( كانت الثورة واقفة ترقب الفوضى والتشتت اللذين يعمان المكان، ورأسها يدور هنا وهناك، كأنه رقاص ساعة، وقد بدت علامات الاستغراب والدهشة والخيبة واضحة على وجهها.
انتبه لوجودها الجميع ،تحلقوا حولها، ولما عرفوا هويتها ،انقضوا عليها كالوحوش الجائعة يجرونها من ضفائرها ومن ملابسها حيث تمزقت ، وحملت الاكف خصلات الشعر، والمسكينة تصرخ نادبة حظها، ( أتركوني، أتركوني) والجميع متمسك بأنها من السبايا ،وبأنها جاريته التي لا بديل عنها (
سعيد : الدم ينزف منك، وشعرك مقتلع، وأنت تتلوين عارية، وتصرخين من الألم .
مشهد لم تريه حتى في أبشع كوابيسك ..كلما ازداد عويلك ازداد تعنت مغتصبيك، ولما كثر العدد تغيرت المعادلة حيث أصبح كل واحد يريد قطعة منك ،يصارع من أجلها الجموع التي تنازعه على فريسته .. أصبح الكل يطمع في قطعة .. هكذا تبدأ الأحلام والرغبات كبيرة بكبر الكون، ثم تتلاشى وتتحول إلى قطع إلى سراب
الثورة : ( تنتفض الثورة الجريحة تصرخ بأعلى صوتها( اتركوني.. اتركوني ، ما بكم؟!
( يتراجع الجميع إلى الوراء قليلا ثم يعودون أكثر قسوة وغلا ، ليمزقوا ما تبقى من ثيابها ،ولينهشوا لحمها ، وليشوهوا وجهها بالخدش. خارت قواها وقرفصت باكية نائحة )
الجميع : ) بصوت واحد ) أنا من أتى بك إلى هنا، أنا السيد، أنا القائد ... ( يحاول الثوار الدفاع عنها لكنهم لم يستطيعوا.. تضحك برغم آلامها وغزارة دموعها ودمائها)
سعيد : أين كنتم لحظة ميلاد الثورة.
الثورة : أيها الكاذبون ( تتحسس بيدها الأرض لترتكز عليها وهي تحاول النهوض، لم تستطع؛ فقد سلسلتها أيديهم تستسلم وتسكن) لا أحد منكم ، لا أحد منكم كان سببا في قدومي ) تنظر إليهم نظرة الشامتة ) أ وجوهكم هذه وجوه ثورة؟ ! ( يلتفت الجميع بعضهم إلى بعض كل يحدق في ملامح الآخر عله يجد شيئا بملامحه (
) ضاحكة بنبرة حزينة ) إن النعيم باد على محياكم والرفاهية من ملابسكم تكاد تنطق، والثورة لم يصنعها لا المثقفون، ولا المرفهون ، كنت أعتقد مثلكم بأنني صنيعة النخبة صنيعة الثقافة، فإذا بي صنيعة الوجع والقهر والكبت والحرمان والحاجة
) تصم آذانهم بضحكة مدوية ، ينتبه الجميع، و يلعنونها في لحن مميز، ويشيرون إليها بأصابعهم( .
سعيد : (بنظرة استغراب ) أتهينون الثورة ؟!
الثورة
متحدية وهي تصطنع القوة (العنوا العنو العنوا! إنها سلاح العاجزين المفلسين، العنوا العنوا! فألسنتكم تنطق بما تحمله قلوبكم من غل وأنانية وسواد ..العنوا ها قد حققتم نصرا مدويا برسم هذه الجراح على جسدي(تشير بيدها نحو جراحها ) انظروا وقع سياطكم، إنها كأنياب الكلاب المسعورة ، تعالوا امتصوا عفونتكم من جراحي.
(يقترب منها طفل يحضنها بعطف ثم يبكي بكاء تلين له قلوب الجبابرة و يذيب الصخر وهو يضع راسه الصغير على جسدها والقلوب المتحجرة الواقفة لا تستجيب يقترب بعض الشباب ، يحاولون إسعافها ينشب صراع بينهم وبين جلاديها، وتتحول الساحة إلى حلبة قتال ،لكم وركل وشتائم متبادلة ).
الشيخ الحكيم : (متهكما ) الثائر الحقيقي قلبه لا يحمل الأحقاد، ولا وقت لديه يضيعه بالخطابات .
سعيد: ( متوجها للثورة ) نأسف لك؛ صنعناك ولكن للأسف تنقصنا الخبرة في الدفاع عنك ، ها قد أصبحنا الطرف الأضعف الآن (يحاول هو وأصدقائه افتكاكها منهم )
الجلادون: اتركوها إنَها تمثل.. دعنا لا نتقاتل لأجلها
الشباب: بل إنَها تحتضر، وستموت بين أيديكم، وأنتم لا تشعرون.
الجلادون: اطمئنوا، لن تموت ما دمنا هنا.
الشباب : لا يأتي الموت والخراب إلا معكم . ( يتقدم الشيخ الحكيم يحاول إيقاف الصراع (
الشيخ: جئنا هنا شعبا واحدا وها قد انقسمنا إلى شعوب ها قد عدنا قبائل متناحرة (ينعته شق بالعمالة والخيانة وشق يناديه بالشيخ الحكيم تستفيق الثورة تستغل تراخي الأيادي التي كانت تقيدها وتنهض نهضة جبار) .
الثورة : ) مشمئزة ) ها أنتم تتقاتلون كقطعان بلا سبب، همج لستم بصناعي عودا الى رشدكم .
(تصرخ بأعلى صوتها( توقفوا.. شوهتم صورتي.. (تتباعد القطعان المتخاصمة ..عفوا المختصمون قليلا. يأتي صوت رجل مترهل أجش خشن كأنه الرعد )
الرجل المترهل : لن نتركك تذهبين.. نحن متعطشون لك ( ينظر الجميع إلى جسده المترهل ) نحتاجك لبعض الوقت .
الثورة: نعم أنتم من يقرر بقائي أو مغادرتي لكن الآن قد فات الآوان ؛ لقد حلت محلي الفوضى والمصلحة الشخصية ، فذهبت ولم يبق أمامكم سوى شبحي ( تشير بيدها إلى المحلات المخربة والتجهيزات المكسرة .. تبكي، تنتحب، تضحك، تصرخ صرخة يتردد صداها بعنف، كأنَها في كهف بعمق الكون ، فيرتد الصدى كزمجرة وحش كاسر( هذه ثورتكم مجرد أكذوبة ! تقاتلوا تكالبوا على كرسي أصبح لونه قاتما بدماء الأبرياء لقد أصبحتم كالذئاب يغريها لون الدم سيروا على جماجم الأبرياء لتصلوا إليه .
سعيد : ما الفرق بينكم وبين من سبقوكم ؟ بهذه الطريقة سنخسر جميعا .
أماني : لنتحد.
الثورة : ) تئن ) قتلتموني وأدتموني، إنَني لم أعش سوى لحيظات من الفرح، وها أنا أتجرَع مرارة الخيبة! ليتني لم آت.
أماني: في كل الأمكنة التي زارتها الثورة يعقبها التحرر من الاستعمار إلا في هذه الأرض يعقبها الاحتلال .
( تنخرط الثورة في موجة بكاء أليم .. تغمض عينيها، ترى الطائرات تقصف الابرياء ، أطفال صغار يركضون خوفا هنا وهناك ، أياديهم ترتفع باتجاه السماء التي يحول بينهم وبينها الموت تنتفض بعنف ).
الثورة : انظروا هناك.. انظروا ...( تشير بيدها إلى شاشة ارتسمت في الفضاء تجسد ما تراه في المكان الآخر) انظروا السماء السوداء قد أضاءتها الصواريخ والطائرات. لأول مرة أكره الضوء ( تحاول الحيلولة بين عينيها والضوء بيدها ، يسرع إليها سعيد يسندها (انظروا الكون مضاء بعنف كأن ألف شمس مشرقة معا قد أضاءته ..لكن الشمس تبعث الأمل، وهذا الضوء يرسل الموت مدرارا.. انظروا جثث الأطفال متناثرة، وطوابع الجبن ،وعلب التونة ، وأكياس الأرز المخزنة مؤونة اختلطت بالتراب تغطيها، بيوت تتحول إلى ركام والناس بدلا من أن يعتريهم الخجل في حضرة الموت، يضحكون ،يغنون ، يكبرون ، يرقصون ، يطلقون الرصاص في الهواء، كأنهم في عرس، أيَ عالم هذا الذي يستقبل فيه الموت بالغناء؟ ! مكان لا ترى فيه غير الموت يتجول مزهوا توجهه القنابل والصواريخ هنا وهناك
( تنهار الدموع من عينيها المغمضتين خطوطا مسترسلة، تهرع إليها أماني وتمسح دموعها ).
أماني : ألا تسمعون موسيقى أنين الجرحى وحشرجة المحتضرين ( يعذب صوت الأنين روح الثورة فيتغير لون دموعها إلى أحمر) .
الثورة : ألا تخجلون ؟!
(رؤوس المتواجدين تدور في كل الاتجاهات بحثا عن الشاشة، فلا تبصرها أعينهم، يلاحظ الجميع شرودها، فيصمتون)
أماني : (تهمس في أذن الشيخ) يخيل إلي أنَ الملائكة قد نزلت إلى الأرض ،وأنَ الجميع لا يريدون ازعاجها
الشيخ : ما أجمل السكينة حين يتوقف العقل عن التفكير في كل شيء، ويعيش لحظة سلام بروح قد شطرتها الآلام، فيستكين الجرح، وتتوقف الأحاسيس بالفرح، الحزن ، الموت، الحياة ! فقط خشوع وصمت ، لحظة لا تشترى بمال العالم كله ! وتعادل مسيرة الحياة .
(ثم فجأة يوسوس شيطان الكرسي في العقول ، فيجتمع المختصمون ،وتتعالى الأصوات) .
الاصوات : الشعب يريد... الشعب يريد ... (تدوي أصوات وقع الحجارة وهي ترتطم بالجدران، الثورة تزحف نحو جدار قريب منها وتستند عليه لتحاول الوقوف)
الثورة : (بصوت متهالك ) أين الشعب ؟! إنني لا أراه ، إنني أرى عشرات مبعثرة هنا وهناك ، كل يغني على ليلاه، وحسب ميولاته السياسية مغلفا إيَاها بمقولة "الشعب يريد"، نعم كنتم في البداية ، وكنت الملكة المتوجة أمَا الآن فانتم فرق وفرقاء ، والوطن يحتضر، وقد دب السوس في أوصاله ،ينهش العظام نهشا ، أنظروا لا وجود هنا إلاَ لشبحي .
سعيد: لقد كنت حلما يراود الجميع، كنت أغنية على شفاه المساكين والعاشقين، والمعذبين، الحالمين بحياة أفضل وستظلين.
رؤى: لقد انسحبت غالبية الشعب لمَا رأت تحول البعض عن أهدافهم
أماني : لماذا لا يعبر كل منا عن فكره عن إرادته عن رؤيته للوطن بعيدا عن عباءة الشعب التي اتسعت حتى اهترأت وتمزقت.
(يضحك فتى موجودا بالقرب منها ، تتجه نحوه أنظار الوجوه العابسة المتخشبة)