أنا ومرآتى
(1)
منتصف ليل الإسكندرية، الثانية عشرة بتوقيت مصر المحروسة، قبل أن أذهب إلي سريرى لألقى بجسدى المنهك طوال ساعات النهار من الجلوس مُنتصبًا خلف مكتبى وأمامى شاشة الكمبيوتر وأكوام من أوراق الصادر والوارد أستقطع نصف ساعة من ساعات نومى القليلة التى لا تتجاوز فى عددها أصابع اليد الواحدة.
(2)
ومع ذلك ورغم ذلك، أمارس عادتى التى أسرتنى منذ أمد بعيد دون انقطاع إلا لسبب قهرى، أقف أمام مرآتى وجهاً لوجه؛ ليظهر على صفحتها وجهى كما هو بحجمه الطبيعى مستوياً دون تحدب أو تقعر، بكل تضاريسه التوبوغرافية كما علمونا إياها فى الجيش، هذا الوجه المصرى الذى أشرب بالسمرة جراء فعل الشمس المشرقة طوال العام، واكتسب ملامحه الشرقية عبر عصور ممتدة، بدأً من مينا موحد القطرين، ومروراً بفرعون موسى والعرب والعجم والمماليك والترك ومحمد على وأنجاله، ومن بعدهم ستون عاماً حتى خروج ثورة يوليو على المعاش، منتهيا بتلك السبيكة المصرية الرائعة التى مزجت كل هؤلاء.
وأخرجت المصرى هذه السبيكة التى أرى ملامحها حين أواجه مرآتى كل ليلة.
(3)
ومع ذلك ورغم ذلك، فهذه ليست شيفونية روسية، ولا حتى نرجسية يونانية، نعم أخذت من الشيفونية الروسية الفخر بأننى مصرى، ومن النرجسية اليونانية عشق مصر دون أنانية لا يهمنى بعد ذلك مدح أو قدح.
(4)
ومع ذلك ورغم ذلك، قد أفلح الزمان فى نحت خطوط متعرجة على جبينى، ومنع الأرق جفونى المرتخية من أن تتقابل لتنعم بالنوم ويفرقها كلما أرادت بقايا من جهد فى عضلة العين التى نفث فى عصبها الأرق سمومه، بعدما أرهقها طول النظر إلي المستقبل فى الكمبيوتر وحرمتها المكاتب الضيقة والأبنية الشاهقة من النظر إلي الآفاق البعيد حيث الحرية. وهالات سوداء تحت العينين سرعان ما أصبحت دليلاً منظوراً على الإجهاد وطول السهر جراء الدوران المستمر فى ساقية الحياة التى لا تهدأ.
(5)
لم تنته جلستى مع مرآتى بعد، وإن كان الوقت المحدد للمواجهة قد أوشك على الإنقضاء، باقى خمس دقائق وما زلت أتحسس خريطة وجهى وما فعلته السنون بها.
باقى من الزمن دقيقة واحدة ستون ثانية، كأننى فى عد تنازلي لمبارة كرة سلة فى دورى المحترفين الأمريكى، لفت انتباهى تلك الشعيرات الفضية التى ظهرت فى خجل وسط رفيقاتها السود فى شعر رأسى الكثيف، كأنما تريد أن تتوارى بعيدًا وتمتنع عن الظهور على صفحة مرآتى.
(7)
لقد أرادت مرآتى أن تبوح لى بسر لكن لم يسعفها الوقت ربما تبوح لى به فى الليلة القادمة، فغداً ليلة خاصة؛ لأن نهارها عطلة رسمية بمناسبة عيد الشرطة، سأكون مستعداً لسماع كل ماتبوح به من أسرار.
(
الآن انتهت الجلسة، وقد اختفى وجهى من صفحة مرآتى التى استدرت للتو عنها، لأغرق فى سريرى ويجرفنى تيار عات من نوم يشبه الموت؛ لأبعث من جديد فى الصباح على ثورة الشعب فى يوم الشرطة.
ــــــــــــــ
* كتبت على شاطئ الخليج العربى 28/3/2011