عبر قصص سبع ، تتأتى على حكايات مُتباينة في المبنى ، مُتمفصلة في الأطروحيّ ، يُتابع المُخرج المسرحيّ " إسماعيل خلف " الاشتغال على تجربة - قد لا تكون فريدة في نوعها - غير أنّها - ومن كلّ بدّ - مُثيرة للاهتمام ، ذلك أنّ " خلف " يقوم بمسرحة نصوص سرديّة ، ما سيدفع بأكثر من سؤال إلى الإلحاف ، أن هل نحن بصدد تداخل في الأجناس الأدبيّة كمُصطلح غير قارّ بعد ، وإن كان واضحاً في المُمارسة الإبداعيّة !؟ أهي المُصادفة تلك التي جمعت قاصّين خمسة من سورية ، أم أن " خلف " تعمّد الاشتغال على نصوص محليّة ، إذ لولا نصّ المسرحيّ " عدنان خرابشة " الموسوم بـ " العكش " لتوافرت النصوص على محليّة محض !؟ ثمّ ما هو الجامع بين هذه النصوص ، ما دفعه إلى الاشتغال على مسرحتها !؟ وكيف نُمسرح قصاً ينهض على السرد كثيمة أساسيّة !؟ كيف نُحوّله إلى نصّ مسرحيّ يقوم على الحوار والتشخيص !؟ وما هي الآلية التي ستقوم بإدماج تلك النصوص القصصيّة في نصّ مسرحيّ واحد !؟ ثمّ ما هي الحلول الإخراجيّة التي لجأ إليها في بلورة عمله كعرض مسرحيّ ناجز !؟
في جواب أول قد نذهب إلى تفكيك العنوان الرئيس الموسوم بـ " عن هول ما جرى " ، إذ أنّه سيشي بخطب جلل نفترض فيه أن يضمّ المضامين في خيط واحد ، وللإيضاح قد نتكّىء على عنوان فرعيّ هو " قتل الأحبة " ما يذهب جهات تضاؤل الأمل ، إن لم تعني إمحاءه !
مرّة أخرى سنتساءل ، ولكن لماذا نُقدم على قتل أحبّتنا ، ما يُحيل حياتنا إلى الرماديّ في قتامتها أو إلى الأسود !؟ ثمّة أب يقتل ابنه .. ثمّة ابن يقتل أمّه على نحو مُباشر أو غير مُباشر .. وثمّة شقيق يقتل اخته ، فلماذا !؟
عدا النصّ المسرحيّ لـ " عرابشة " ، يُشكّل نصّ " الدراجة " لـ " خلف " ذاته – والقصة مُستوحاة من قصيدة للشاعر منذر المصري - الحكاية الأولى في توليفته ، إذ ها هي الشخصيّة المحوريّة تحلم بدراجة هوائيّة ، هي الطفولة - إذن - في بحثها عن الحلم والانطلاق ، غير أنّه يعزّ ، ذلك أنّها - أي الشخصيّة المحوريّة - تنتمي إلى القاع الاجتماعيّ ، فهي ابن حمّال بسيط ، وأحلام هذه الشرائح على بساطتها وسذاجتها مُؤجّلة غالباً ، أو أنّها لا تتحقّق ، يتأجّل الحلم المرّة تلو الأخرى ، وعندما يتحقق ، تكون هي في أرذل العمر ، لقد وهن منها العظم والعزم ، وغدت عاجزة عن قيادة دراجتها ، لهذا ستظلّ صرختها الإنسانيّة المُتسائلة : " أليس ابن الحمّال إنساناً " تسوطنا بحرقة ، وعندما تموت .. فقط عندما تموت ، يُركبها الابن على دراجتها ، لينقل الجسد إلى مقبرة أخرى ، ذلك أنّ البلدية استكثرت على رفاتها مقبرتها التي أضحت برسم النقل ، لقد تحقق لها الحلم ، ولكن بعد أن أضحت رمّة !
وفي النصّ الثاني يأتي " خلف " على رائعة الراحل " سعيد حورانية " الموسومة بـ " الصندوق النحاسي " ، ثمّة طبيب شاب إذن ، لكنّه - هو الآخر - قادم من القاع الاجتماعيّ ، فأمه كانت تعمل غسّالة ثياب ، لقد تخرّج من كليّته ، وافتتح عيادته بدمها وعرقها ودموعها ربّما ، وآن لها أن تتوارى لكي لا تحرجه أمام الآخرين ، وها هي تنفذ رغبته تلك ، ولكن لتموت معنوياً ثمّ مادياً وتتلاشى ، وحين دفنها بلا أيّ مشاعر بالندم أو الحزن أو الأسى ، تفاجأ بحذائه - الذي رماه في وجهها ذات غضب - محفوظاً إلى جانب صورة أبيه الراحل في صندوقها النحاسيّ القديم ، إذاك فقط أدرك مغبّة ما كان قد فعل ، ولكن بعد فوات الأوان !
أمّا في نصّ الـ : د " عبد السلام العجيلي " الموسوم بـ " الصيد الثمين " ، فيأتي على حكاية غريبة ، إذ يقوم الأب بتدريب ابنه حمدان على الصيد ، يحلّ الليل ، ويأخذ النعاس الأب تحت جناحيه ، ليستفيق على حركة مُبهمة ، وكصياد قديم يُطلق النار على الطريدة بشكل غريزيّ ، ليتفاجأ بأنّها لم تكن إلاّ ابنه حمدان ، هو مُطالب بأن ينقل الخبر الفاجعيّ إلى أمّه ، فيالها من مهمّة!
ثمّ يأتي في " ابن حرام " لـ " حسن حميد " على طفل مجهول الأبوين ، تقوم على تربيته امرأة عجوز ، غير أنّه يتنكّر لها ، ويمارس حياته بعيداً عنها ، فتموت كمداً ، يقتلها الشوق والحنين ، عندها فقط يشعر بأنّه وسخ ، ويطلب موتاً لن يأتي سريعاً ، ذلك أنّه تسبّب في قتلها على نحو ما ، من غير أن يدرك بأنّه إنّما كان ينحر نفسه !
في قصة " نجمة " وهي الأخرى لـ " حسن حميد " يحضر القتل بدافع الشرف ، وهو ينصبّ على الأنثى باعتبارها مكمن هذا الشرف ، تنتفخ نجمة في مرض غريب ونادر ، إلاّ أنّ الداية تخطىء في التشخيص ، كما يخطىء طبيب القرية إذ يذهب إلى أنّها حامل ، ويُؤكّد طبيب المدينة الطامة الكبرى ، ليندفع شقيقها في لحظة حمقاء - لا تفهم إلاّ في سياقها - إلى اجتثاث رأسها ، ذلك أنّ ألسنة الناس حاضرة ، ما يُؤكّد على حضور الموروث الاجتماعيّ الواسم في مُجتمع ذكوريّ فظّ !
أمّا في " مأساة محمد " لـ " محمد باقي محمد " ، فإنّ " خلف " يتصدّى لبشاعة الحرب ويُدينها ، صحيح أنّه - حاله في ذلك من حال كاتب النصّ - لا يذهب بمُشاهده إلى ساحات القتال لرؤية أهوالها ، بيد أنّه يعكس تلك البشاعة عبر اندياحها على الأواصر الإنسانية إذ تتقطّع تحت تأثيرها !
عاد محمد من السفر برلك - إذن - غبّ سنوات سبع مُملقات ، كان القلق على أمّه وزوجته يبهظ كاهله ، لكنّه أشفق على أمّه الطاعنة في السنّ ، فآثرَ تأجيل المُفاجأة إلى الصباح ، واستلقى في أحضان زوجته ، إلاّ أنّ العجوز تفاجأت بما رابها ، فانتضّت خنجره الذي كان قد تركه في حوزتها ، وطعنت الرجل النائم في فراش ابنها ، وعندما أدركت فداحة ما اقترفته يداها ، تهاوت جاثية على ركبتيها ، فيما تناقلت الأمداء صدى صرختها الآدميّة المُلوّعة !
تتبدى القصص - كما سنُلاحظ - عن قتل للأحبة وامّحاء للأمل ، ثمّة موات بالمعنى الروحيّ، ذلك أنّ المقبرة كمكان رمزيّ لا تكتفي باعتقال الأجساد فقط ، بل تخنق الأرواح أيضاً في حصار ثقيل ومُبهظ ، ثمّة موت ماديّ أو قتل ، والمُشكِل في هذا القتل هو أنّه يتحقق على يد الأحبّة .. مُوجّهاً إلى الأحبّة !
وفي مُستو آخر سيتبدّى العام في تفاصيله المُقلقة ، سواء أكان ذلك على لسان كتاب النصوص ، أو عبر تبنّيها من قبل المُخرج ، ما دفعه إلى انتقائها وتوليفها ، إذ يذهب نصّ " نجمة " جهات الاجتماعيّ المُفوّت ، ليعكس مُجتمعاً ذي منظومة ذهنيّة ذكوريّة مثلاً ! فيما يشي نصّ " الدراجة " بتراتبيّة طبقيّة ، تنعدم في ظلّها العدالة الاجتماعيّة ، ولن ينأى عن علاقة الحاكم بالمحكوم عبر تفصيل علاقة الرعي بالقطيع المسيحيّة كما جاء على لسان ميشيل فوكو ، إذ ها هي البلدية - كأحد رموز السلطة - تنقل رفات الموتى بكلّ بساطة ، هذا إضافة إلى الهواجس الإنسانيّة في أبعادها الوجوديّة ، إذ ما معنى أن تقول إحدى الشخصيات في لوحة الختام : " هكذا أتيت .. هكذا أمضي " ، أو أن تقول أخرى : " كلّنا ضيوف .. لا أحد سيبقى ، كلّنا ضيوف .. وحدها الحياة هي صاحبة المنزل " ! ، لتختتمها شخصيّة ثالثة بالقول : " قلت لها : أمي .. هل تعلمين بأنّ ثلثي جسدنا ماء !؟ فقالت : لا .. بل أنّ ثلثيه دموع " !؟ إلاّ أنّ أن هذا الإنسانيّ لا يقودها إلى التسليم ، وإلاّ فما معنى أن يدلو أحدها بدلوه ، ليقول : " الحياة لمن سيبقى يُقاوم أعداء الحياة " !؟
بالاتكاء على نصّ " العكش " إذن ، يربط " خلف " نصوصه ببعضها ، إذ يستقرّ فيه على المقبرة كمكان رئيس ، أليست المقبرة هي المكان الذي سيستريح إليه هؤلاء الأحبة في موتهم أو مقتلهم أو مواتهم الروحيّ !؟ عنها - إذن - ستنبثق شخصيّة " العكش " ، و " العكش " هذا هو حفّار قبور يقوم بدور الراويّ !
على هذا سيحضر التغريب في المسرح ، ربّما لأنّ شخصيّة الراوي - حالها في ذلك حال المجنون - تنهض على تجاوز مفهومي المكان والزمان في إطارهما الفيزيائيّ ، إنّها فوق المكان .. وفوق الزمان ، ناهيك عن أنّها مُعفاة من مفهوم العقاب والثواب ، وبذلك فهي تستطيع أن تبوح بالحقيقة من غير أن يطالها العقاب ، ثمّ أنّها - إلى ذلك – تتشكّل من لحم ودمّ لتوقعن العمل ، وتتأتى على الإقناع ، لذلك نراها تروي ، لكنّها تتفاعل مع المصير التراجيديّ لشخوص المسرحيّة ، وتروح تبكيهم بحارق الدمع ، هذا إذا لم نتناسى أنّها هي الأخرى صاحبة حكاية تتعالق مع الحكايات الأخرى في تداخل ، إذْ ثمّة زوجة تموت ذات فجأة ، وكوخ تهدّمه البلديّة لدواعيّ شتى !
وهكذا - وبالتوالي - تتالت القصص عبر التداعي والتذكّر ، لتحكي - من ثمّ - حكاية شخوص ينتمون إلى القاع الاجتماعي ، ما يشي بانحياز " خلف " إلى جموع الفقراء ، وإلاّ فما مُناسبة استحضار بلديّة لا تجد ضيراً في نقل المقبرة كلّها ، لتقيم مكانها سوقاً تجارياً ، من غير أن تعبأ بأنات الموتى أو طقطقة عظامهم المُستكينة !؟
تبدأ المسرحيّة بكادر يجمع شخوصها في كادر أو لوحة ، فيما يستعرض " العكش " وجوهها ، نحن إزاء ما يُشبه المونودراما الجماعيّة ربّما ، ذلك أنّ حفار القبور إذ راح يقصّ حكايات شخوص مرّوا به في مقتلهم أو موتهم التراجيديّ ، أنشأوا يُشخصون الأحداث ، وقد تكون تلك أحد المآزق التي صادفت المخرج في توليفته تلك ، ذلك أنّ استغلال خشبة المسرح بعدد محدود من الشخوص لن تكون بالعمليّة السهلة ، وبما أنّ الفعل هنا فعل داخليّ ، فلقد اعتمد " خلف " على حركة محدودة تتناسب والمقام ، من غير أن يُجانبه التوفيق في هذا الجانب ، ذلك أنّ الحركة الزائدة كانت ستسم أداءهم بالافتعال والمُبالغة ، هذا ناهيك عن أنّه لعب على الإيهام ، عندما اشتغل على كسر الحاجز بينهم وبين الجمهور ، فنشرهم داخل صالة العرض في إحدى الحكايات ، ليعملوا على استثارة فضول المُشاهدين ، وذلك بالاتكاء على تقنيّة تعدّد الرواة !
أمّا المأزق الأخر فتجلّى في الكيفيّة التي كان عليه أن يتعامل بها مع لغة أدبية رفيعة قد تشْكِلُ في الحوار المسرحيّ ، باعتبارها بطلاً يُنافس الشخوص على البطولة ، وما كان أمامه - في ما نتوهّم - سوى حلّيْن ، أن يُجسّد تلك اللغة كما هي ، فيُنتج عرضاً يتسم بالنخبويّة ، أو أن يلجأ إلى البسيط في اللغة لكن الأنيق ، على ألاّ تذهب المظان بالقارىء جهات الوقوع في مطبّ التسطيح مثلاً !
مرّة ثانية حالف التوفيق " خلف " عندما لجأ إلى الحلّ الثاني ، فقدّم لغة تجمع الأدبيّ إلى الفصيح المُبسط في غير ما إسفاف ، وبديكور بسيط لا يتعدّى باباً خشبياً قديماً مُصمتاً من الأسفل ، ومفتوحاً من الأعلى ، ليُستخدَمَ كإطار لصورة شخوصه ، وغسالة قديمة صدئة ، وعجلة لنقل الشخوص أو الحوائج ، ناهيك عن ستارة الصالة السوداء ، قدّم " خلف " توليفته ، ولا نظنّه إلاّ مُتعمّداً الاقتصاد في ديكوره ، في إحالة إلى بساطة المقام وبشره ، ثمّ عاضدَ " العكش " في ربط الحكايات بموسيقى حزينة ، تحصلّت على عزيف جنائزيّ مهيب ، موسيقى راحت هي الأخرى تسهم في رثاء شخوصها ، لكنّ لعبة الإضاءة خذلته ، لا لأنّه لا يُجيدها ، بل لضعف في إمكانات الصالة في هذا الجانب ! أمّا أداء المُمثلين فلقد كان لافتاً ، لقد حمل " العكش " - على سبيل التمثيل لا الحصر - عبئاً كبيراً على امتداد العرض وباقتدار ، هذا كان حال المرأة التي حاولت أن تنوّع في أدائها ، على الرغم من تماثل المناخات ، فهي على الدوام إمّا أمّ مُلوّعة في تشخيصها أو زوجة ، ربّما وسمت المُبالغة أداء البعض جزئياً ، لكنّ الكثيرين منهم تفوق على ذاته ، ما يقتضي التنويه !
بما يشبه الكادر التشكيليّ ابتدأ " خلف " عرضه ، وبه اختتمه ، إذ بعد أن لخصّ الشخوص أدوارهم في جمل مُقتصدة ذات دلالة ، عادوا إلى كادرهم ، فبدوا كما صورة مُغبرة مُعلقة على جدار ، لكنّها - بالتأكيد - صورة غير قابلة للنسيان !
غنى الرجل إذن فأشجى وأحزن وأطرب ، وأكسب النصوص رهافة ضافية تضاف إلى رهافتها ، لتعيش الحسكة عرسها المسرحيّ مع رابع عروض المسرح القوميّ فيها !
-----------------------------
* تمّ اصطفاء المسرحية لتعرض في تونس خلال شهر آذار 2011
# محمد باقي محمد : كاتب وأديب من سورية ..