستشفيات ونتعرف على
الجميع ونجهز أوراق الإقامة ونبحث عن مكان لهذه الإقامة ثم نختار
المستشفى التى نرتاح إليها .
كلام جميل .....نستيقظ يوميا لزيارة إحدى المستشفيات أو للبحث عن مسكن أولإستخراج أوراق الإقامة أو رخصة القيادة أونتفرج على سيارة. لشراءها
بعد أسبوعين من وصولنا توجب علينا مغادرة منزل د. ك
لأن زميلا آخر سيحضر من الأجازة وهو شريك د.ك فى المنزل
إختار لنا السفير فندق ديبلومات.......وهو فندق بلجيكى يديره
بطل الفيلم الشهير(Hotel Rwanda) وهو بالفعل صاحب شخصية عظيمة لماح طيب وتلقائى ومتفهم ....رجل سياحة بحق
إستأجرنا جناح بالدور الأول .....غرفة نوم كبيرة وريسبشن واسع
وتراس رحب وجميل يطل على ملاعب التنس والتى تنتهى بسور
معسكر القيادة العامة للقوات المسلحة الرواندية ...من الهوتو .....!!!
أما من الجهة المقابلة فى الشارع فيوجد المستشفى العام وهو المستشفى الذى سنعمل به غالبا
وعلى نفس صف الفندق قبله بمنزلين فقط فيلا رئيسة الوزراء
ولكننا لم نكن نملك هذه المعلومة فى وقتها
فندق أخر شياكة... أينعم سيبتلع نصف المرتب إنما الله غالب
وإلى أن يتوفر المسكن نستغل الفرصة...... أخرجت مضارب التنس
وملابس التنس.......... ألم أقل أننى أخذت كل شئ معى .
تعرفت إلى المدرب وكان يدعى( كندا) من التوتسى ومن الواضح
أنه كان من أبطال إفريقيا فى التنس سابقا.......شخصية أخرى جميلة وسلسة نشاط يومى جديد.......
فى الفندق وفى خلال أيام بسيطة تعرفنا على جميع النزلاء... المقيم إقامة دائمة أوحتى السياح....... خليط عجيب من كل الدنيا
السياح فى الغالب لزيارة الغابات التى تعيش فيها ... الغوريلا النادرة التى تشبه كينج كونج (فى الفيلم الشهير أيضا ).....فهناك موطنها الأصلى. أوتجار لشراء الشاى...أوتوريد أى بضائع أخرى..هنود ويمنيون ولبنانيون وفرنسيون واشياء أخرى..................
مر الإسبوع الثالث هادئا...وممتعا كأننا فى رحلة سياحية.. لمكان جميل
الساعة 7 ص القيام وممارسة التنس لمدة ساعة والحمام الدافئ...النزول إلى المطعم...... التجول فى المدينة ..........ولكن لايخلو من سماع بعض أصوا ت الطلقات هنا وهناك
بدأنا لعب البريدج فى الفندق لتمضية الأمسيات الزملاء يحضرون إلى مكان إقامتنا
بالفندق مصطحبون أحيانا بعض الأخوة العرب ....طبيب من تونس
يعمل مع أطباء بلا حدود.........وآخر إبن أحد القيادات الليبية
وملحق بالسفارة الليبية نسهر معا فى الفندق ...أو نخرج إلى أحد صالات الديسكو............والأمور تسير على مايرام.
المهم أثناء البحث عن منزل وأنا أتحدث مع أحد الملاك أكد لى أنه يعرفنى جيدا وأنه رآنى من قبل ولا يتذكر أين ..... فقلت له مازحا يمكن فى التليفزيون فصدق الرجل هذا بكل بساطة وسط ذهول د.هانى الذى لم يتمالك نفسه من الضحك......لأنى شرحت للرجل البرنامج الذى إستضافونى به.!!!
أخيرا وجدنا منزل.... ستخليه سيدة فرنسية منتصف الشهر التالى ودفعنا للمالكة أجرة شهرين (شهر مقدم + شهر تأمين ) على أن نبدأ السكن أول الشهر .... نترك فرصة 15 يوما لنتسلمه بعد التنظيف والدهان وإتمام كافة التصليحات... هذا هو النظام المتبع هناك.......
وحجزنا سيارة لأحد المصريين وهو خبير زراعى على وشك النز ول فى أجازة طويلة..... نتسلمها عند سفره....كان يسكن أحد الأحياء التى حذرنا السفير من السكن بها ويدعى (نياما رامبو)... ومتزوج من سيدة لبنانية
.فى نفس الحى تعرفنا على أسرة مصرية أخرى لخبير أنهى مدة تعاقده ويعمل بالتجارة ... يمتلك محل تجارى ويبيع خليط
من المنتجات ملابس وخردوات........ إقترب موعد عيد الأضحى فدعانا إلى الغذاء أول أيام العيد الذى إقترب موعده
ووعدنى بالمرور فجرا ليصطحبنى للصلاة فى المسجد الكبير وفعلا مر علينا على أن نعود لهانى ونصطحبه معنا وقبل الصلاة فوجئت به يكبر والأفارقة يرددون خلفه فى الساحة
أمام المسجد وعدد المصلين يقترب من الألفين وإذا به تنتابه نوبة
من السعال المتواصل مما دفعنى للقيام بدوره............
.شعور جميل وتجربة جديدة .
قضينا اليوم سويا و بعد الغذاء....فى العصرية ذهبنا لأحد الفنادق الكبرى ...أكثر ما أعجبنى فى به هو إمتلاكه لمجموعة جميلة وغريبة من الزهور عرفت بعد سؤالى أنها من أندر المجموعات فى العالم .
مرت عدة أيام الجميع فى الشوارع يحملون الراديو الترانزستور ليتابعوا الأخبار حيث المباحثات تجرى على قدم وساق بين القبيلتين.....لم ألحظ شئ غير عادى ....فقط لفت إنتباهى الزيادة الهائلة فى أعداد الغربان بشكل غير طبيعى عن الأيام السابقة......وتساءلت عن هذا....ولم يجيبنى أحد!!!
فصل ممطر تفاجئنا السماء أى وقت ببرق ورعد وأمطار غزيرة ولكن البلد كانت تجف فى أقل من ساعة لا تجد فى الشوارع نقطة مياه واحدة.......وكإنها قد غسلت وتم تجفيفها بل وكيها أيضا
إحدى الأمسيات العادية جدا بالفندق نلعب البريدج كالعادة و فجأة
سمعنا صوت مرور طائرة منخفضة وبطيئة وكأنها على وشك الهبوط وهو أمر غريب فى كيجالى ....حيث أن المطار يغلق الساعة الخامسة مساء قبل حلول الظلام....وإتفق الرأى على أنها طائرة الرئيس ..لأنها الطائرة الوحيدة المسموح لها بالهبوط فى أى وقت.......
الرئيس الرواندى والرئيس البوروندى كانا قد توجها إلى تنزانيا لإنهاء المفاوضات مع قيادات التوتسى... ووضع اللمسات الأخيرة.وتوقيع معاهدة سلام تسمح للاجئ التوتسى بالعودة إلى الأراضى الرواندية
الأمورتسير على مايرام وبوادر السلام تهل على رواندا.....أخيرا....
لم يمر الكثير وإذا بنا نسمع صوت ....إنفجارين متتاليين............
هناك من قال إنها أصوات رعد ...وهناك من عارض مؤكدا أنها لأسلحة (مدفعية أو صواريخ ) ....وربطنا بين الحدثين..وبدء شعور القلق يجتاح المكان
قام الزملاء بالمغادرة مع الإتفاق إلى أن من يصل لأى معلومة
يقوم بإبلاغ الآخرين وأن نحاول أن نبقى يقظين حتى لاتفاجئنا الأحداث
الساعة على ماأعتقد كانت قد جاوزت الثامنة وأتجهنا إلى الراديو .....
لم يكن به شئ غير عادى.......فقررنا النزول إلى قاعة الطعام لتناول العشاء... (فى الأيام السابقة تعودنا على طلب صعود العشاء للغرفة ) والتحدث مع الجميع ربما هناك من يعرف شئ !!!
لم نستفد كثيرا من النزلاء ولكن القلق بدى على جميع الوجوه .....لاأدرى
بالتحديد ما الذى دفعنى .....لأخذ مبلغ كبير من المال قبل النزول للعشاء
ولكنى توجهت إلى البار.....وطلبت من البارمان شراء كل مالديه من سجائر من كافة الأنواع حتى المحلى منها .......لم يعترض الرجل ولكن الدهشة إعتلت وجهه...........وصعدنا إلى الغرفة مع دهشة هانى وتعجبه
من تصرفى....فقلت له إذا بدأت الحرب فكل شئ وارد... إنقطاع الماء أو الطعام ولكن هذا سيكون على الجميع وبالتدريج... ونحن نستطيع العيش بالقليل ..وبالنسبة للقهوة والشاى فعندنا مايكفى شهر أوأكثر
ولكنى لاأتحمل أن أطلب سيجارة من أحد.....أمنح منها ماشى أى كمية
ولكن لن أطلب من أحد.....
الراديو ....كل الإذاعات تحولت إلى أصوات صرخات عالية ...أنواع من
الأوبرا الغير واضحة...................................................
وبدأ الحفل الكبير أصوات طلقات لجميع أنواع الأسلحة.....من قريب ومن بعيد.............وبدون راحة.........
من الشباك الجانبى نشاهد أنوار تتحرك فى السماء كتل حمراء تطير فى
أتجاهين متعاكسين أمامنا......وبدء الهرج والمرج.....يجتاح الفندق
تقابل الجميع فى الداخل وعلمنا أن طائرة الرئيس قصفت على الممر
بالمطار وقتل الرئيس الرواندى والبوروندى أيضا......وقيل لنا
أن المعركة الدائرة ربما تكون بين مقدمة ميليشيات التوتسى وجيش الهوتو........وهذا مالم أستطع تصديقه !!............. ال600 جندى المتواجدون من قوات التوتسى
لايمكن لهم التصدى لجيش الهوتو حتى لساعة واحدة ....و باقى القوات يستغرق وصولها إلى العاصمة أياما .
ولكن القتال ظل دائرا منذ تلك اللحظة ولمدة ثلاث أيام متتالية
وكذلك الصراخ الموجود بالراديو..... والتليفزيون الموجود بلوبى الفندق
المهم بدأنا نجمع الماء إحتياطى فى كل مايستوعب الماء عندنا من باب الطوارئ
اليوم الأول مر بلا نوم على الإطلاق......وفى الصباح الباكر (الفجر )
بدأنا نسمع صوت إطلاق الرصاص من أنواع مختلفة مسدسات وبنادق
وبنادق آلية فى المعسكر المجاور للفندق والذى به مركز قيادة جيش الهوتو.....الغريب أننا كنا نسمع أصوات صراخ ...كإنها عمليات إعدام
رميا بالرصاص أو أصوات من أصيبوا بها.....كان تبادل الطلقات ضعيفا
من جانب وكثيفا من الجانب الآخر
(طلقة----يرد عليها بمئات الطلقات )......تسللت إلى التراس زحفا وكان هناك بعض الفتحات لأختلس النظر.....لم أرى الكثير سوى تحرك لبعض
السيارات والآليات داخل المعسكر و فجأة دوى إنفجار لسلاح الآر بى جى تقريبا ثلاث مرات.... تلاه صرخات عديدة ....ثم تصاعد دخان كثيف فزحفت عائدا إلى الغرفة
...وأغلقت النافذة.......كان هناك أحد أفراد قوات الأمم
المتحدة وهو رومانى الجنسية ....حضر ليطلب منى بعض
السجائر لأن عامل البار أخبره.. فأدخلته وأعطيته علبة كاملة ...
..تجاذبنا أطراف الحديث.....وقال لى أنه لا يدرى
من يقاتل من........ فمعلوماته تؤكد أن مليشيات التوتسى قد بدأت
التحرك من عند الحدود الأوغندية ولكن وصولها إلى العاصمة يستغرق
من أربعة إلى سبعة أيام ....يتوقف هذا على ماستواجهه من مقاومة وعلى حالة الجو أيضا
فأخذنا نحسبها من كافة الأوجه.......لنصل إلى نتيجة عجيبة
وهى أن قوات الجيش تقاتل الحرس الجمهورى(كما يحدث فى أى إنقلاب عسكرى !!! )....فى رواندا الإثنان من قبيلة الهوتو......
ربما يكون صراع على السلطة بعد وفاة الرئيس... ولكن هل هم من الغباء ليتقاتلوا وقد بدأت قوات التوتسى فى التحرك إلى الداخل ؟
اصبحت أصوات الحرب الدائرة شبه عادية وكإنها الموسيقى التصويرية
لفيلم عن الحرب العالمية الثانية.......نعيش حياتنا العادية.... الإفطار بالغرفة يأتى كاملا.........
ولكننا لا نأكله........ نشرب القهوة بالحليب فقط ونخزن العيش
والزبد والجبن المغلف والملح والفلفل أيضا.........أما وجبة الغذاء طلب
منا أن نتناولها فى المطعم لأن هناك نقص فى العاملين الذين غادروا و لم يستطيعوا الحضور.......
ونفس الشئ.... نأكل فقط مالانستطيع أن نخزنه أونرفعه معنا لوضعه
فى ثلاجة الغرفة.......وكما توقعت لم يكن هناك مخزون سجاير بالفندق
خمور فقط فليشربوا هم ويتركوا لى التدخين...................
.........إتصلنا بالسفارة
ووجدناهم مثلنا ليس عندهم معلومات عن أطراف المعركة الدائرة وطبعا
أخذوا يحذروننا من كل شئ ....والتوصية بأن نتصل بباقى الزملاء
بإستمرار.....وطلبت أن يخبروا السفير بالنتيحة التى توصلت إليها
مع صديقى الرومانى............. وفى المساء إتصل السفير بى وطلب
منى محاولة دخول إحدى الغرف فى الجهة الأخرى من الفندق لرؤية
مايدور فى قصر رئيسة الوزراء والذى يمكن رؤيته من هذه الجهة
على أن يكون ذلك فى الصباح...........وهذا مالم يحدث لأنه فى الصباح التالى... علمنا أنه تم قطع جميع خطوط الهاتف ...........وهذه مصيبة أخرى .
فى الصباح بعد الإفطار كنت أتجول بالفندق ...حدث ماهو أغرب من الخيال......إذ بى أستمع إلى أم كلثوم إنت عمرى ...إعتقدت أننى أحلم
أو أن خطأ ما وقع ...أخذت أبحث عن مصدر الصوت ..كان صادرا من
غرفة المدير ...طرقت الباب ولم يجب أحد....فتحت الباب ...لايوجد أحد بالغرفة وكان الصوت من التلفيزيون...والأغنية كاملة....تذاع من محطة
ال TV5 الفرنسية إحتمال بمناسبة يوم وفاتها الذى لا أعلمه.....جلست
بجوار الباب أستمع لأم كلثوم ....وحضر هانى الذى كان يبحث عنى وإستمعنا للأغنية .....كاملة.....أغلقنا الباب وصعدنا إلى الغرفة ونحن
فى حالة غير طبيعية..ينتابنا خليط من المشاعر المتضاربة...........
نزلنا لتناول الغداء...... الجميع فى حالة خوف ولكن مع تعود على
صوت القتال الدائر ....مثلا أحد يتحدث ودوى صوت إنفجار
قريب....يصمت برهة ثم يعاود الحديث....كأن شيئا لم يكن..........
عندما اتى المساء......سمعنا أصوات طلقات نارية وصرخات تسكتها
أصوات طلقات أخرى......من اتجاه المستشفى .....وبعد ذلك ...صرخات
أقل وطلقات أقل من الجانب الآخر.....وهدأت الأصوات.....سمعنا بعدها
صوت سيارات نقل ...فزحفت إلى النافذة أنا وهانى بعد أن أطفأنا الأنوار
رأينا ما لا يحب أن يراه احد رأينا رجالا يرتدون ملابس جلدية صفراء
فسفورية.. وقفازات نفس اللون...يرفعون ....جثث لا حصر لها على سيارت النقل
كما ترفع اجولة الأسمنت يمكن الأسمنت يرفع بعناية أكثر...............
كما يرفع الردم....هذا أقرب
دخلنا إلى الغرفة فى حالة صدمة شديدة......... ونزلنا مباشرة إلى بهو
الفندق...وكأننا لصوص نحاول أن نندس وسط الناس حتى لا يرانا ...
الثانية أجبرت نفسى على النوم لمدة ساعتين حتى أستطيع
المواصلة وتحمل ماهو قادم والذى لانعلمه
صباح اليوم الثالث..........هدأ القتال فجأة ......وتوقف إطلاق النار تماما
خرجت إلى التراس ومن أقصى الجانب الأيمن وهو الجانب الذى يرى الشارع الرئيسى......رأيت سيارات الجيش عائدة للمعسكر ومعهم أسلحة
وأسرى الحرس الجمهورى ......وتأكد ماتوقعناه
......فى هذه اللحظة دخل علينا الصديق الرومانى ليخبرنا بالجديد من
المفاجآت.... أولا: هناك مذابح جماعية تجرى ضد المواطنين من التوتسى مايسمى بالتطهير العرقى ...........(جينو سيد)
ثانيا : أن قوات التوتسى تقترب من العاصمة...................
وأن الهوتو جيشا وشعبا يفرون فى كافة الإتجاهات
ثالثا : وهو خبر...أغرب من سابقيه.. تم قتل القوة البلجيكية التى كانت تحمى المطا ر وعددهم..... (17 جنديا على أعلى كفاءة قتالية حسب قوله).....مع مقتل الرئيس
وأن جثثهم موجودة فى مشرحة المستشفى العام الموجود أمام الفندق......وطلب منا عدم البوح بأى من هذه الأخبار على الإطلاق .
وأظنه إستحق علبة السجاير الثانية عن جدارة......
ومن باب الطفاسة المعلوماتية سألته عن رئيسة الوزراء فألقى المفاجأة الرابعة :.....لقد تم قتلها هى وعائلتها .... هل تكون جثتها من ضمن ما رأيناه بالأمس ..؟؟ حكينا له كل ما رأيناه بالأمس...................... وتبرع بالمعلومة...
الخامسة: .. وهى أن كل عائلة الرئيس غير معروفة المصير................بصراحة مارضيتش أسأله عن حاجة ثانية
وعندما خرج ......قلت لهانى...... علمت الآن فائدة السجاير.....
اليوم الرابع: مع أن الأيام خلال فترات الحروب لاتحسب كالأيام العادية
24 ساعة ونهار وليل وخلافه
وبعد فترة نوم تقرب من الأربع ساعات .....نزلنا للإ فطار فى المطعم
أصوات القتال مستمرة....هذه المرة بين قوات الهوتو والتوتسى
أخبرونا أن هذه آخر وجبة يستطيع الفندق تقديمها لنا...الجميع نظروا
إلى بعضهم دون كلمة واحدة من أحد
انهينا الإ فطار وصعدنا لغرفتنا.....وخرجنا إلى النافذة..لنتلقى المفاجأة الجديدة..... مجموعة من سيارات المرسيدس السوداء تدخل من بوابة
الفندق ويخرج منها عائلات إفريقية....ويتوالى المشهد ......
نزلنا إلى البهو لنجد الفندق وقد إمتلأ بالأطفال والنساء وقيل لنا أن هناك
إجتماعا لكبار رجال الدولة فى الصالة الكبرى بالفندق....منذ الصباح الباكر لتشكيل حكومة جديدة ...... وبالفعل تم تشكيل حكومة وإختيار رئيس جديد ....ورئيسا جديدا للأركان.......
إنتهى الإجتماع...وخرج الجميع ليمر على مقربة خطوة واحدة الرئيس
ورئيس الوزراء ....ورئيس الأركان ويجلس على الكرسى المجاور....
بعد قليل حضر صديقى الرومانى....وطلب منا الصعود لنشاهد قوات الأمم
المتحدة وقد أخرجت جثث الجنود البلجيك من المستشفى واضعين على الصناديق........ملاءات بيضاء وعلم بلجيكا وعلم الأمم المتحدة إيضا.....
وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث ....ووصلنا إلى النتائج التالية:
أولا :أن الفندق سيصبح هدفا للقصف من قوات التوتسى لو وصلت إلى كيجالى
ثانيا : أنه مع تزايد عدد الروانديين فى الفندق.......وهم عائلات الحكام
الحاليين ممكن أن يحتاجوا إلى غرفنا فماذا سيكون موقفنا.............
تناولنا الإفطار ,وحاولنا النوم ..... بعد الظهر ....نزلنا إلى بهو الفندق وتجاذبنا أطراف الحديث مع الجميع.....بدأ صوت القتال يرتفع قليلا وكأنه
يقترب منا ....... بالفعل فى المساء...صوت إنفجار ضخم....شيئا ما أصاب
الدور العلوى بالفندق....ولكنه كان خالى من النزلاء ولم يصب أحد بضرر
حاولنا الصعود للإستطلاع ....منعنا الحراس.......الأمور بدأت تأخذ منحى
أكثر خطورة الآن وأصبح من الضرورى مغادرة الفندق.........
مر الليل والجميع فى حالة رعب شديد وبعد فترة نوم قليلة....لاح ضوء الفجر....مع أصوات طلقات وقتال متقطع......غالبا على أطراف المدينة
نزلنا إلى بهو الفندق ...وخرجنا إلى الحديقة الأمامية لأول مرة.......
دخل إلى الفندق قائد القوات الدولية وبعض من أعوانه ....
ليجتمعوا مع الرئيس الجديد.....هكذا قيل لنا
قررت أنا وهانى أن نتحدث معه .....بعد الإجتماع.... ومحاولة الخروج معه ليوصلنا إلى السفارة ......حيث فرصتنا الوحيدة للنجاة..............
خرجوا بعد حوالى الساعة وأثناء خروجهم تحدثنا مع القائد الكندى وحكينا له عن وضعنا وعملنا... وافق بدون أى تردد... وقال أن أمامه ربع ساعة فقط.... وضح من كلامه أنه رجل محترم جدا وإنسان أيضا..... صعدنا إلى الغرفة لنحزم الحقائب بسرعة رهيبة وطلبنا الفاتورة ونزلنا إلى الريسبشن..... ودفعنا الفاتورة.........وإتجهنا نحو الرجل الذى
حدثنا بمنتهى الخجل والصراحة أيضا وقال أن مساعديه البنغاليين يرفضون
ذهابنا معهم ........وهو لايستطيع السيطرة عليهم مع هذه الظروف
أو فرض أوامره عليهم.....ووعدنا بالمرور على السفارة وإخبارهم بطلبنا
ومحاولة العودة غدا بدون البنغال وإصطحابنا
الغرفة ....هكذا صرخ هانى....قلت له إنتظر ومشيت ببطء نحو الريسبشن
وبمنتهى الهدوء طلبت مفتاح الغرفة الذى كان معلقا على التابلوه أمامى
فأعطاه لى الرجل .....وسألنى هل ستمدون الإقامة فقلت له نعم وسكت
وصعدنا إلى الغرفة .......فى حالة شديدة من الإحباط إنهار بعدها هانى
وإنتابته حالة من البكاء الشديد.....لم أقترب منه أو حتى تحدثت معه
تركته فى هذه الالة وفعلت أغرب شئ ممكن تخيله....دخلت الحمام
وملأت البانيو.........وخلعت ملابسى وجلست بداخله......أستمع إلى
أصوات الطلقات وأصوات القنابل والمدفعية.....وكإنها موسيقى كلاسيكية
سيمفونية الحرب والموت....ل تشايكوفسكى
..وخرجت بعد نصف الساعة......وبدأت صلاة ( ركعتين ) وأنهيتها بدعاء أو طلب من الله.....أن أموت دون إهانة من أحد....وأن يرسل من يدفن جثتى ..وأن يعين والدى.........أنهيت الصلاة
فشعرت بشعور غريب احس به لأول مرة فى حياتى
وكأنه لايوجد شئ فى صدرى ......وعقلى قد صار خاليا من دوشة كل الماكينات الدائرة وكأن أحدا قد أنزل سكين الكهرباء..... شعورغريب بالراحة .... تخمرت الفكرة فى ذهنى...(فكرة أننى على وشك لقاء رب كريم )
حاولت مواساة هانى و تهدئته وقد حدث قلت له لا يوجد عاقل فى الدنيا يقتل طبيب مالم يفعل شئ يؤذيه.. لإنه فى كل الأحوال ممكن يحتاج إليه...وكأننى صرت كائنا آخر غير الذى أعرفه................................
لم تمض سوى نصف الساعة ودق جرس التليفون .....وسط دهشتنا
ورددت فوجدته أ.جمال فسألته هل عادت التليفونات إلى العمل ؟.....فرد
قائلا ...أنا أتكلم من الفندق.... فقلت له أى فندق؟ رد قائلا أنا أحدثك من الريسبشن بالأسفل وقد أتيت لإصطحابكما إلى السفارة....حيث تجرى محاولة التجمع هناك ......لم نتمالك أنفسنا من الفرحة وقعدنا نردد الحمد لله ونحن نغلق الحقائب .....وفى لمح البصر كنا باللوبى....نعانق منقذنا الأستاذ جمال بطل الابطال...وما أن خرجنا إلى الحديقة ....حتى تلقينا الصدمة الأولى....حضر إلينا فى سيارة يحوى سقفها والجانبان على أكثر من خمسة عشر ثقبا لطلقات نارية ......وإثنان من جنود الهوتو مسلحين
إصطحبهما معه للحماية ....بأجر طبعا
ولكن هذا لم يقلل من فرحتى ...على الأقل لوقتلنا الآن هناك من سيبحث عنا......وطالما جمال وصل لنا يبقى نقدر نرجع...............................
ذهب أحد الجنود وظل الأخر معنا حتى نخلى مكان فى السيارة لجزء من الحقائب......ودار بيننا الحوار الآتى
قال جمال أوصلكم السفارة وأرجع ل دكتور ك
وباقى الزملاء
والاختيار الثانى أن نذهب جميعنا إليه.......ونجمع أثنان آخران معنا
ونتوجه بعدها إلى السفارة بجميع السيارات
الأختيار الثالث أن نبيت ليلتنا عند د.ك ونتحرك فى الصباح........
رحبت أنا بالإختيار الأخير من البداية..
بعد تحركنا حوالى كم واحد وإذا بأصوات طلقات نارية على سقف
السيارة فتوقفنا على الفور ...لبرهة لم نجد أحد حولنا ثم بدأوا يقفزون من
فوق الأشجار حوالى سبعة جنود وضع أحدهم فوهة سلاحه فى رأسى
لم أحرك ساكنا.....سألونا أول سؤال هل يوجد بينكم بيلجيك
فقلنا لهم كلنا مصريين ونحاول التجمع للوصول إلى السفارة المصرية
قالأحدهم هل معكم نقود فقلت له معى ماهو أحسن واخرجت ثلاث علب
سجائر.....فرح بهم جدا وأفسحوا لنا الطريق....والله لو طلبوا منا ترك
كل شئ والسير حفاة ماإستطعنا فعل أى شئ....أكملنا السير وإستوفقتنا
هذه المرة مايسمى بالمليشيات الشعبية (اللجان الشعبية) ....يقطعون الطريق بالأشجار وإطارات السيارات القديمة....ويحملون السلاح الابيض
قطعة سلاح كبيرة تسمى الماشيت....وتستخدم أيضا لقطع الاشجار.....طلبوا نقود وطعام وأى شئ أعطيناهم نقود وملابس.......
وعند دخول الحى الذى يقطن به د.ك لجنة عسكرية أخرى إستوقفتنا ووضعوا فوهة السلاح فى رؤسنا أيضا.......لإجد السلاح مكتوب عليه صنع فى مصر....أعطيناهم نقود وسجائر......هم لايطلبون المزيد ويتقبلون ماتعطيه لهم.....
وصلنا إلى منزل د. ك وكانت مفاجأة ....للجميع...
كان عنده ثلاث من الزملاء....
أصبحنا الآن سبعة مصريين.....وهنا قرر أ جمال أن يذهب إلى حي نيامارامبو....لإحضار التاجر المصرى وزوجته وإبنته....إصطحب أحد الزملاء وزودناه ببعض الأطعمة ....والنقود الرواندية والملابس والسجائر أيضا......كتصريح مرور.......وإنتظرناهم من الثامنة والنصف
تقريبا وحتى الحادية عشر...داخل المنزل تارة وخارجه تارة.....إالى أن وصلوا ....كانت الأسرة فى حالة إنهيار تام....لأنهم فى اللحظات الأخيرة
إستمعوا إلى أصوات مجزرة بالكنيسة المجاورة لمنزلهم.................
.وأنقسمت الآراء بين أن نتحرك مباشرة
أوننتظر إلى الصباح......وغلب رأي النهار له عينان......كان جمال يحمل
طبنجة... ا ثلاثة فقط نستطيع إستعمالها...فتبادلنا نوبات الحراسة
لكل واحد ساعتان ...برنجى وشنجى وكنجى كما فى الجيش ودورى الكنجى
أى الأخير.....مرت ساعتان من أثقل مايكون .....الحياة خدعة كبيرة تعيش ثلاثين عاما.....ولوحاولت تذكرها لن يستغرق ذلك سوى ثلاث
دقائق على أقصى تقدير..أستمعت إلى بعض الأغانى التى أحببتها والتى تذكرنى بمن أحببت ....
حتى لاح الفجر
وبدأت خيوط الصباح.......ما أجمل الصباح هنا شمس وضياء وعزف الطيور والهضاب الخضراء...حتى فى هذه الظروف الحالكة.
أيقظت الجميع ولم نستغرق طويلا .....بعد ساعة كنا جاهزين .....وضعنا
أعلام بيضاء وعلم مصر وتوكلنا على الله فى إتجاه السفارة.........مجرد
أن خرجنا إلى الطريق الرئيسى ....حتى إستوقفتنا الطلقات ..نظرنا إلى الاشجار وبالفعل قفز عدد كبير من الجنود .....وسألونا إلى أين أنتم ذاهبون.....فقلنا لهم إلى السفارة المصرية....قالوا أستسلكون هذا الطريق
وهو أول طريق إلى اليسار من الطريق الرئيسى ....قلنا نعم ............أخبرونا أن قوات التوتسى إحتلته الليلة السابقة....................
هذا بمعنى دقيق أن ورق الأشجار الذى تحرك فى هذا الطريق الليلة الفائتة قد تم إطلاق النار عليه....أى أننا لوتحركنا ليلا ......لكنا قتلنا جميعا.........
سألنا وكيف نصل ....دلونا على طريق جبلى يدور حول الحى يصل بنا فى
النهاية إلى السفارة...نمر على بعض القرى فطلبت منهم أن يختاروا أحدهم دليلا وحارسا ....وأعطيناهم بعض النقود ...بخلاف أجرة الحارس
وبالفعل أرسلوا معنا أحدهم...........خرجنا من شوارع ممهدة إلى طرق
جبلية شبه ممهدة .....ثم إلى طرق غير ممهدة على الإطلاق وبالفعل وقعت إحدى السيارات فى حفرة وفشلت جميع محاولات إخراجها وبعد حوالى نصف الساعة فوجئنا ب (كول) من العربات العسكرية المصفحة والغير مصفحة.... إقتربوا منا ,,لنجد رئيس أركان قوات الهوتو الجديد يسلم....
علينا أهلا يا دكاترة ...وهوالذى تعرفنا عليه منذ يومين بالفندق.....أمرجنوده فنزلوا ورفعوا السيارة وقال لنا أن نسير خلفه وفعلنا.....حتى أوصلنا إلى باب السفارة.........................................
وكأننا عدنا إلى وطننا ....وجدنا الجميع بالداخل ....كانوا قلقين علينا....و على جمال لأنه خرج وحيدا من السفارة بالأمس......
زال جزء كبير من القلق ......وبدأت بوادر الأمل عندما إجتمع بنا السفير...
وقال لنا أنه تم الترتيب مع القوات الفرنسية التى حضرت من الدول المجاورة...لتقوم بترحيل الرعايا الفرنسيين والأجانب...وأنه سيرسل مندوبنا إلى السفارة الفرنسية ..لمحاولة الرحيل فى نفس اليوم............
بعدها بنصف الساعة....خرج علينا الملحق أننا يجب أن نجهز أنفسنا
وأن علينا ترك جميع الأمتعة بالسفارة.....عدا الهاند باج....وهنا لطمة أخرى لى......ولكن ما باليد حيلة ....أخرجت بدلة كحلى لزوم الحفلات ووضعت قميصين وبعض الغيارات والشربات وبنطلون صيفى وتبقى فى الحقيبة مكان يكفى جهاز التسجيل أو الشرائط ...وبدون تردد أخذت الشرائط وتركت جهاز التسجيل ....مما أثار حفيظة هانى الذى كان يراقب
المشهد فقال لى........أتترك الكاسيت من أجل الشرائط فقلت له نعم هذه الشرائط بها ذكرياتى ولكن ماذا فى الجهاز فتعجب لقولى ولم يرد
وأنا أيضا تعجبت لردى هذا...........
فى الثانية والنصف خرج علينا الملحق مرة أخرى ليعلمنا أننا سنخرج بسياراتنا إلى المدرسة الفرنسية حيث توجد القوات.... كنقطة تجمع....وهى ليست بعيدة عن موقع السفارة.......ثم يتولى الفرنسيون الباقى بعد ذلك..........
وبالفعل خرجنا وتوجهنا إلى المدرسة..... وفى المدرسة الفرنسية
وجدنا عدد كبير من سيارات النقل العسكرية والعربات المصفحة
والجنود كاملى التسليح.................المهم أخبرونا أنه من الأحسن
أن نظل فى سياراتنا وأننا سنكون وسط الكول....حيث فى الأمام سيارة
مصفحة خلفها جيب عسكرية.....ونحن و ست سيارات نقل فى المنتصف والخلفية مثل المقدمة.
وأخبرونا أننا سندور حول المدينة لنصل إلى المطار...........الطريق العادى
وسط البلد يأخذ حوالى ربع الساعة للوصول للمطار والدوران هذا يأخذ
حوالى الساعة والنصف على أقل تقدير.........
بدأت المسيرة فى شوارع المدينة....كنا نسير بسرعة عادية ...وقف بعض الأطفال....يلوحون لنا فى الشوارع...لاأعلم من أين آتوا وماذا يفعلون...
قوات الهوتو على جانبى الطريق وأصوات قتال ولكن من بعد.....أخذت
أفكر فى هؤلاء الأطفال وأنا ألوح لهم ......ياترى من سيظل على قيد الحياة للغد.........
خرجنا عن الطرق المعبدة الوقت إقترب من المغرب... ولكن مازال نور النهار موجود...... وأخذت سرعتنا تزيد فجأة غالبا لهذا السبب.........
وتباعدت السيارات عن بعضها السيارات النقل تسير بسرعة نظرا لوعورة الطريق .....إلى أن صرنا وحدنا نتتبع آثار السيارات الأخرى...وفجأة إنقسم الطريق إلى شقين والأثنين بهما آثار سيارات ...
إخترنا واحدا منهما وتوكلنا........وبدون أى مقدمات فوجئنا أننا وسط حرب أهلية حقيقية الأهالى يقتلون بعضهم أمامنا.....ويحرقون المنازل
ويجمعون النسوة والأطفال ويقف على رؤسهم بعض الأطفال المسلحين
بأسلحة آلية والماشيت...............
لم يلتفتوا إلينا هم فقط ينظرون بتعجب......كما فعلنا نحن........الشئ الوحيد الذى أوقفنا هو تواجد جثث فى منتصف الطريق......وقفنا ونزل الأطباء وأزحنا الجثث وأوجدنا ممرا للسيارة حتى تعبر.......تكرر هذا عند القرية التالية وفى هذه المرة...رأيناهم وهم يعدمون مجموعة من الأسرى ونظروا إلينا ووجه أحدهم السلاح فى إتجاهنا لوحنا لهم ونظرنا إلى الأمام وأصابنا الوجوم.....وهو شعور لم يسبق أن شعرت به من قبل
رأينا برج المطار عن بعد لأنه عالى وعلى هضبة مرتفعة....... وكنا قد بدأنا نفقد الأمل فى الوصول إليه وإعتقدنا أننا ضللنا الطريق تماما.......
دخلنا المطار من باب خروج البضائع... وفى المطار رأينا
العجب من جميع الألوان... أوروبيين معهم أفريقيين من التوتسى يحاولون إصطحابهم معهم ..... بعض حيوانات الشمبانزى والببغاء وبالفعل كنا أول مجموعة من الأجانب يحضرون للسفر وأثناء تواجدنا حضرت بعض الراهبات مع مجموعة من الأطفال الأيتام.... أستأذنونا فى
أنهم سيغادرون قبلنا وكأنها طائرة أبونا ......المهم كل تأخيرة وفيها خيرة
كان هناك مصوريين من ال ................…..CNN& TV5 صورونا على أننا أول مجموعة من الأجانب تغادر مع الفرنسيين.........حاولوا أخذ قصة من كل واحد المهم قصروا علينا الوقت ...........حتى هبطت الطائرة التى تقلنا على الممر.............. وهى
( حاملة جنود) نصعد إليها من الخلف ليس بها كراسى كطائرات الركاب ولكن على الحوانب كراسى من القماش وحزام من القماش أيضا.........ويوجد بها مظلات أيضا...أقلعت بنا ....ممكن تقول مرجيحة
وصلت بنا فى أقل من ساعة.....هبوط ....زى مايكون إضطرارى.........تفسنا الصعداء ....وشكرنا جميع الجنود وخرجنا ولكن بدون الحقائب التى فوجئنا أنها بإنتظارنا خارج المطار....إستقبلنا زملائنا
المصريين بمنتهى الحفاوة.....مع التعليق على موضوع البدلة ........وكيف إقتنع الفرنسيين بترحيلى على هذا الوضع......وكانوا قد رأونا ....فى نشرات الأخبار قبل الصعود إلى الطائرة ومن الواضح أننى كنت محور الأحاديث التى دارت بينهم........أخذونا إلى السفارة ...قدموا لنا
الشاى والقهوة......وبعد نصف الساعة حضر سعادة السفير مرتديا لبس
الشاطئ.......قميص هاواى وشورت أبيض .....رايق يعنى ولكننى لم أرتاح له منذ البداية.........
المهم قال لنا أنه سيتم توزيعنا على مساكن الزملاء أى الخبراء المصريين
وبالتماثل يعنى الأطباء مع بعض والشيوخ مع بعض وهكذا....وكان من نصيبنا أنا وهانى ود..ك منزل أحد الأطباء المصريين ...مبعوث من منظمة الصحة الدولية.....إصطحبنا إلى منزله... فيلا فخمة بحق بالنسبة لما يوجد فى إفريقيا.....أخدنا حمام وتناولنا طعام العشاء.....الرجل كريم بحق
عرض علينا كل شئ حتى الملابس....مع وجود العديد من الغرف نمنا فى
نفس الغرفة أنا وهانى...على سريرين متوازيين أمام نافذة تركناها مفتوحة طوال الليل........لم يخلو النوم من الكوابيس طبعا.....نستيقظ ثم نعاود النوم......إلى أن إستيقظنا على صوت آذان الفجر لمؤذن عذب الصوت وبدون ميكروفون.......رأيت الفرحة المصحوبة بالدموع فى عيني هانى......فقلت له....حمدا لله على سلامتنا.... يجب محاولة النسيان
يستغرق هذا بعض الوقت ولكن .................أعلم أن شئ ما سيتبقى
فى الصباح ...ما أجمل منظر البحيرة.......صحيح أنا إسكندرانى وأعشق
البحر....ولكن الشمس على البحيرة ساعة الشروق والغروب...شئ لايصدقه عقل..........وأرجو أن تشرح الصور هذا....... قضينا اليوم الأول
فى عمل لاشئ.... نتجاذب أطراف الحديث...ونستمع إلى الأخبار لنطمئن على
السفير وأحد الزملاء الأطباء الذين تركناهم خلفنا.....وأحضرنا وجبة غذاء وليمة....لحم.... ودجاج مشوى....وأرز وسلاطات....أكل ثلاث أيام...على الغداء تجاذبنا أطراف الحديث ....علمنا أن مضيفنا مرتبه 10آلاف دولار شهريا....لاتعليق
من الراديو ...إذاعة صوت أمريكا بالتحديد علمنا أن زميلا لنا كان خارج
العاصمة قد تم ترحيله مع الأمريكيين وأن قافلتهم قصفت... وحدثت بعض الإصابات بين الرعايا الأمريكيين
وأن الطبيب المصرى قام بعمل جيد لإسعاف الجرحى....من الواضح أن عمله هذا قد أثار أعجابهم فعلا لأن الخبر تكرر ...ومع توجيه الشكر له بالأسم......مرت ثلاث ليال لنا فى بوجينبورا....وطائرة مصر موعدها بعد أربعة أيام.....إتصلنا بباقى المجموعة وقررنا الذهاب لمقابلة السفير
الذى قابلنا ببرود شديد وسبقتنا إلى هناك زوجة سفير مصر فى رواندا وعرضنا عليه أن نسافر على الطائرة المغادرة إلى نيروبى ... القاهرة... ترانزيت جدة حتى لاتمتد إقامتنا ثلاث ليال أخرى.....فرفض وقال لنا ولماذا التعب أنتم فى راحة هنا.....فقلت له من باب التنبيه إننا مرحلين من
حرب ولسنا فى رحلة سفارى ...لم تعجبه الجملة وبدأ يحاول رسم دور
السفير علينا .....فقلنا له هذا بالإضافة إلى أننا لانرغب فى أن يتحمل
زملاءنا العبء أكثر من هذا.....فقال هم لم يشتكوا ...إحتدم النقاش
هناك من معه زوجة وأولاد....وهناك من يرغب رؤية أولاده... وفى موقف جماعى...أصررنا على موقفنا
فطلبت منا زوجة سفيرنا.....الهدوء....والخروج لتتحدث معه وحدها
خرجت حرم السفير بعد عشرة دقائق وقالت..... أوكى....جهزوا أنفسكم للسفر غدا
فسألتها ولماذا هذا العناد......فقالت أنهم يحصلون على تخفيض من مصر
للطيران....فقلت ...وهل سفرنا هذا على نفقته الخاصة.؟؟...أم هل هذا وقت
التوفير للدولة ؟؟ وعلى حساب من ....؟؟ .......سافرنا اليوم التالى إلى نيروبى ....جدة .....القاهرة ...مع تبديل الطائرة فى كل مرة.....ركبت السوبر جيت إلى الإ سكندرية......... الجميل أننى وجدت أخى وبعض الأصدقاء فى إنتظارى...وكنت قد تحدثت إلى أخى من السوبر جيت........
وصلت المنزل ..الساعة الثانية صباحا..... دخلت غرفتى ...وأنا فى حالة ذهول....غير مصدق لكل ما حدث وكأننى خارج من كابوس طويل ......