الشاعرة المصرية إيمان البكري
في "صلاة لعينيك.."
بقلم : محمد الزينو السلوم
------------------------------------
" صلاة لعينيك "* للشاعرة إيمان البكري* : إصدار دار قباء في القاهرة عام 2002م ، وقد جاء في غلاف أنيق، فيه العديد من الرسومات المعبّرة عن بعض القصائد ، يتضمن / 27 / منها /5/ قصائد عمودية ، وواحدة مشتركة ، و الباقي من قصائد التفعيلة .. لديها العديد من الإصدارات الشعرية* ..
في الإهداء تقول مخاطبة " سارة " وهي ابنتها ،من قصيدة "خاتمة السور الضوئية " في آخر الديوان : " يا سارتي/يا من حملتك نجمة سحرية الأضواء فرّت من حقول الأنجمِ/وسكبت عطرك يا شذا الأعمار في مجرى الألوهة من دمي/ فتراقصت دقات قلبك خفقة قدسية النغماتِ .."..
في قصيدة " صلاة لعينيك " تقول :
حنانيك يا عين لا تـدمــــعي ويا دَقّـــة القــلـب لا تفــزعـي
فـما الشوق إلا رنين الجوى فلا تُنكـري الـحب ، لا تدّعي
كلانا شهيدٌ بســاح الـهـــوى وفي الـخفـق بعثٌ فلا تجزعي
والقصيدة تحمل اسم الديوان –كما نرى- وهي من القصائد الوجدانية بمثابة وسام على صدر هذه المجموعة ، بعدها تأتي قصيدة " كأني أحبك " ( وجدانية أيضاً ) ، نجد أن الشاعرة تعتمد البحور الغنائية والمجزوءة في أكثر قصائدها العمودية لتسهّل عليها التغريد في صوتها ولونها المميّزين ، وخاصة وأنها حملت عدداً من الألقاب التي سمّاها بها الجمهور –كما سنرى فيما بعد- نتيجة محبة الجمهور لها من خلال الأمسيات والمشاركات التي كثيراً ما تُقام لها ، وقد ساعدها هذا التجزيء على الحفظ التي اشتهرت به أيضاً .. أما الأمر الآخر الذي وضح إلي من خلال هذا الديوان- هو موضوع " السخرية والتهكم " في قصائد الشاعرة ، الذي اعتمدته الشاعرة والذي اعتمده ويعتمده بعض الشعراء ومن أهمهم في العصر الحالي " الشاعر اليمني : عبد الله البردوني" ..وعلى غلاف الديوان تقول الشاعرة:وهو من قصيدة " القول ما قالت خزام " :
عصرٌ نسائيّ الملامـــح قادمٌ لا تعجبوا
نصـــف الرجــال تزاوجـــوا وتحجّـبوا
والنصــــف ينتظر الســماح ليـنجبـــــوا
ومثل هذا التهكم والسخرية نجدها في أكثر قصائدها في هذا الديوان .. وهنا تتكشّف لنا معاني الجرأة في شعرها ، وإذا ما ربطنا بينهما يتبيّن لنا الغاية التي تنشدها الشاعرة .. والأهــم في هذا الأمــر أن الـتـهــكم والســـخرية في شــــعرها لم يقـتـصر على الســاســة وإنما تعدّاها إلى الجمهور أيضاً ليس في مصر بل في الوطن العربي حيث تحمّل القيادات والشعب العربي ، وحتى المبدعين .. مسؤولية ما يجري على الساحة العربية حالياً .. في قصيدة " حوار الصمت " تقول : " يا أيها السادة الحضور/الحاضرون الغائبون/الغائبون الحاضرون" ..إلى أن تقول : " أنا شاعرٌ لا أشعرُ /ومغيّبٌ لا أعلمُ/من نقطة اللامبتدى/قد أبتدي" .. بعدها تقول أيضاً:"وقصيدتي/صدأٌ على ورق البنفسج والغصون/صمتي حوارٌ/واحتضارٌ/واجترارٌ.." ، إذن هي تضع الشعراء أيضاً أمام مسؤوليّاتهم الإبداعية ، ويتبدّى ذلك أكثر في قولها –بالقصيدة ذاتها- : " طمسوا شهادة موطني/ليؤرّخوني من جديد/ ربطوا حبال الليل في عنق النهار/...واتقنوا لغة الحصار/... من ألف عام وَ يزيد/وصدورنا مأوى لأحلامٍ/مكبّلة بأغلال القيود .." ، وقبل آخر القصيدة تقول:" محاصرون يحاصرون/وتابعون يُصفّقون/وثائرون يحذّرون/وكلنا نغدو وقوداً/للمنافي والمشانق والسجون.." ، وهذا يؤكد ما قلته من قبل ... فالشاعرة تقول ما لم يجرأ على قوله كثير من الشعراء من قبل ، وبلغة مباشرة في أكثر الأحيان فقد يحتاج الواقع المعاش إلى مباشرة في الشعر أيضاً ليصل إلى القلب دون تفكير أو تأويل .. وكافة القصائد في هذا الديوان تأخذ ذات المنحى : فالقصيدة الصفراء (ص33) تنتقد الصحف التي تُحاصرنا بالأكاذيب الإعلامية .. تقول في آخرها :"يا أيها الشعب الذي عبث الجميع بعقله/فتوحّدت لغة التوجّع والألمْ/فلتحذروا.. وتنبّهوا/كم من حقائق زُيّفتْ/باسم القلمْ.." .. وفي قصيدة "تأمّلات (ص43) تقول:"يا أيها الإنسان مالك تدّعي علماً/وما زلتَ الجهولا.." ، هي لا تكتفي هنا بالعربي ، بل تخاطب الإنسان ، وتنتقل في شعرها إلى الشعر الإنساني أيضاً ، والأمثلة كثيرة في الديوان.. وفي قصيدة "كن كعهدك" (ص78) تقول:"قم .. تحرّرْ / ويل قلبٍ كلّ شيء فيه أبكمْ/خلف سجن القهر صمتك/أنت حر/لست أبكمْ/لست عبداً/عش..تعلّمْ .." ، وتقفز إلى قصيدة"مملكة الأصنام"(ص71) حيث تقول:"بلادي قد غدت وهماً/ومملكة من الأصنام والخرَسِ/وأصداءٌ نُردّدها/بلا روحٍ ، بلا حسِّ/وأشعاراً وأعلاماً/وقيثاراً ذبيح الرجع والهمس ِ.." ، وتبيّن فيما بعد أنها تخاطب الأمة العربية ( مصر-الشام-اليمن-لبنان ..إلخ) ، إلى أن تقول:"بلادي كنت أعبدها/أعانقها وأرفضها/بلادي صرتُ أُدمنها/كأقراص من الأحزان والأوجاع والوهم/محاصرة أنا فيها.." ، إلى أن تقول:"بلادي كيف أُرجعها؟/وسيف القهر في صدري/بلادي أيقظي نبضي/وهبّي حرري قيدي/حروف الضاد تُختطف/يد القنّاص تلتقف/فما الإذعان؟/ما الهدف؟ ..إلخ" ..
وبالإضافة لذلك فالقصائد مليئة باللغة ذات الدلالات الجديدة ، والصور والخيال ، وتحس وأنت تقرأ لها بصوت ولون يميزانها ، وبلغة معجمية خاصة بالشاعرة تتجلّى في أكثر قصائدها ، وضمن مقاطعها الشعرية في القصائد العمودية والتفعيلة ، وكذلك من خلال سهولة اللغة التي تصل لجمهورها مباشرة ودون أيّ عناء .. ويمكن اختصار معجمها اللغوي بالسهل الممتنع، ومن هنا تحس وأنت تستمع لها في المناسبات تواصل الجمهور معها ومحبته لها على خلاف بعض الشعراء ..؟
ولو استعرضنا باقي قصائد الديوان ( عصفور النار-أصداء الصوت-فجر البعث-من يسعفه الوقت-بريد الأضواء-وطن بلا عنوان-محاولة لاسترجاع الوهم ..إلخ) لوجدناها تفيض بالتهكم والسخرية ، وكذلك باللغة الشعرية العذبة والبديعة ،والانزياحات اللغوية ذات الدلالات الجديدة ، كقولها في قصيدة "أصداء الصوت" :"وغمست خبز قناعتي/في ملح أيامي العجاف/أتقوّت الأحزان، أبتلع المرارة/أرتوي ظمأ الجفاف/هل هكذا الأعمار تمضي في انبلاج الجرحِ/والليل المرابض في شرايين الصباح ، وفي الرؤى..؟ / مستوطناً رئة الضفاف.." ، نجد هنا (خبز القناعة-ملح الأيام-شرايين الصباح-رئة الضفاف) وغيرها ، وغيرها ، مما يدل على التطور والتجديد في الشكل والمضمون معاً ،فالديوان ينبض بالوجع الخاص والعام من خلال شاعرة مرهفة الشعور والإحساس تحسّ وتدرك ما يجري حولها ، وترسمه بريشتها ، وتلونه بأحاسيسها ، من خلال فضاءات وآفاق شعرية واسعة .. وهذا إنما يدل على ثقافتها ووعيها وإبداعاتها التي تعتبرها رسالة إنسانية يجب إيصالها للآخرين بكل جرأة وصدق ..وهذا الديوان مفتوح الآفاق ، وتطول رحلتنا على مراكب قصائده وإبداعاته ، وهو جدير بالدراسة الموسّعة ، ولولا ضيق المحال لفعلت .. فهناك جوانب أخرى لا تقلّ أهمية عما ذكرت فيه مثل كعناوين القصائد- الشعر الوجداني (الذاتي) في كثير من قصائدها ، وضرورة التوسع أكثر في معجم الشاعرة اللغوي ، وغير ذلك ..
وعليه أُثمّن للشاعرة هذه الفضاءات الواسعة التي رسمتها ولونتها بألوان أحاسيسها ومشاعرها ، والجرأة التي اتخذت من التهكم والسخرية وسيلة لتوصيلها ، وأتمنى أن أقرأ لها المزيد مستقبلاً ..
وقبل أن أنهي قراءتي .. أترككم مع قصيدة " القديس العاشق" حيث تقول:"أسرى بالروح إلى ملكوت الغيب/هذا القديس الورع ، العاشق رغماً عنه/أدخلني مدن العشق وأبحر في الوجدان/يضوّء كلّ حروف الصمت/ليُحرر ضعفي/ نبضي الساكن خلف شغاف القلب.." ، إلى أن تقول: " آهٍ من هذا القديس الورع العاشق رغماً عنه/داهمني ، ملّكني الدنيا/حين دخلت إلى عينيه.." .
*