جماليات التلقي بقلم د / فوزي عيسى

بحث من مؤتمر مطروح الأدبي مايو 2010
بقلم أ د / فوزى عيسى

جماليات التلقى
أ. د / فوزي سعد عيسى


جماليات التلقي :
التلقي هو العملية المقابلة للإبداع وهو يتطلب قارئاً متميزاً ذا ثقافة عميقة وخبرة طويلة تتيح له سبر أغوار النص والوقوف على أسراره وجمالياته.
وقد ارتبطت نظرية التلقي Reception Theory بتحول مهم فى الدراسات الأدبية والمناهج النقدية فعمقت العلاقة بين النص والقارئ ودعت لإعادة النظر فى القواعد القديمة.
وقد هيمنت نظرية التلقي على الساحة النقدية فى أوربا لا سيما ألمانيا وروج لها عدد من النقاد أمثال غيزر وستانلي فيش وهانز روبرت ياوس وهولا ند وغيرهم وإن وجدنا إرهاصات بها عند أرسطو وبعض ذالنقاد والبلاغيين، ويعد ريتشاردز ممن أرهصوا بها حين حلل مجموعة من القراءات لقصائد حللها مجموعة من طلاب جامعة كمبردج عام 1929.
وتركز نظرية التلقي فى نموذجها الألماني على القارئ وتجربته فى قراءة القصيدة ومدى استجابته لها وما تحدثه فى تأثير من نفسه وكيفية إدراك الفضاء الذى تحلق فيه والعالم الذى يصوغه الشاعر ويدور فى فلكه وكيفية ملء الفجوات التى توجد فى النص الشعري. ولا يمكن إغفال الجهود التى قدمها (ياوس) فى نظرية التلقي حيث طور مصطلح (الأفق) وصار يحمل عنده مصطلح (أفق التوقعات) "وهو يمثل ركيزة أساسية فى تشكيل نظريته من حيث هو نظام من العلاقات أو جهاز عفلى يستطيع فرد افتراضي أن يواجه به أي نص " ويربط (ياوس) بين عملية التلقي وأفق التوقعات على أساس أن المتلقي يعيد بناء هذا الأفق، ومن ثم قياس أثر الأعمال أو وقعها على أساس الأفق الذى تم فيه استخلاصه من هذه الأعمال.
ويعد فلفانج إيزر من أبرز النقاد الذين أسهموا بجهد كبير فى تأصيل نظرية التلقي، فقد غلب على تصوراته الاهتمام بالنص وكيفية ارتباط القراء به، " وكانت نقطة الانطلاق عند إيزر هى السؤال عن كيفية ان يكون للنص معنى لدى القارئ. والمعنى هنا ليس هو المعنى المختبئ فى النص – كما هو الأمر فى الفهم التقليدي – بل المعنى الذى ينشأ نتيجة التفاعل بين القارئ والنص، أي بوصفه أثرا يمكن ممارسته، وليس موضوعا يمكن تحديده، ذلك بأن (أيزر) لا يرى فى العمل الأدبى نصا محضا أو ذاتيا محضا للقارئ، ولكنه يشملهما مجتمعين أو مندمجين وعلى هذا الأساس يقيم (أيزر) إستراتيجيته التحليلية على أساس رسم الحدود بين ثلاثة من مجالات الاستبصار هى :
أ‌- النص بما هو موجود بالقوة ، يسمح بإنتاج المعنى عندما يقوم القارئ بتجسيده ومل فجواته.
ب‌- فحص عملية معالجة النص فى القراءة ، حيث تبرز أهمية الصور العقلية التى تتشكل فى أثناء محاولة بناء موضوع جمالي.
ج – فحص الشروط التى تؤذن بقيام التفاعل بين النص والقارئ وتحكمه، وذلك فى نظرية الاتصال وبنية الأدب البلاغية .
لقد أعلى (أيرز) من شأن القارئ وعظم دوره وجعله حجر الزاوية فى عملية القراءة "وذهب إلى أن العمل الأدبى يتشكل من خلال فعل القراءة، وأن جوهره ومعناه لا ينتميان إلى نص، بل إلى العملية التى تتفاعل فيها الوحدات البنائية النصية مع تصور القارئ، ومن ثم زحزح النص فى نظرية التلقي من مركز الدراسات الأدبية، وصار لا يعيش إلا من خلال القارئ، أو من خلال اشتغال القارئ به" ونظرا للدور الحيوي والمحوري الذى يضطلع به القارئ فى علاقته بالنص، فقد وضع نقاد نظرية التلقي شروطا لهذا القارئ، فتحدث (أيزر) عن قارىء ضمني للنص، واقترح (ارفين فلف) قارئاً مقصوداً، أي القارئ الذى كان فى ذهن المؤلف وهو ينجز عمله، وهو قارئ يصفه (فلف) أحيانا بأنه خيالي أو ملائم أو نموذجي أو مثالي أو محايث. وهى صفات يمكن أن يضاف إليها صفة (المتميز) عند ريفاتير والعارف عند فش.
إن هذه الصفات التى حددها النقاد للقارئ تتطلب بالضرورة نصا يسمح بالتأويل ويكتنز بالدلالات، ولذلك يميز بعض النقاد بين النص المفتوح والنص المغلق وهو ما أكده امبرتو إيكو فى كتابه (دور القارئ) الذى نشره عام 1979 حيث عرف النص المفتوح بأنه الذى يجعل القارئ شريكا فى خلق المعنى وإنتاج الدلالة على النقيض من النص المغلق. فالنص المفتوح يفترض - حسبما يرى ريفاتير وجود قارىء فذ يحفر فى طبقاته ويبحث فيما وراء المعنى.
إن مصطلح (أفق التوقعات) الذى استخدمه (ياوس) لا يعنى أن القراءة تخضع لوجهة النظر الذاتية أو الافتراضات الوهمية ولكنها ترتبط بمجموعة من المعايير الثقافية والخبرات العميقة والكفاءة اللغوية والبلاغية وغير ذلك مما يسهم فى إقامة حوار بناء بين القارئ والنص، ولذلك فان نظرية التلقي تتميز بوجود تداخل بين الأنظمة المعرفية وهو ما يتطلب من أصحابها توافر خبرة معرفية بعلوم أخرى كالفلسفة وعلم النفس وعلم الجمال وغيرها.
وقد ارتبطت نظرية التلقي بشيوع عدة مصطلحات ، مثل (جماليات التلقي) وقد روج له نقاد النظرية من الألمان أمثال هانز روبرت ياوس وفولفانج ايزر و غيرهما. كما شاع مصطلح (شعرية التلقي) عند ايفانكوس وايجلتون وتادييه، وهو ما يشير إلى التفاعل الذى يصل إلى درجة التوحد بين النص والقارئ.
إن جماليات التلقي تعنى توظيف القارئ لقدراته وثقافته وخبرته فى تحليل النص والوقوف على أسراره، وفك شفراته، وهو ما يحقق المتعة للقارئ والمبدع معا، ولعل شاعرا عبقريا مثل المتنبي قد عبر عن إحساسه بهذه المتعة حين رأى الناس يسهرون ويتخاصمون ويجتهدون فى البحث عما وراء معانيه الظاهرة فيما ينطبق عليه مقولة ريفاتير : إن الشعر يعبر عن مفاهيم ومعان تعبيرا غير مباشر، وإن القصيدة قد تقول شيئا وتعنى شيئا أخر.
** وقد ميز (تودروف) بين ثلاثة أنواع من القراءة هى:
1- القراءة الإسقاطية : وهى نوع من القراءة عتيق وتقليدي لا ترتكز على النص ولكنها تمر من خلاله ومن فوقه متجهة نحو المؤلف أو المجتمع، وتعامل النص كأنه وثيقة لإثبات قضية شخصية أو اجتماعية أو تاريخية
2- قراءة الشرح : وهى قراءة تلتزم بالنص ولكنها تأخذ منه ظاهر معناه فقط، وتعطى المعنى الظاهري حصانه يرتفع بها فوق الكلمات، ولذا فان شرح النص فيها يكون بوضع كلمات بديلة لنفس المعاني أو يكون تكراراً ساذجاً يجتر نفس الكلمات.
3- قراءة الشاعرية : وهى قراءة النص من خلال شفرته بناء على معطيات سياقه الفني، والنص هنا خليه تتحرك من داخلها مندفعة بقوة لا ترد لتكسر كل الحواجز بين النصوص، ولذلك فإن القراءة الشعرية تسعى إلى كشف ما هو فى باطن النص، وتقرأ فيه أبعد مما هو فى لفظه الحاضر.

وهذا النوع من القراءة هو ما نحتاج إليه ويتطلب القارئ الكفء الذى يمنح الحياة للنص من خلال القراءة المنتجة وهو ما عناه هانز روبرت ياوس فى كتابه (جماليات التلقي) towards an aesthtic of reception حيث أكد أن النص لا يوجد ويكتسب هويته إلا بعد إعادة إنشائه أو تجسيده داخل عقل قارئه، وهو ما جعل بعض نقاد نظرية التلقي يمنحون القارئ حرية مطلقة فى القراءة ويذهبون إلى أن دوره يتعدى الإجابة عن السؤال (ماذا تعنى القصيدة)؟ أو ما المعنى المراد من النص ؟ ليكون فى صيغة هذا السؤال : كيف يصنع القراء معنى القصيدة؟ وقد أدى هذا التسامح إلى إفراز سلبيات عدة، منها ما نراه عن بعض النقاد من شطحات فى التأويل، وتحميل النص أكثرمما يحتمل، والوقوع فى دوائر الذاتية والانطباعية والانزلاق إلى ما يشبه الفوضى فى القراءة والتأويل.
وفى ذلك خروج بالنظرية عن مضمونها ، لأن النص فى جوهره شبكة من العلاقات اللغوية والمجازية المتشابكة، وله قوانينه ومفاتيحه وأبنيته التى تجعل منه تركيبة معقدة لا يتأتى للقارئ فك شفرتها إلا من خلال فهم عميق وتمحيص دقيق وكفاءة تتيح له سبر أغواره .

المراجـــــــع

1- نظرية التلقي، تأليف روبرت هولب ترجمة د / عز الدين إسماعيل، ط : النادي الأدبي الثقافي بجدة، الطبعة الأولى 1415 هجرية، 1994 م .
2- دلائليات الشعر، ما يكل ريفاتير ترجمة محمد معتصم، ط 1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب 1997 .
3- الخطيئة والتفكير من البنوية إلى التشريحية، د / عبدا لله الغزالي، ط 4، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998 م.

شكرا لك أستاذ عاطف على تعريفنا بالناقد د فوزى
و بالدراسة القيمة
بارك الله فيك