عاطف عبدالعزيز الحناوي مشرف النقد و تحت المجهر
الدولة : عدد الرسائل : 1923 46 نقاط : 2096 تاريخ التسجيل : 17/12/2010 بطاقة الشخصية مرئى للجميع:
| موضوع: الدكتور محمد شكري جاد...قراءة في ديوانه ( لن تعرفي مثلي ) السبت سبتمبر 24, 2011 1:19 am | |
| بسم الله الرحمن الرحيم لن تعرفي مثلي – قراءة نقدية إعداد عاطف عبد العزيز محمد محمد الحناوي
منذ البيت الأول للدكتور محمد شكري ,و أنت تدرك أنك أمام شاعر, متمكن من لغته, لأبعد الحدود فقاموسه اللغوي ثري, و بسيط في آن معا . فأول ما يطالعنا في ديوانه ( لن تعرفي مثلي) هو قصيدة (فتنة ) التي يقول في مطلعها : أيا فتنة القلب يا قاسيه و يا نبع أحلامي الزاهيه على البعد أبعث أنشودتي و أبعث في طيها ذاتيه فهذه المرأة قاسية ,و رغم قسوتها هي نبع أحلام شاعرنا ,و هذه الأحلام ليست مجرد أحلام بل هي أحلام زاهية و في البيت الأول براعة استهلال ,حيث نجد التصريع بين لفظي ( قاسيه و الزاهيه ) و فيه من الموسيقى ما تطرب له النفس و ترتاح, و تسير القصيدة, لتثبت لنا شيئا, حرص الشاعر على تأكيده, في ديوانه حتي في العنوان –لن تعرفي مثلي – ألا و هو كرامة الشاعرفوق كل اعتبار, و ذاتيته لها الأهمية القصوي, كما تقول الأغنية ( أصون كرامتي من قبل حبي ) و سوف نعود لهذا الملمح عما قليل بإذن الله في ثنايا قراءتي هذه للديوان و نلمح في قصيدة (فتنة) ثقافة الشاعر, متمثلة في قوله ( و كانت قطوف الهوى دانيه ) و يشير إلي قصة التفاحة ,و آدم و خطيئته – و إن كنا لا ندري علي وجه التحقيق ما نوع الشجرة ,التي أكل منها آدم بالفعل ..حيث لم يخبرنا القرآن بذلك !- ففي الصورة الأولي ( كانت قطوف الهوى دانيه ) تأثر واضح بالقرآن – أو تناص كما يحلو للبعض أن يقول – حيث يقول الله تعالى ( في جنة عاليه ..قطوفها دانيه ) فكأن شاعرنا جعل الهوى شجرة ثمارها دانية للقطف, و ميسرة سهلة, أو أن الهوى نفسه ثمرة سهلة المنال, فكلا المعنيين محتمل . و ألاحظ تضافر الألفاظ مع الموسيقي – بحر المتقارب و تفعيلته فعولن – و القافية مع الصور البلاغية ,تضافرا أخرج من القصيدة عملا متكاملا , و إن كان الشاعر قد أطلق حكما عاما ,في قصيدته, و انتقل فجأة من الحديث عن امرأة واحدة ,إلى الحديث بصيغة الجمع, حيث يقول : رميت فأدميت قلب الهوى و أصبحت ضاحكة لاهيه عرفت هواكن يا ظالمات و قاسيت فيكن حرمانيه هل لمحت ,يا صديقي ,الاستعارة الجميلة ,في قول الشاعر, رميت فأدميت قلب الهوى فإنها حين رمت, فقد رمت قلب الهوى, و ليس قلب الشاعر ..فقد جعل الشاعر للهوى قلبا أصابته القاسية, بسهمها فأهلكته ..و هذه بلاغة لا تخفى على أحد, كما أنها قسوة من تلك المرأة ,التي جعلها الشاعر حالة عامة بين النساء ( و إن كنت لا أحب التعميم ) ؛فهذه الفتنة القاسية تلخص النساء جميعهن, أو أن النساء كلهن قد تجمعن فيها . ثم يصل بنا الشاعر, في نهاية قصيدته, إلى النتيجة, التي أكدها عنوان الديوان, فيقول : فلي كبرياء و عزة نفس و عزة نفسي هنا غاليه سأحفظها و أصون الفؤاد و أحيا كما كنت ..في حاليه نحن إذا أمام شاعر, لا يذل نفسه لأحد ,حتي ولو لمحبوبته ..و ها هو يصون كرامته, و يعيش في حاله ,و اللغة في البيت الأخير – في الشطر الثاني منه – لغة بسيطة جدا, فهي لغة رجل الشارع العادي .. و أحيا كما كنت.. في حاليه فنقول :الراجل ده عايش في حاله, أو جنب الحيط ,و كأنه آثر السلامة و النجاة, و هو قبل ذلك ببيت قد قال : و عدت إلى وحدتي قانعا أهدهد قسوة أياميه فهو قد عاد, إلى حالته الأولى – قبل أن يعرف تلك القاسية بالطبع – حالة الوحدة ,التي هو مقتنع بها – قناعة أو اقتناعا – و لكن فأرجو من الشاعر, أن يعذرني ,إذا لم تعجبني صورة أهدهد قسوة أياميه ..- فكما يقول طه حسين: أرى هذا اللفظ قلقا في موضعه – فلفظة أهدهد توحي لنا بأننا امام طفل صغير, نهدهده و نداعبه,( ففي المعجم الوجيز : هدهدت الأم صبيها : حركته حركة رفيقة منظمة لينام ) أما القسوة فلا تتناسب معها الهدهدة, فكان الأولى – من وجهة نظري – أن يقول : أغالب قسوة أياميه ,أو أعاند قسوة أياميه, أو شيئ من هذا القبيل فهذا يتناسب أكثر, مع قول الشاعر كبرياء و عزة ,و ربما يكون قصد الشاعر هنا هو ما نقوله بالعامية يدادي الايام أو يسايس الأيام علشان تعدي ...ربما !! و الله أعلم و لكن على كل حال القصيدة جيدة, و متماسكة البناء ,و كما يقول عبد القاهر بأن نظمها جيد – بحسب نظرية النظم – التي لا تفصل بين الشكل و المضمون ,أو بين اللفظ و المعني..فالألفاظ و الصور و الموسيقي كلها, متجانسة متلاحمة, لتؤدي إلى نتيجة واحدة ,في النهاية ,ألا و هي أننا أمام شاعر كبير, و مجيد, و هذا ليس كل شيئ ..ففي قصيدة( سأهرب منك )ينتزع الشاعر الآهات منا – مني على الأقل – حيث يقول : سأهرب منك و أين الهروب إذا كنت أهرب دوما إليك و أبعد عنك ..لعلي أتوب و لكن قلبي أراه لديك فهذان البيتان فيهما من الحلاوة ,ما لا يخفي, و قد تضافرت كل العوامل, و ملكات الأديب, و قدرته اللغوية و الفنية ..فالإيقاع سريع – من المتقارب أيضا – و الجمل قصيرة و الألفاظ قليلة الحروف, و الشاعر إذا في حالة حصار, فالتي يهرب منها, و يحاول أن يتوب عن هواها إذا بقلبه لديها – فأني له الهروب ؟! و يقول : يهتف قلبي تقدم إليها فقلبه يهتف به –استعارة ممتازة ,و كما يقول البلاغيون القدماء :استعارة لطيفة أو طريفة و بمجرد أن يفكر – و قبل أن يأخذ خطوة, في اتجاه هذه المرأة المبهرة ..أقول بمجرد أن يفكر فإذا به يصل للنتيجة مباشرة ( أرى أن ما راح ما أن يعود ) ولكن الشاعر في حيرته, ما زال يسأل نفسه ( أبعد عنك وهل أستطيع ؟), و الإجابة معروفة سلفا ,و هو يؤكدها في بيت جميل يقول : سأهرب منك – و يا ويح نفسي إذا كنت أهرب منك ...إليك الجملة الاعتراضية – يا ويح نفسي – تبرز لنا ثقافة الشاعر اللغوية, و مقدرته الفذة ,فهو شاعر, واقف على أرض صلبة ,من تراث أدبي رائع, بل إن جذوره ممتدة, في عمق التراث ,و فروعه في جو السماء عاليه. ومما لفت نظري, واهتمامي, هو كلمة( شيئ ) في هذه القصيدة: حيث يقول الشاعر : فإني تراجعت عن رغبتي لشيئ تحطم في داخلي و الذي لفت نظري, أن كلمة شيئ في هذا الموضع, و بهذه الحال, حيث كانت نكرة و مفردة .. تجعل العقل و الفؤاد يسرح ,مفكرا, ما هو كنه هذا الشيئ, الذي تحطم ..هل هو قلب الشاعر ,أم عزيمته ,أم ماذا ؟! فالاحتمالات مفتوحة. و هنا تحضرني مقارنة ,عقدها عبد القاهر الجرجاني, في كتابه الرائع( دلائل الاعجاز) حيث يقول مقارنا ,كلمة( شيئ) في بعض أبيات, لكبار الشعراء, فيقول: ( و من أعجب ذلك لفظة (الشيئ), فإنك تراها مقبولة حسنة في موضع ,و ضعيفة مستكرهة في موضع ,و إن أردت أن تعرف ذلك, فانظر إلي قول عمر ابن ربيعة المخزومي : و من مالئ عينيه من شئ غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمي و إلي قول أبي حية : إذا ما تقاضي المرء يوم و ليلة تقاضاه شئ لا يمل التقاضيا فإنك تعرف حسنها ,و مكانها في القبول, ثم انظر إليها في بيت المتنبي : لو الفلك الدوار أبغضت سعيه لعوقه شئ عن الدوران فإنك تراها تقل و تضؤل ,بحسب نبلها و حسنها فيما تقدم ) (دلائل الاعجاز فصل اللفظ الواحد يقع مقبولا و مكروها صفحة 47-48 طبعة مكتبة الاسرة 2000) إذا فاللفظ قد يتناغم ,و يتعاون مع ما جاوره من ألفاظ ,و إيقاعات ,و موسيقي - داخلية كانت أم خارجية - و صور بلاغية ,و مضمون وفكرة ..نعم قد تتعاون هذه العناصر جميعا, و تخرج لنا عملا إبداعيا متفردا ,و قد تتنافر و يصبح البناء كله مهددا بالانهيار, و إثارة الاشمئزاز و القلق . و أحب أن أشير إلي أنه رغم نظم قصيدة (فتنة) و قصيدة (سأهرب منك )من نفس البحر ( المتقارب ) إلا أن موسيقي الأبيات تختلف, و سرعة الإيقاع مختلفة, ففي القصيدة الأولي بطيئة ,و الجمل طويلة, و في الثانية جمل قصيرة ,و الإيقاع سريع ,و هذا هو ما يمكن أن تعزوه لحالة الشاعر النفسية, و موسيقاه الداخلية ,فالموسيقي قبل أن تنبع من البحر الشعري و العروض, هي تنبع من ذات الشاعر و قلبه - كما يقول كولردج و غيره من النقاد المعاصرين - حيث يقول الدكتور محمد زكي العشماوي ثمة علاقة بين الوزن و النغم و سائر أجزاء العمل الفني و هذا ما تحدث عنه كولردج علي وجه الخصوص ( قضايا النقد الأدبي صفحة 297) و نقطة أخري جديرة بالذكر, هي أننا أمام شاعر, يجل قيمة العقل و التفكير –ربما تخصصه العلمي في ذلك فهو صيدلي شاعر – و لكن المشكلة تكمن في كون الحب ,و المشاعر, كثيرا ما لا تخضع لأحكام العقل و المنطق . نري شاعرنا يقول في قصيدة حب بلا أمل: مالي أنا و غرامها ! يا ليتني حكمت عقلي في الهوي و مراسي و كيف للعقل أن يحكم في مثل هذه القضية ؟! و يقول في نفس القصيدة : و تبعت- دون روية- إحساسي و يقول : قل احتراسي و ربما لنفس السبب – التخصص العلمي – تكثر الأساليب الخبرية, و ليس الإنشائية في معظم قصائد شاعرنا . و يصوغ حكمة جميلة ,في البيت الأخير : لكن متي نال الخريف مراده و هوي الربيع له حديث الناس ! و صوغ الحكمة و لع قديم في الشعر العربي ,منذ أقدم عصوره؛ فالشاعر هو الحكيم ,و هو لسان القبيلة ,و خطيبها المفوه, و محاورها البليغ . و يعود الشاعر ليؤكد علي كرامته و عزته : و عدت لنفسي بهذا الإباء لأنقذها من ضلال قديم وفي هذا البيت عودة للنفس, بإباء و شموخ, و فيه تناص مع القرآن الكريم ,حين قال أخوة يوسف لأبيهم ( إنك لفي ضلالك القديم ) وهذه لفتة أخري من الشاعر, توضح لنا ثقافته ,و براعته في التوظيف ,و الخلق الفني . و يقول: أبيت الخضوع...و هي الفكرة التي يؤكدها الشاعر , و إن لم يقلها صراحة في قصائده , و لا أريد أن أقول أنها نرجسية, كما قال الاستاذ عبد العليم القباني, سأقول أنها ثقة في النفس, و تقدير لها –فمن دوافع الإنسان الأصيلة, الحاجة إلي التقدير, و إن لم يقدره أحد فحسبه أنه يقدر نفسه ,و يعرف قيمتها, و يعرّفها لمن لا يعلمون, أو يتظاهرون بعدم المعرفة و ثمة نقطة أخري, ألا و هي أن الفخر في الشعر العربي ,غرض معروف و منتشر ,و لعل شاعرنا اتبع نفس النمط ,كما فعل من قبله أعظم الشعراء ,و ربما يتهمه البعض بالتقليد ,و لكن ثمة أشياء, لا يمكن اعتبارها تقليدا, و هي الامور الإنسانية العامة, و المشتركة كالحزن و الفرح و الرثاء و التهنئة و المدح ,و هكذا طالما أنها مصوغة, في أسلوب متميز و إبداع أصيل, يعبر عن روح الشاعر ,و إبداعه و فكره ,و ليس نقلا حرفيا عمن سبق من الشعراء أو تقليدا مشوها. فكم عاب نقاد - مثل العقاد و جماعته و غيرهم - على شعراء الكلاسيكية ,أنهم يكتبون رثاء و مدحا , و زعموا أن من يكتب الرثاء و المدح, فإنما هو ينظم نظما, ولا يكتب الشعر ثم إذا بهم هم أيضا يرثون و يمدحون- العقاد مثلا- ! و العبرة فيما أري ,هي الصدق الفني و الإبداع الراقي, كما قلت من قبل, مهما كان الغرض الذي كتبت فيه القصيدة . [b] | |
|