لقد كان في داخل قلب ذلك الرجل المسكين أحاسيس و مشاعر لا يستطيع التعبير عنها بالكلام فكل ما يستطيع فعله هو التحديق فيك بتلك العيون الجاحظة الشاخصة التي تحمل في نظراتها سهاما تصيبك بالحزن المتأزم و تجعلك ترسل سيلا من الدموع المتواصلة , حيث لا تقدر تمييزها و تسأل نفسك أسئلة كثيرة: هل هي عبارة عن سحر؟ أم هي طرقة من طرق التعبير عن الذات ؟ أو ربما تكون نظرة لتستعطفك؟ .
تجلس معه فتراه منشغلا عنك, تتحدث إليه فلا يجيب , تسأله فضحك منك ثم ينتفض واقفا و يقول بصوت خافت و كلمات متقطعة تحف صدرك و تقبض روحك: أنا تركت الكلام و تركت الناس و مشاكلهم , إنهم لا يعلمون ما يفعلون و لا يفهمون ما يقولون و لا يحسنون التعبير عن رأيهم بطريقة متحضرة ...
ثم يذهب و يتركك تتلوى غيظا لأنه تجاهلك فتراه ذاهبا إلى مكان كثرة أشجاره و تشابكت , و حجبت نور الشمس عنه.
و في الصباح التالي تراه من جديد إلى الحديقة التي كنت فيها معه البارحة , فتعجب لأمره و هو يخاطب العصافير قائلا : آه أيتها المجنحة الجميلة الحرة, ليثني كنت أملك جناحين ملك و أستطيع العلو في هذا الفضاء الشاسع الواسع...
فتغني تلك الطيور غناء حزينا كأنها تقول له : ماذا يعجبك في حياتنا أيها الرجل المسكن فإن كان لك جناحين و تحلق عاليا مثلنا فماذا ستجد في هذه السماء الواسعة كما تبدو لك؟ فهي تظهر لك كذلك و لكنها في الحقيقة ضيقة خانقة , فأنت أيها الإنسان من زاحمتنا حتى في مكان عيشنا, و لم تكفيك الأرض و شساعتها. أنا التي حق لها أن تتمنى أن تكون مكانك , فأعيش في رفاه و سعادة و أبقى حرة و لا أحبس في أقفاص ضيقة في بيوت كبيرة لأملأها بغنائي الحزين...
فتململ الرجل و ترك العصافير و هو راجع إلى ذلك المكان الذي يبيت فيه قائلا بصوت يكاد نعدم: لا أحد في هذا الزمان يقنع بما لديه...
و بعد زمن طويل لم يعد ذلك الرجل يجيء كعادته إلى تلك الحديقة و صارت الطيور تختفي شيئا فشيئا , حتى تكتشف أنه مات و ترى نعشه قادما مصحوبا برجلين فقط و جمع هائل من العصافير تحلق فوقه, كأنها فقدت أعز صدق لها.
لقد مات ذلك الرجل و هو مبتعد عن الناس , و كل المشاعر و الأحزان بقيت في قلبه و لم تخرج فتحسب أنه مات غيظا.
و بعد مدة أضحت تلك الحديقة التي كانت جنة يوما ما , خرابا . و صار فناؤه حديث الساعة وقصة على كل لسان , وتناقل الناس الإشاعات عن سبب حزنه و عيشه بمفرده , فمنهم من قال أنه حزن لأن أولاده ذهبوا و تركوه , و منهم من قال أنه فقد روته و مال الوفير في رمشة عين , و فئة أخرى تقول أنه مجنون فحسب و أراد أن يختلي بنفسه, و
يبقى بمفرده يكلم أشباح سكينة الليل الموحشة.
و لكنهم لا يعلمون أن الإشاعات التي يطلقونها هي سبب حزنه و فراره منهم , لا يعلمون أنه قنط من الوضع الذي يعيشه العرب, الوضع الذي ترك أقرانهم من الأوروبيين و العجم يتقدمون عليهم تاركيهم يزاولون مضاجع الجهل و الأمية , و يتشاجرون و يتخاصمون أجل رغيف خبز أو لقمة عيش, لا يعرفون أن السبب هو تقليدهم للغرب ف أمور لا ترضي الله و لا رسوله ولا الأمة الإسلامية بصفة عامة. لقد عاش هذا الرجل حاملا على عاتقه جهل أمة عربية بأكملها, لهذا قرر أن ينفرد بنفسه و يرحل عن كلام هؤلاء الناس المزعجين . الذين لا يعلمون أنهم ضيعوا أكبر فرصة في أن يصيروا سادة للعالم من جديد, و أنه بمفرده لا يستطيع فعل شيء , خاصة أنه شيخ تعيس و مسكين و وحيد فقرر الابتعاد عنهم و البقاء منعزلا.
بلبشير كوثر .