بسم الله الرحمن الرحيم
هناك عدة تساؤلات دارت في خاطري فحاولت أن أقف لها على إجابات . ربما كانت هذه الإجابات غير مقنعة لبعض إخواني، ولكنني أقول إنها محاولة للفهم . فلست كما يظن البعض متجنيا على التراث العربي فأنا عربي أحب العرب وأتمنى لهم السيادة والقيادة,وإنما الدافع الذي دفعني لذلك حرصي على أن يكون الشباب المثقف مُعْمِلاَ لعقله ، لا يقبل كل ما يقال أويكتب إلا بعد البحث والتروي ، حتى لاتخدعه الكلمة المطبوعة ، أو المنسوبة لجهابذة العلم ، ويجب على الباحث عن الحقيقة أن يسيء الظن بمن ينقل عنهم حتى يطمئن إلى صحة مانقل عنهم. فلا يخدعنا لفظ براق ؛ لأن النبي قال:" إن من البيان لسحرا"
ومن هذه الأسئلة : هل مانسمعه الآن من مصطلحات بلاغية يرجع إلى العرب؟.
معظم المؤرخين للبلاغة العربية يرون أن البلاغة في العصر الجاهلي بلاغة ذوقية غير معللة , يقول الدكتور شوقي ضيف:" الشعراء حينئذ (أي في العصر الجاهلي) كانوا يقفون عند اختيار الألفاظ والمعاني والصور ، وكانوا يسوقون أحيانا ملاحظات لا ريب أنها أصل الملاحظات البيانية في بلاغتنا العربية "
وهكذا ظلت في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي وإن زادت بسبب تحضر العرب واستقرارهم في المدن والأمصار ، وبسبب رقي الحياة العقلية فقد " أخذوا يتجادلون في جميع شئونهم السياسية والعقيدية ، فكان هناك الخوارج والشيعة والزبيريون والأمويون , وكان هناك المرجئة والجبرية والقدرية والمعتزلة ، ونما العقل العربي نموا واسعا ، فكان طبيعيا أن ينمو النظر في بلاغة الكلام ، وأن تكثر الملاحظات المتصلة بحسن البيان ..."
حتى إذا جاء العصر العباسي الأول اتسعت الملاحظات البلاغية ؛ لتطور الحياة العقلية والحضارية ، ونتيجة لظهورجيل من الموالي والفرس الذين دخلوا في الإسلام ، فأتقنوا اللغة العربية ، وأظهروا فيها براعة منقطعة النظير ، بالإضافة إلى ما ترجمموه من كتب الحضارات الأخرى ،" ومن أشهر هؤلاء ابن المقفع 134 هــ فقد ترجم عن الفارسية كتبا تاريخية وأخرى أدبية وسياسية ، كما ترجم كليلة ودمنه وأجزاء من منطق أرسططاليس ، واتسعت الترجمة بعده ، وأُسست لها دار الحكمة ، وأكب المترجمون من السريان وغيرهم ينقلون الترا ثاليونانيوالفارسي والهندي. وكان ذلك تحولا كبيرا في الفكر العربي ، إذ أصطبغ بثقافات أجنبية كثيرة "
فنرى في كتابات ابن المقفع إشارة إلى ما سماه البلاغيون فيما بعد بـ " حسن الاستهلال " و"رد الأعجاز على ما تقدمها" كما أنه تحدث عن فكرة المقام التي قامت عليها لبلاغة فيما بعد.
" فالبيان العربي نسيج جمعت خيوطه من البلاغة العربية في المادة واللغة ، ومن البلاغة الفارسية في الصورة والهيئة ، ومن البلاغة اليونانية في وجوب الملاءمة بين أجزاء العبارة"
حيث إنه قد ظهرت في القرن الثاني للهجرة طبقة من الكتاب يعملون للخلفاء ، ويعملون في الدواوين ، ومعظمهم من الفرس والسريان والقبط ، أو ممن تأدبو بأدبهم ، وهؤلاء وضعوا معالم يسير عليها الكتاب .
وقد" ظهر آنذاك الجدل وظهرت المعتزلة ، وهم أل لدد وخصومة فاتصلوا بالمنطق وبالجدل ومن ثم اتصلوا بالخطابة .. وكل ما نعتقده أنهم" تصوروا صناعة الكلام كما كان يتصورها اليونان من بعض الوجوه غير أن تأثير " الهيلينية " ( اليونانية) كان واضحا في نتاج الشعراء ونتاج الكتاب الذين ينتمون إلى أصل أجنبي كأبي تمام وعبد الحميد وأحمد بن يوسف وغيرهم من كتاب المأمون"
وكان لظهور علم الكلام أثر واضح في تطور الدرس البلاغي يقول الدكتور شوقي ضيف" ولم يكن الشعراءوالكتاب وحدهم الذين مضوا يدرسون وجوه البيان والبلاغة في فنهم ، فقد كان يشركهم في ذلك طائفتان من المعلمين ، أخذوا في الظهور مع أواخر القرن الأول للهجرة وأوائل الثاني ، وهما طائفة المتكلمين الذين كانوا يعنون بتعليم الشباب فن الخطابة والمناظرة .....ثم طائفة اللغويين والنحويين وكانوا يحترفون تعليم اللغة ومقاييسها في الاشتقاق والإعراب .."
هكذا أخذ المتكلمون يتعلمون البيان والفلسفة يقول الجاحظ:" لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنا في الصناعة ، يصلح للرياسة ، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة ، والعالم عندنا هو الذي يجمعهما "
" وقد نشأ الاتجاه الفلسفي متأثرا بالاتجاه العقلاني الذي سلكه المعتزلة ، وتأثرو فيه بالفلسفة اليونانية التي ذاعت وشاعت في نهاية القرن الثاني الهجري وأوائل الثالث إثر نشاط حركة الترجمةفي عهد العباسيين. فقد أمدت هذه الحركة المعتزلة بسلاح جديد استخدموه في مقارعة الخصوم ، وفي الذود عن أرائهم وأفكارهم ،وكان إمام هذا الاتجاه أبا الهذيل العلاف (ت 235ه / 849م )وتلميذه إبراهيم النظام (ت 231ه / 845م)أما الأول فقرأ كتب الفلاسفة وانتهج مناهجهم ، وأما الثاني فقد قال عنه الشهرستاني : أنه "قد طالع كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة"
" ولا ريب في أن العرب ليسوا بدعا من الأمم والشعوب ، بل هم كغيرهم يتطورون ويتأثرون بالزمان والمكان وظروفهما ، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا . وشتان بين عربي الصحراء القديم وعربي العصر الأموي الذي ورث كسرى وقيصر ، وخرج من صحرائه ، ونزل في الشام والعراق وغيرهما من الأقاليم الإسلامية "
فلقد" اتفق مؤرخو اللغة العربية وآدبهاكما اتفق مؤرخو الإسلام على أن العرب لم يكن لهم وجود أدبي ولا سياسي قبل عصر النبوة،وأن الإسلام هو الذي أحياهم بعد موت ونبههم بعد خمول"
ويقول د/ مبارك أيضا " وأنا لا أنكر أن العرب تأثروا بالفرس في حياتهم الأدبية ، فإن من الطبيعي أن تدخل في اللغة والعقول عناصر جديدة بسبب المعاشرة والاغتراب والاطلاع على آداب الناس في مختلف الأقطار . فكل أمة في الأرض تتأثر حضارتها وآدابها وفنونها بالنماذج الجديدة التي تصل إليها عن طريق المعارض الدولية ،وعن طريق السياحات وتبادل الآراء والأفكار في العلوم والفنون والآداب."
مع هذا فقد رفض الدكتور فشل أن يكون البلاغيون تأثروا بالتراث اليوناني أو الفارسي في استنباط القواعد البلاغية ، ورد على الدكتور إبراهيم سلامة ، وإن كان لا ينكر نظرهم في تراث الفرس واليونان والهنود والروم ..
المهم أننا يمكن" أن نستنتج أن البيان العربي إلى منتصف القرن الثالث الهجري لا يمكن أن يكون عربيا صرفا ، أو أعجميا محضا، فهو بيان غير تام التكوين ..وأبوابه لا تعدوا الكلام على صحة الحروف ومخارجها ، والكلام على الخطيب وموقفه وإشاراته ، والكلام على سلامة اللفظ والعلاقة بين الألفاظ والكلام على العلاقة بين اللفظ والمعنى."
وبالرجوع إلى الثقافة العربية نجد المنطق قد أثر فيها كثيرا بحيث أفاد منه علم الكلام والفلسفة، وأفادت منه العلوم الدينية كالأصول، وأفاد منه النقد الأدبي في بعض مناهجه، وتتجلى إفادة هذه العلوم من المنطق في ضبط مناهجها وجعلها قائمة على البحث الدقيق المحكم.
وإذا استعرضنا تأثير الفلسفة وفروعها من المنطق والكلام في البلاغة فإننا نجد أن هذا التأثير كان قويا واسع المدى يشمل جميع مراحل عمرها، فقد نشأت البلاغة في أحضان كثير من العلوم كان المنطق والكلام على رأسها، والدليل على هذا أن أكثر البلاغيين كانوا يتعاطون الفلسفة والكلام، وأذكر منهم بشر بن المعتمر، والجاحظ، وقدامة بن جعفر، وعبد القاهر الجرجاني، والزمخشري والسكاكي وغيرهم كثير، وقد كان لصلة رجال البلاغة بالفلسفة أثرها في توجيه الأبحاث البلاغية توجيها كلاميا فلسفيا مما جعل بعض الباحثين يذهب إلى القول بأن البلاغة كانت وديعة في يد المتفلسفين على مر الدهر.
ولتأثير الفلسفة بمنطقها وكلامها في البلاغة صور ومظاهر كثيرة: منها أن المتكلمين وضعوا المصطلحات وأمدوا بها البلاغة أثناء نموها وتكوينها بحيث استفادت من ذلك في وضع أسسها وتدعيمها وجعلها نشاطا خاصا قائما بذاته، ومنها أيضا ظهور الفنون البلاغية على يد الباحثين في الإعجاز وأغلبهم من المتكلمين الذين تمثلوا المنطق واعتمدوا عليه في أبحاثهم الاعتقادية، ومنها كذلك النزعة الجدلية الحجاجية التي سيطرت على البلاغة ولا سيما عند المتكلمين، ومنها الكلام على أوجه الحسن الفلسفي كما نجد في البيان، والكلام على الأسباب والمسببات كما نجد في المجاز المرسل، والكلام على الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي كما نجد في علم المعاني، وهي مسألة أدت إليها الفلسفة الإلهية.
وازداد تأثير المنطق في البلاغة قوة عند المتأخرين، فالسكاكي مثلا حين ألف كتابه مفتاح العلوم في العلوم الأدبية أردف علوم البلاغة بالبحث المنطقي في الحد والاستدلال وعلل ذلك بأن "تتبع تراكيب الكلام الاستدلالي ومعرفة خواصها، مما يلزم صاحب علم المعاني والبيان"، فقد جعل معرفة المنطق –كما ترى- ضرورية لمن يتعاطى البلاغة، فهو عنده عمادها الذي تقوم عليه، ومن ثم تكلم على البلاغة والمنطق في كتاب واحد.
ونظير هذا التأثير القوي تلك المداخل المنطقية التي ذكرها البلاغيون المتأخرون كمقدمة أو تمهيد للبيان، وتنصب على الدلالة وشروطها وأقسامها الوضعية، والعقلية، وقد أفضى هذا التأثير إلى ظهور مدرستين في البحث البلاغي نص عليهما أبو هلال العسكري بقوله: "وليس الغرض في هذا الكتاب سلوك مذهب المتكلمين، وإنما قصدت فيه مقصد صناع الكلام من الشعراء والكتاب، فلهذا لم أطل الكلام في هذا الفصل".
فالعسكري في هذا النص يذكر مدرستين في البحث البلاغي هما: المدرسة الكلامية، والمدرسة الأدبية، ويسميها "صناع الكلام"
أنا لا أنكر وجود البلاغة قبل الإسلام ، ولكني أنكر وجود علم البلاغة قبل الإسلام ، فالبلاغة ظاهرة ،.ونحن نعرف أن الظاهرة تسبق القاعدة ، أظنك توافقني الرأي ، فالبدوي حينما يجلس وراء غنمه في بطن الصحراء المقفرة ، تسلط عليه الشمس سياطها الملتهبة – حينما يجلس وينشد شعرا هو لم يكن يعي معنى الاستعارة ولا التشبيه ولا الكناية ولا المجاز بصفة عامة ، وإنما يتحدث بسجيته وطبيعته كيفما جاء واتفق ، والشاعر البدوي كان كذلك ، والشاعر الحكم، أو الناقد كان كذلك ، كان حكمه قائما على المعاني لا التراكيب. وسأوضح لك ذلك بالأمثلة والشواهد.
يروي صاحب الأغاني أن النابغةالذبياني كان الشعراء يحتكمون إليه ، فمن نوه به طارت شهرته ، ومن عاب عليه لم يزل حديث الناس ، وقد ثار عليه حسان بن ثابت لأنه فضل الأعشى والخنساء عليه وقال له: أنا والله أشعر منك ومنها ، فقال له النابغةحيث تقول ماذا ؟ قال حيث أقول :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـا.
ولدنا بني العنقاء وابني محـــرق فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما.
فقال له النابغة:"إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك ....فقام حسان منكسرا منقطعا" وهناك شواهد كثيرة،ذكرتها كتب الأدب. يمكن أن يرجع إليها الباحث ليقف على حقيقة ما أقول.
" استمد النابغة أحكامه هذه من العرف اللغوي السائد ، ومن القيم الاجتماعية أو الأدبية الموروثة ، بالإضافة إلى الذوق العام"
أنا أيضا لاأدافع عن هذه المصطلحات فهي جنت على البلاغة والذوق ،"فلم تفد البلاغة من فلسفة اليونان ومنطقهم ومناهجهم العقلية غير الاعتراك حول الحدود، وتفريع الأسماء ،والاهتمام بالمظهر اللفظي ،والتعقيد المعنوي دون الاهتمام بروح الأدب ،وطبيعته."
فما أردت أن أقوله – فقط - هو أن الظاهرة البلاغية كانت موجودة من قبل ولكن لم تكن معروفة بهذه الصورة التي نراهافي كتب البلاغة ( البديع لابن المعتز ، منهاج البلغاء لحازم القرطاجني ، نقد النثر المنسوب لقدامة بن جعفر ، مفتاح العلوم للسكاكي ....الخ.) والدليل على ذلك أن ابن المعتز لم يلتفت للبديع(أول كتاب في البلاغة) إلا لأن أبا تمام وبشارا ومسلما بن الوليد وأبا نواس أسرفوا في استخدام البديع وهو يقصد بالبديع (الجديد)وهو من أول مصطلحات البلاغة بل أول مصطلحات البلاغة بل أول اسم من أسمائها لم يكن يعرفه إلا خاصة الخاصة من الأدباء ويجهله غيرهم وهم كثير . "ولم يكن لابن المعتز من فضل غير تلخيص الأسماءوالتعريفات تلخيصا جنى على تلك الفنون ودمغها بالشكلية "
ولكني أرى أن مسألة نسبة أصول علم البلاغة للعرب موضع شك ، لابد من البحث الجاد والمتواصل ؛ حتى نتوصل إلى هذه الأصول كي لا ندع الغربيين يضعون لنا أصولا من اقتراحهم ، ويفرضونها علينا ونقف نحن كالمستهلك الذي ينتظر ما تنتجه مصانع الغرب ليلوكه دون فحص أو تدقيق.
أدعو أخواني وأخواتي محبي اللغة العربية إلى التفكير والبحث عن الحقيقة ، كما أدعوهم إلى التحرر من قيود سلطة الجذور ، فالبحث الدقيق هو الذي يشعرنا بعظمة لغتنا لغة القرآن الكريم الذي ما جاء إلا ليخرج عرب الجاهلية من الظلمات إلى النور ، ويغيرهم ، جاء بلغتهم فأعجزتهم بلاغته التي لم يكونوا يعرفوا مثلها وإلا لوعرفوها فما سر إعجازه ؟!السر أنهم لديهم لغة وأدب وشعر ونثر ، لكنهم وجدوا القرآن بأسلوبه الدقيق ، ولفظه الرقيق فاق شعرهم وجاوز نثرهم ، فركعوا في محراب بلاغته ، وراحوا يبحثون عن سر فصاحته ، ومن يومها بدأالبحث عن وفي البلاغة.
هذه فكرتي حاولت أن أبرزها ، فإن أحسنت فالفضل كله لله ، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان ، هذا وأدعو الله تعالى ،أن يوفقني إلى الخير والسداد .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيمن أبومصطفى.