تشير مُفردة " مُتواليات " إلى الحكي ، أكثر من انتمائها إلى القصّ كجنس مُستولد منها ربّما ، فأي حكاية يحملها لنا " خالد نور " خلف هذا العنوان !؟ وهل سيتمكّن من تجاوز الفجوة التي تتخلق بين الحكي والفنّ ، أي بينها وبين فنيات القصّ !؟
إنّ العنوان في إفراده يروم تعدّد الدلالات ، ذلك أنّ المُفردة - أيّ مُفردة - تنضوي على عدد كبير منها ، ربّما لأنّها - أي المُفردة - لا تكون قد أدرجت في سياق ما ، سياق يُكسبها معنى مُحدّداً ، وينأى بها عن بقية الاحتمالات ! على هذا سنتساءل أن ما هي طبيعة المتواليات التي سيقصّها علينا نور !؟ وهل تحتمل عملية القصّ - أساساً - أكثر من حدوثة ، هذا إذا ذهبنا إلى أنّ كلّ مُتوالية إنّما تضمّ حدوثتها !؟
بهذا المعنى سنُشير إلى توفيق حالف نور في تخيّر عنوان ولّدَ عدداً لا يُستهان به من الأسئلة ، ولا شكّ أنّ هذه الأسئلة لن تتغطى بالأجوبة ، إلاّ غبّ قراءة مُتأنيّة في المتن تتقصد الوقوف بها ملياً ، ذلك أنّ عنواناً مفتوحاً على فضاءات مُتعدّدة سيمنح قارئه أكثر من تأويل ، من خلال إشارات سيميائيّة تشي بتلك الفضاءات ، ولا تفصح عن أسرار المتن كلّها ، ما كان سيقتل لعبة التشويق ، التي يقوم العنوان عليها أساساً !
وحتى لا يُطلق ما سيلي من كلام على عواهنه ، سنقف بالفرق بين الحكاية والقصة القصيرة الفنية ، لنقول بأنّ الحكاية - إجرائياً - تبدأ بديباجة تقليديّة ، تلج منها إلى عالمها الحكائي ، أي إلى مضمونها أو فكرتها ، وهي لا تتحرّج من امتداد الزمن ، إذ تكفي عبارة من مثل " ومرّت السنوات " - كمُحفز للقص - لردم الهوة بين الماضي والحاضر ، وعندما تصل إلى خواتيمها ، تحضر الخلاصة تقريريّة ، كما في قولها " وهكذا نجد .. " !
قطعاً الحكاية ابنة السرد أو أنّها وليده ، وإذن فالفعل الماضي في إحالته إلى ضمير الغائب الشهير " هو " حاضر ، والسرد تعاقبيّ ، ليذهب جهات زمن مشغول فيزيائيًاً ، زمن تسيل سيالته من الماضي نحو الحاضر فالمُستقبل ، ثمّ أنّها لا تفترض لغة توصيف ، بل تنحو نحو التعبيريّ منها ، التعبيريّ غير ذي الحاجة إلى الجماليات ، هذا إن لم تعمد إلى تفصيح المُبسط ، وإدراج العاميّ أحياناً ، من غير أن يعنّ لها مواءمة الكلام مع منطوق الشخوص ، أو سوية هذه الشخوص مثلاً !
القصة القصيرة الفنية شيء آخر ، فهي في أبسط تعريفاتها " حدث مُنضبط في الزمن " ، هي تتوافق مع الحكاية في عنصر الحدث إذن ، ولكنّها تسقط عن هذا الحدث ديباجته وخاتمته الوعظيّة ، الأهمّ أنّها تضبطه في زمن قصير لا يتوافق ومفهوم الزمن في الحكاية ، ثمّ أنّها تنشغل بلغة مُجنحة حيناً ، وتزاوج بينها وبين لغة تعبيريّة دالة ، وإن كانت في الحالين مشغولة بدلالة اقتصاد لغويّ صارم يقيها الترهّل ، بما هو سبة في القصّ ، هذا كلّه في العموم ، ومن غير أن نأتي إلى أسليب القصّ قديمها وحديثها !
والآن .. هل نتوقف بمتن خالد نور تلخيصاً ، لنقول بأنّه أتى على شيخ جليل خرج لصلاة الفجر ، لكنّه عرّج - في طريقه - على سكان القبور ، وهناك تفاجأ - خطفاً - بامرأة لم يُميّزها في الغبشة ، بيد أنّه عرف - من خلال إمساكها بظهرها ، ومن ثمّ الوقوف بكومة اللحم خلف المسجد - أنّه في حضرة الخطيئة وثمارها ، ولذلك قرّر أن يتبنّى الطفل حينما رفضه الناس ، كان الشيخ بلا زوجة ، بيد أنّ عاطفة الأبوة - التي تحركت في نفسه - دفعته إلى الزواج ثانية ، ولكن كيف لشيخ أن يلبي احتياجات زوجة شابة مُتطلبة !؟ هكذا كبر اليتيم أو ابن الحرام ، وواقعَ زوجة أبيه بالتبني ، فما كان من الشيخ إلاّ أن وضع حداً لهذه الحال ! ..
واضح أنّنا أمام حكاية ، بل وحكاية جميلة بامتياز ، ولكن هل ثمّة حاجة للقول بأن ثمة فجوة فيها بين الحكيّ والفنّ !؟
لن نقف بالمقولة - مقولة القصّ - موافقين أو مُفندين ، ذلك أنّ أقل ما يقال فيها هو انحيازها إلى الشائع في الأذهان عن أولاد الحرام ، الشائع والقارّ في المنظومة الجمعيّة ، ولن ننكر على نور فتوته ، فلقد أعاد إنتاج شخوص مشغولة ، لينقلها من خانة الواقعيّ إلى خانة الفنيّ ، غير أنّ الحيلة والحنكة خذلته في الجمع بين المتن الحكائي والمبنى ، صحيح أنّه أكسب الشخصيّة عناصر أسطرة تُسجّل له ، ثمّ جاء على صفات أخرى ما كان الناظر إليها ليراها للوهلة الأولى ، باهتة - نعم - إلاّ أنّها غريبة وصادمة ، ولكن ماذا عن الفجوة أو المسافة بين الحكي والفنّ ، أي بين الحكاية والقصّ في فنياته !؟
ربّما تكون الإجابة قد أضحت واضحة على نحو ماتع ، من خلال المُقارنة التي أوردناها بين الحكاية والقصة ، فنصّ نور يشكو خللاً في الزمن القصصيّ ، ما قد يُخرجه من دائرة القصّ ، والسؤال هو : هل تكمن المُشكلة في الفكرة أم في التنفيذ ؟
في الإجابة سنقترح بشكل عمليّ اشتغالاً آخر ، اشتغالاً يبدأ من همسات مُنتشية تسللت إلى أذني الشيخ من مخدعه ، وعندما اكتشف أنّ ابنه بالتبني يُضاجع زوجة أبيه صُعق ، وراح يستعيد ساعة ولادته مثلاً .. كيف تركته أمّه في المقبرة في أعقاب الوضع ، وكيف تحركت مشاعر الأبوّة فيه ، ثمّ كيف تزوّج ليؤمّن للوليد أمّاً تعتني به ، ناهيك عن تفاصيل بعينها مُنتقاة تبيّن مدى العنت الذي أصابه حتى كبر الصغير ، يتوقف سيل الأخيلة ، ويندفع الشيخ إلى وضع حدّ للقصة المُخزية ..
هكذا سيكون الاشتغال أميناً لمفهوم القصّ كحدث مُنضبط في الزمن ، فهو يبدأ من لحظة انكشاف الفعل المنافي للحشمة ، وينتهي بوضع حدّ لهذا الفعل ، وبين هذا وذاك ينهض مستوى آخر للقصّ يتكىء على الذاكرة ، باعتبارها حاملاً حراً في الارتحال إلى الخلف ، بوساطة التداعي أو التذكّر أو الخطف خلفاً ، أو إلى الأمام عبر القدرة على التخيل أو الحلم ، وبذا يكون الزمن الأول .. زمن القصّ قد ضبط الزمن الثاني .. زمن الفكرة ، ناهيك عن الاشتغال على أشكال غير تقليدية للزمن القصصيّ ، فزمن القص مثلاً دائريّ ، تلتقي بدايته بنهايته ، وزمن الفكرة مُنكسر ، ذلك أنّ الذكريات لا تخضع لترتيب زمنيّ مُعيّن !
هذا مثال ، ولكن هل ثمّة أسلوب آخر يُمكن اقتراحه في التنفيذ !؟ حسناً ما رأيكم في التقطيع الفنيّ !؟ ألا يكسر هذا التقطيع - المُستوحى من المونتاج السنمائيّ - رتابة السرد التقليديّ ، ويسمح بترتيب الأجزاء بشكل قصدي ّّ مُضمَر ، يشي بمقولة القصّ ، ويتيح له الاشتغال على التشويق ، عبر التقديم والتأخير مثلاً ، ما يُمكّن القاصّ من حلّ إشكالية الزمن أيضاً ، ثمّ هل ثمّة حاجة بعد للإشارة إلى وجود أشكال أخرى التنفيذ تتجاوز هنات وقع فيها القاصّ !؟
وفي الخواتيم ها نحن نتساءل : ألم نغمط نور ونصّه حقهما ؟ بلى ، فنحن لم نشر إلى اتكاء نور إلى الميثولوجيّ عبر آيات تلخص الكثير ، كما لم نومِ إلى جملة بثت في المتن بذكاء ، تلك التي جاءت على لسان الشيخ " يا الله لمن أنت !؟ " ، ربّما لأنّها لعبت دور العتبة أو الثيمة ، فلخصت - بدورها - الكثير ، إضافة إلى إسهامها في تحفيز القصّ ، ولا نجد بداً من الإشارة إلى الذكاء في التناول عبر الإيحاء مثلاً أو التلميح لا التصريح ، أو الاختزال بوساطة الآيات القرآنية ، ما قد يقتضى التنويه !
---------------------------------------------
* محمد باقي محمد : كاتب وأديب من سورية