" عن الشعر الشامي "
• محمد باقي محمد
على نحو أكيد يُمكننا الجزم بأنّ الشعر هو الحلقة الوحيدة في السلسلة الثقافة العربية التي لم يُكتب عليها أن تنبت أو تقطع في مختلف العصور ، منذ الجاهليّة وحتى اليوم ، في حين غابت جلّ حلقات هذه السلسلة في العصر الحديث ، وذلك غبّ قطع حضاري واضح بسبب أدوار الانحطاط فالاستعمار ، هذا كان حال فنّ السير مثلاً ، إذْ غابت سير سيف بن ذي يزن والزير سالم وعنترة بن شداد وسيرة بني هلال أو تغريبتهم ، أو حال المقامة ، لنفتقد – من ثمّ – مقامات الهمذاني أو الحريري ، وهذا ينطبق على النثر الفنيّ في نماذجه الرفيعة ، التي عرفناها في بيان الجاحظ وتبيينه أو في الإمتاع والمؤانسة للتوحيديّ أو في الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المُقفّع ، كما ينطبق على فنّ الخطابة و أدب الرحلات ، الذي قد نمثل له بما تركه لنا ابن بطوطة ، من غير أن ننسى فنّ التراسل ، الذي يشكّل الوزير عبد الحميد الكاتب أحد أهمّ تجليّاته ، واضح مّما ت قدّمَ من سياق بأنّنا نروم الأدب دون السياقات الثقافية الأخرى كالفلسفة مثلاً أو النقد الأدبيّ أو الميثولوجيا ، ربّما بسبب طبيعة المقام الذي يجمعنا ، وعليه يمكننا الإشارة إلى أنّ العرب إذْ أفاقوا على صرخات روّاد النهضة في القرن التاسع عشر ، كانوا قد جمعوا إلى الشعر أجناس بديلة استجلبوها من الغرب كالرواية والقصة القصيرة والمسرحية !
وإذا بدت الوقفة بالمحطات التي مرّ بها الشعر العربيّ في معرض تطوّره ، ابتداءً ببشار بن برد مثلاً ، وانتهاءً بآخر الشعراء العرب المعاصرين في بلاد الشام أو في المغرب العربيّ ، ليمرّ الدرب بنا بأبي العتاهية وأبي نواس وأبي تمام ، المُتصوّفة .. والموشحات الأندلسيّة ، فالشعر المُرسل الذي كتبه شعراء المهجر ، وصولاً إلى قصيدة التفعيلة ، وانتهاءً بقصيدة النثر ، نقول إذا بدا تحرّي المحطات التي مرّت بها القصيدة العربية صعباً ، إضافة إلى خروجه عن سياق البحث ، فإنّ الوقوف بالمشهد الشعريّ الحديث – بقصد الدراسة – راهن وضاغط وضروريّ !
فإذا أردنا الانتقال من التعميم إلى التخصيص ، ووقفنا بالشعر العربي الراهن في عمومه ، والشاميّ منه خصوصاً ، لوجدناه قد تخلقّ عبر أنماط ثلاثة توسم بالتقدّم ، فيما تأخّر النقد عن مُواكبته أو غاب ، لكنّ القول بتقسيمه إلى عمود وتفعيلة ونثر قد يوقعنا في فخ الشكلانيّة ، و يُضيّع سؤال الشعر ذاته بحسب الناقد الـ : د . خليل موسى ، ربّما لأنّ قصيدة التفعيلة أو النثر قد تكون عموديّة – أي تقليديّة – أكثر من قصيدة الشطرين ذاتها ، كأن تتصدّى لموضوعة تقليديّة مثل الرثاء مثلاً ، وفي هذا السياق قد نتذكّر قصيدة النثر التي جاءت لتتخفّف من الإلقاء والخطابة وغير ذلك ، فإذا بها تغرق في تلك السمات ، ولا تقدّم نماذج جيدة كتلك التي جاء عليها " أنسي الحاج" دائماً ! على هذا قد نوافق الموسى إذْ ينعطف جهات تشكيل آخر يقول بالتقسيم إلى غنائيّ ودراميّ وسرديّ ، ذلك أنّ النصّ القديم كان نصّ النوع الواحد ، إن في التفعيلة أو الغنائيّ أو الملحميّ ، في حين أنّ الشعر – اليوم – تجاوَزَ هذه الحالة ، مُؤسّساً لالتقاء روافد عديدة داخل القصيدة الواحدة ، ولنجد – من ثمّ – تمازج العناصر مجتمعة حتى لكأنّها إنتاج العشرات من الشعراء " نزيه أبو عفش – مثالاً" !
صحيح أنّ الريادة تسجّل للعراق في الانتقال من قصيدة العمود إلى قصيدة التفعيلة ، هذا إذا استشهدنا بالثلاثيّ الشهير بدر شاكر السياب وبلند الحيدري ونازك الملائكة ، وصحيح – أيضاً – بأنّنا إذا رسمنا قوساً من بغداد إلى القاهرة مروراً بدمشق ، كان الناتج شعراً في العراق ، وقصة قصيرة في سورية ، ورواية في مصر ، ولا نعتقد بأنّ العلاقة بين البداوة والشعر ، أو المدنية والرواية ستغيب عن العين المُدققة ، لكنّ هذا الانتقال ما كان ليتمّ من غير الدور الرياديّ الذي لعبته بلاد الشام من حلال الشعراء المهجريّين " مدرسة أبولو ، جبران ، القروي – على سبيل المثال لا الحصر " ، الذين أطلقوا الشعر المُرسل كخطوة على الطريق نحو قصيدة التفعيلة !
واليوم قد يحقّ لنا أن نتذكّر شعراء شديدي الحضور في المشهد الشعري الشاميّ على مستوى قصيدة العمود كبدوي الجبل وعمر أبي ريشة ، بيد أنّنا سنُذكّر بأسماء لعبت دوراً مُهمّا في تطوّر قصيدة التفعيلة ، فيتداعى إلى البال شعراء الأرض المحتلة وعلى رأسهم الراحل الكبير محمود درويش ، إلى جانب ثلة من الشعراء كسميح القاسم ومعين بسيسو وتوفيق زياد ، كما سنتذكّر شعراء كبار كأدونيس ونزار قباني وعلي الجندي وفايز خضور وممدوح عدوان " سورية " وسعيد عقل و خليل حاوي ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وعباس بيضون " لبنان " وعرار " الأردن " ، كان لهم باع في هذا ، وقد يستدعي استعراض كهذا – يُمثل ولا يحصر – الإشارة إلى شعراء قصيدة النثر بدءاً بمحمد الماغوط ، لنمرّ بنزيه أبو عفش ومحمد عمران وسليم بركات وحازم العظمة وممدوح سكاف " سورية " وأمجد ناصر " الأردن " وأنسي الحاج " لبنان " وغسان زقطان " فلسطين " !
لقد أسّس التحوّل بما هو سمة مُلازمة للحداثة الشعرية العربية ، سواءً أكان ذلك على المستوى الجمالي الفنّي أو الأسلوبي أو الدلالي ، ربّما لأنّها أحلت التجربة محلّ التقاليد، والحرية محلّ الأنظمة النافذة ، والحيويّة محل النمطية كما يرى الناقد الـ : د . سعد الدين كليب ، وهذا ما جعلها - أي الحداثة الشعريّة – محكومة بالتجاوز المستمرّ للأنماط التعبيريّة ، والمواقف الفنية نحو فضاءات جماليّة لا تُحدّ ، لكنّها – على ذلك ، وكأي حركة فنيّة – احتكمت إلى نواظم وأسس ، أي إلى مرجعيّات ، وقد يكون من المُفيد – للتوضيح – أن نتساءل في ما إذا كانت هذه الحداثة تحتكم إلى التجربة الجمالية الحيّة ، أم إلى النصّ الموروث شعراً أو نقداً !؟ فإذا وقفنا بشيء من تلك التحوّلات كما في بنية الصورة الفنيّة على سبيل المثال ، لوجدنا بأنّها في صيرورتها انتقلت من مفهوم المُقاربة بين العناصر إلى مفهوم المُفارقة بينها !
لقد فرضت الحداثة نموذجها الجمالي عبر مراحل ثلاث هيمنت على الخطاب الشعريّ في بلاد الشام ، وبالتمعّن سيتكشّف للعين المُدقّقة اندياح السياسيّ عليها ، إذْ هيمن البطوليّ بداية على هذا الخطاب تحت تأثير الاستقلال عن المُستعمر الغربيّ ، والأحلام الكبيرة في مُجتمع الوحدة والحريّة والاشتراكية ، وبدا كنموذج استثنائيّ ذي طبيعة أسطوريّة وثورية في الوقت ذاته ، يتبدّى في الفرد المتمرّد المنتمي حيناً ، واللامنتمي في حين آخر ، كما في " مهيار الدمشقي" لـ " أدونيس"، أمّا الثاني فتمثّل في النموذج العذابيّ ، الذي تبدّى في أواخر الستينات والسبعينات ، أي في أعقاب الانكسارات الفكريّة والسياسيّة التي تعرضّت لها المنطقة " هزيمة حزيران - مثالاً " ، ولهذا انشطر بين إدانة الواقع في جانب منه ، وإلى الانفعال والسوداويّة الحادة على الصعيد الذاتيّ في الجانب الآخر ، كما عند " نزيه أبو عفش" أو " فايز خضور" ، فيما تجلى الثالث في النموذج الحيويّ ، الذي طلّق البطولة الاستثنائيّة ، أو التغيير الثوريّ الشامل ، ولم يعد يتلذّذ بعذاباته ، ويتحطم على صخرة رغباته المكبوتة ، ليتسيّد خطابه عقدي الثمانينات والتسعينات ، وقد يكون " عبد القادر الحصني " و " محمد فؤاد " و " علي كنعان " و " عصام خليل " و " بندر عبد الحميد " و" صقر عليشي " و " رياض الصالح الحسين " أمثلة واضحة عنه ، على سبيل التمثيل لا الحصر!
طبعاُ نحن لسنا معنيّين بالجدل الدائر حول مشروعيّة قصيدة النثر ، وقد نُذكّر شعراء التفعيلة بأنّ التهم التي يكيلونها لشعراء قصيدة النثر ، هي ذاتها التهم التي وسمهم بها شعراء القصيدة العموديّة ، أو نستشهد بمقولة بالغة الدلالة كان التوحيدي قد جاء عليها في المُقابسة الستين من كتابه الشهير " المُقابسات " ، وفيها يقول بأنّ " في النثر ظلّ من النظم ، ولولا ذلك ما خفّ ولا حلا ولا طاب ولا حلاّ، وفي النظم ظلّ من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله ، ولا عذبت موارده ومصادره ، ولا بحوره وطرائقه ، ولا ائتلفت وصائله وعلائقه " ، وقد نُذكّرهم بأنّ إخراج قصيدة النثر من جنة الشعر سيُغيّب جزءاً مهمّاً من المشهد الشعريّ العربيّ ،جزءاً يبلغ من العمر – اليوم – ستين عاماً ربّما ! !
واليوم فإنّ المُمارسة الشعريّة تتبدّى عن حساسية جديدة ، قد نستذكر من شعرائها محمد علاء الدين عبد المولى وحسان جودي وطالب همّاش ورشا عمران وعبد النبي التلاوي ونزار بريك هنيدي ومحمد وحيد علي ، وهي مُمارسة قد تتطلّب اشتغالاً نقدياً يُفكّك ويُحلّل ويستخلص ، ثمّ يُصنّف ويبوّب ، بعيداً عن أحكام القيمة ذات الطابع الإطلاقيّ البليد ، فهل سيمتدّ العمر بناقد شديد الأهميّة كيوسف اليوسف لهكذا إنجاز !؟ وهل سيقف الآخرون – حنا عبود مثلاً ، الذي انتقل إلى اشتغال مهمّ على الأسطورة والميثولوجيا – بتجارب لاحقة تبدأ بمنذر مصري مثلاً ، ولا تنتهي بغسان حنا ومنير محمد خلف وعبد الناصر حداد !؟ وهل سيضعون في اعتبارهم تجارب شعراء شباب تأثروا بقصيدة الهايكو اليابانية ، ناهيك عن المُؤثرات الغربيّة أوالموروث العربيّ ، الجاهليّ منه والإسلاميّ كعارف حمزة وعيسى الشيخ حسن وأديب حسن محمد ومحمد المطرود !؟ وهل سيُجيبون عن سبب تخلّف المرأة عن الرجل بعيداً عن المنظومة الذكوريّة المهيمنة !؟
قد يكون المشهد الشعريّ في بلاد الشام غير مُرض ، بيد أنّه – على نحو ما – مريض ومُعافى بآن ، ولإزالة الالتباس يُمكننا القول بأنّه – على علاته – المشهد الشعريّ الأكثر ثراءً وتميّزاً في الوطن العربيّ ، وإذا كانت الإحاطة بتفاصيله الباذخة عمليّة صعبة ، بسبب من ضيق الوقت المُتاح ، إلاّ أنّ ما تقدّمَ لا يُعفينا من المُحاولة ، وهذا بالضبط ما خطّطت هذه الورقة لإنجازه على عجل إنّه ، ما اقتضى التنويه !
______________________________________________
• ورقة عمل ألقيت في حفل توقيع الجزء الأول من الموسوعة الكبرى للشعراء العرب في فاس ، المملكة المغربية ، شهر 12 / 2009
* محمد باقي محمد : اتب وأديب سوريّ .