و أحب أن أشير, إلي قصيدة فاتنة المختبر, و فيها التقي بحورية, من حوريات الجنة, في معمل الكلية –كلية الصيدلة – و في القصيدة من الألفاظ الموحية, بالجمال و الرقة و العذوبة الكثير, و كلها تأتي في تناغم جميل , و إذا بالشاعر – من وحي المكان و الزمان, الذي عاشه – يستخدم ألفاظا علمية ,من قبيل جرثومة , سالمونيلا , استربتو, و هذا يضفي علي هذه الألفاظ روحا جديدة , فلا أحسب -في حدود علمي – أن أحدا استخدم مثل هذه الألفاظ في قصيدة شعرية من قبل –اللهم إلا ما كان من نظم , لبعض متون العلوم – و من حسن الحظ أنها غير مستهجنة جدا, و إن كانت غريبة بعض الشئ ,و ربما لا يفهمها المستمع العادي – فأنا مثلا لأنني متخصص في العلوم الطبيعية أفهمها بحكم دراستي و قراءتي – أما الكثيرون من الناس ربما تصدمهم ,هذه الكلمات العلمية, و أشير هنا من وجه المقارنة ,و توضيح وجهة نظري, إلي نقطة تشبه هذه الملحوظة -إلي حد كبير- حيث يقول طه حسين, معلقا علي قصيدة لأحمد شوقي – في كتابه حافظ و شوقي – حينما يتكلم شوقي ,عن اكتشاف قبر توت عنخ آمون, و يستخدم كلمات إفرنجية ,مثل اسم المكتشف (كارنارفون), و غيره يقول الدكتور طه حسين
و لكني أعتذر إلى الشاعر إذا استثقلت هذا البيت الذي نظمت فيه أسماء الفراعنة نظم الخرز
و تاج من فرائده (ابن سيتي ) و من خرزاته( خوفو) و( مينا)
و ليس من شوقي في شيئ ,وضعه الاسم الأعجمي (كارنارفون) موضع القافية (حافظ وشوقي صفحة 90 )
و نقلب صفحات الديوان, بين جمال و قوة و عذوبة و إباء و ذكريات, فهاهو الشاعر, يرثي الاستاذ عبد المنعم الأنصاري – رحمه الله – برثاء لا يقل روعة, عما قاله حافظ ابراهيم في رثاء الإمام محمد عبده ؛ ففيه من الصدق و الإخلاص و العمق ما لا يخفى فيقول :
يا ويح نفسي هل أصدق ما أرى فقد استبد الحزن في الأكباد
و يقول :
يا صاحب القلب الكبير و رائدي و النار في صدري تذيب فؤادي
نجد الشاعر يذكر صفة من صفات الراحل العظيم, و يذكر حاله مع شاعرنا , فهو صاحب القلب الكبير, و هو الرائد, و في هذا إقرار من الشاعر, بفضل الراحل العظيم عليه و على غيره , من الناس, بدون افتعال و بدون إكثار, في القول, ففي ألفاظ قليلة, لخص الشاعر كل شيئ يمكن أن يقال ,و خير الكلام ما قل و دل .
و مثل هذا يقال عن رثائه للشيخ الشعراوي و رثائه لأمه – رحمهم الله جميعا –
أحسب أني قد أطيل , عليكم في الكلام , لو تكلمت عن كل قصيدة بمفردها ,و لذلك فإني سوف أختم القول باختصار, و أرجو ألا أخل بمقصود دراستي النقدية و مضمونها ,و الله المستعان.
في الديوان من قصائد الشعر المرسل أو شعر التفعيلة, ما يؤكد على تمكن الشاعر, من أدواته الفنية, فكما أنه عالي القامة, في الشعر العمودي, فهو أيضا متميز في شعره التفعيلي, ففي قصيدة( أنثى جديدة) و التي أعدها نموذجا للتماسك الفني, فكل جزء و كل سطر, من سطورها يتكامل مع أخوته ,ليكمل لنا بناء جميلا, فالشاعر يحاور الأنثي, و أحسبه يحاور القصيدة ذاتها, و من ثنايا الحوار( ينبثق الشعر نبعا ذكيا ) كما يقول الشاعر, و القصيدة من تفعيلة (فعولن) و التي أحسب الشاعر يحبها, و يحسن الصياغة علي موجاتها, كل حالاته النفسية في سرعة و رشاقة و بطء, حسبما يريد و يهوى, و ذلك في سلاسة و سلامة يحسد عليها و يتحدث الشاعر في ديوانه ,عن الرفيق قبل الطريق,و نعمة الصداقة, و يذكر الغربة و ضبابها الثقيل .
فيقول مذكرا إيانا بقصائد شوقي , في غربته و منفاه يقول :
أواه قد شفني شوقي إلى وطني ! و الوجد في غربتي يا مصر حطمني
و يذكرنا بقضية فلسطين ,و خبث اليهود, و خدع السلام المزيف ,و يكلمنا عن السعودية و المدينة المنورة ,و يقول :
و قد فاض بالقلب شوق لأحمد
و كنت أفضل أن يقول (شوقي لأحمد )و ليس (شوق لأحمد) فإسناد الشوق لضمير المتكلم يضفي على الكلام نوعا من الخصوصية و القرب الحميمي .
و يكلمنا الشاعر عن نقابة الصيادلة ..موضحا دور الصيدلي و عظمته .
و يكلمنا في قصيدة (لن تعرفي مثلي) عن( بجماليون) و (سيزيف) و في هذه القصيدة ,نرى الشاعر, يستخدم ألفاظا شعبية فيقول :
كم عدت بعد خداعها لي ضاربا أخماسي الرعناء في أسداسي
إذا فشاعرنا كما أنه ضارب في أعماق التراث العربي الأدبي, فإنه رجل شعبي, يحدثنا بلغة الشارع ,و لا يتعالى, و يحاول أن يرتقي بنا معه , حين يوظف أسطورة بجماليون و سيزيف في قصيدته ,بأسلوب بعيد عن الغموض , و كم تحدث نقاد عن قضية الغموض و الإبهام في الشعر الحديث - بل و في الشعر العربي بعامة - و هذا موضوع أحب أن أفرده بالتحليل , فيما بعد في مقالة منفصلة بإذن الله 0
و لكن لي ملحوظة هنا ,هي أنه بدلا من التوضيح ,الذي وضعه الشاعر في الهامش السفلي للصفحة, عن بجماليون و عن سيزيف, و من قبل عن سلمونيلا و استربتو ..أظن كان الأولي بالشاعر, أن يضع بيتا, يوضح فيه ما قاله, في الهامش ,و أظن ذلك كان سيكون أفضل من الناحية الفنية و الشعرية .
أو كان من الممكن كذلك , أن يضع البيت الذي يقول فيه :
في الحسن كنت غنية ..لكنني لم أدر أن القلب في إفلاسي
بعد قوله :
هل كنت بجماليون حين صنعتها ؟ لله ما هذا الجمال القاسي!
فيصبح قوله :
هل كنت بجماليون حين صنعتها ؟ لله ما هذا الجمال القاسي!
في الحسن كنت غنية ..لكنني لم أدر أن القلب في افلاسي
و قد قال شاعر من قبل – في قصيدة لا تكذبي-
كوني كما تبغين لكن لن تكوني
فلقد صنعتك من هواي و من جنوني
فكم يصنع الشاعر الإنسان, شيئا من خياله, و إذا به حين ينزل إلى أرض الواقع, يجده وهما و كم أبدع توفيق الحكيم – رحمه الله – في مسرحيته الرائعة, عن بجماليون حين بسط الموضوع , و صور كل حالاته النفسية بإبداع , و عمق شديدين .
و في نفس القصيدة, نجد التراث الشعري, يعبر عن نفسه, و عن ثقافة الشاعر العميقة
فيقول :
أخطأت حدسي فيك عند لقائنا و فراستي ضلّت و خاب قياسي
و هذا نظير – و ربما يعلوا في درجة الإبداع , و الإتقان و البلاغة- قول الشاعر القديم – و هو أبو العلاء المعري- الذي قال :
قد يخطئ الرأي امرؤ و هو حازم كما اختل في وزن القريض عبيد
و في قضية الأشباه و النظائر في الشعر العربي, مجال واسع للنقاش و المجادلة, حول متشابه الشعر, و أيها أفضل و أبلغ ,و ليس هذا مجالنا الآن و لكن ثمة معاني عامة و إنسانية لا يعتبر التعبير عنها اقتباسا أو سرقة - بحسب كلام الآمدي و غيره من نقادنا القدماء - فهي معاني مشتركة بين كل الناس, و لكل من أن يعبر عنها بألفاظه ,و أن يودعها أفكاره و إبداعاته و مشاعره .
أظن قد آن الأوان , أن أكرر اعترافي , بأننا أمام شاعر كبير, منذ أول حرف إلى آخر حرف نقرؤه في الديوان .
فهو يستوعب التراث , و يعيش في الواقع , و يسبح في الخيال , كل ذلك في رقة و عذوبة و رشاقة فتجده , يفخر كما كان القدماء يفخرون , ( رغم ما يقولونه أنها نرجسية من الشاعر ) و يرثي و يحب و يكره , و يكلمنا عن الوطن و الأمل , و عن الغربة و الذكريات , و يناجي الله و رسول الله – صلي الله عليه و سلم - و يتوب , و أختم قراءتي بقول الشاعر :
إلهى اهدني باجتلاء اليقين و حصن فؤادي من الفتنة
فلم أخفض الرأس إلا إليك و إني من الذنب في حسرة
أظن نتيجة بحثي ظاهرة واضحة , في أنه بالرغم من تخصص شاعرنا ,العلمي و العملي ,إلا أنه يمتلك قدرات لغوية ,و ملكة إبداعية عظيمة , و صدق فني رائع ..فلا تناقض , إذا بين التخصص العلمي و الإبداع الفني و الأدبي .
و الحمد لله رب العالمين , ما كان من صواب فمن الله , و ما كان من خطأ وتقصير فمن نفسي
و إلي لقاء, في فصل آخر, عن شاعر آخر, أتحدث عنه , و أخطئ و أصيب ,و تخطئون و تصيبون , و تستمر الحياة .....
عاطف عبد العزيز محمد محمد الحناوي
الاسكندرية أغسطس و سبتمبر 2011
رمضان و شوال 1432
تم الفراغ من كتابته و تنقيحه يوم الجمعة 16-9-2011
18 شوال 1432