أصدقائي بواحة النثر
السلام عليكم ورحمته وبركاته
إسمحوا لى أن أنقل هذة الدراسة للشاعرالأستاذ/ رياض بن يوسف التى كتبها فى مجلة اقلام الثقافية لرأب هذا الصراع القائم بين ماهية قصيدة النثر وتشابهها مع الأجناس الأخرى من الشعر لعلنا نخرج منها بإفادة
قصيدة النثر أو الشعر المنثور أو الشعر النثري ..على اختلاف في التسميات لا زالت إلى اليوم تعاني من أزمة الشرعية و من رفض قطاع واسع من النقاد و الشعراء لها و هو رفض في أحيان كثيرة يكون صامتا.
حتى نستنطق هذا الصمت و نخلخل سكون المواقف أردت أن أفتح هذا الموضوع الهام جدا، و هو في الواقع يتجاوز بنية قصيدة النثر أحيانا إلى الرؤية الايديولوجية التي توجهها..و ما سيعنينا في المقام الأول هو بنية قصيدة النثر، قبل أن نتحدث عن عقائد روادها و منطلقاتهم الفكرية.
لا تعنينا هنا المواقف التبريرية بقدر ما تعنينا المواقف الرافضة و مسوغات الرفض ..و لهذا أهيب بالرافضين أن يدلوا بدلائهم هنا حتى يكون ذلك منطلقا لحوار فكري مثمر بعيد عن الجدل السفسطائي و العصبية العقيمة.
.....
الواقع ان المسئول الأول عن ازمة التسمية التي تعددت حتى شملت المصطلحات المشار إليها أعلاه و غيرها هي جماعة مجلة شعر اللبنانية" ينظر مثلا في القضية مقال: تجنيس كتابة الماغوط لجابر عصفور مجلة العربي الكويتية ع482 س 1999 ص ص 80-85"
إذا أردنا أن نكون منطقيين و موضوعيين هنا فلا بد أن ننطلق من حقيقة بسيطة و هي أن قصيدة النثر ذات منشأ غربي خالص و لا داعي للزعم أن لها جذورا في تراثنا ، لأن نشأة نوع أو جنس أدبي جديد تعني التنظير السابق أو اللاحق أي تعمد كتابة او تكريس نوع أو جنس أدبي جديد و التمهيد له بمقدمات نظرية واضحة أو تبريره لاحقا و شرحه و إذاعته كجنس أدبي جديد..و هذه حقيقة بدهية يمكن ان نمثل له بما فعلته مثلا الراحلة نازك الملائكة في كتابها"قضايا الشعر المعاصر"حيث أرادت من خلاله أن تنظر لقصيدة التفعيلة..بعد أن حققت الرواج و أثارت حولها جدلا عنيفا كالذي تثيره قصيدة النثر اليوم..
ليس هناك شيئ اسمه "قصيدة نثر عربية" قديمة عند النفري أو غيره!!و الذين فعلوا ذلك أو ما يشبهه إنما يبحثون عن شرعية مستحيلة فما كتبه النفري هو نثر صوفي خالص لم يتم تجنيسه لأن اللغة الصوفية تتكرر بخصائصها الأسلوبية و المعجمية نفسها سواء في الرسائل الإخوانية أو تفسير القرآن أو حتى في الشعر..لا ينبغي أن ننختطف خصائص النص الصوفي العامة من سياقها لنقحمها بتعسف مراوغ في خصائص قصيدة النثر!!!فاللغة الصوفية في كل الأحوال هي لغة كشفية إشراقية لا تنخرط أبدا في لعبة الشكل أو الجنس ، عكس قصيدة النثر تماما و التي تخضع لشروط تاريخية و موضوعية و لها خلفيات قصدية تعمدية واضحة..
بصرف النظر عن أول من كتب قصيدة النثر في الغرب فإنها ذات منشأ غربي و بالتالي فإن مبررات وجودها لا بد أن تقدم من طرف الغربيين انفسهم ،و هنا اكتفي برأي ناقد فرنسي معروف هو جان كوهين"Jean cohen"و هو منحاز للقصيدة الموزونة لكن هذا الانحياز لم يمنعه من الاعتراف
بقصيدة النثرو ذلك الاعتراف نلمسه في مواضع متعددة من كتابه"بنية الكلام الشعري:Structure du langage
poétique" (ترجم الكتاب إلى العربية مرتين و أنا أرجع هنا إلى طبعته الفرنسية فلاماريون 1966).يقول كوهين"اللغة كما نعلم يتم تحليلها في مستويين: الصوتي و الدلالي.الشعر يضاد النثر بميزاته الموجودة في هذين المستويين"ص9..و يضيف كوهين بعد أن يبين الفرق بين المستوى الصوتي في الشعر الممثل بالوزن و المستوى الدلالي الذي كانت تهتم به البلاغة"مهما يكن، فإن الأمر الأساسي هو أنه يوجد مستويان من الاداء الشعري متاحان للغة، و ان هذين المستويان يظلان مستقلين.بحيث أن الكاتب الذي يهدف إلى غايات شعرية يظل حرا في أن يجمع بينهما ، أو على العكس لا يوظف إلا أحدهما أو الآخر"ص9 و بالتالي كما يقول كوهين فإن قصيدة النثر" يمكن تسميتها بالقصيدة الدلالية ( poème
sémantique) فهي لا تستثمر إلا هذا الجانب الصوتي من اللغة(أي الدلالة)و تترك الجانب الصوتي غير مستغل شعريا"ص ص 9-10
(الترجمة و ما بين قوسين للايضاح من عملنا) ..
لكن هناك دعوى يرفعها المتعصبون لقصيدة النثر كبديل، لا يجيب عنها كوهين هنا ، فهم يزعمون الاستعاضة بالموسيقى الداخلية عن الموسيقى الخارجية "
أي الجانب الصوتي كما سماه كوهين".و بالتالي فهم قد وضعوا أيديهم على بديل للايقاع الخارجي الذي تمثله الأوزان التقليدية ..أي كأنهم لم يخسروا شيئا! و هذا وهم كبير جدا لا أساس له..لأن الوزن الخليلي يقوم كما يقول الغذامي في كتابه"الخطيئة و التكفير"على توازن العناصر و هو توازن يقوم على مبدأ التعارض الثنائي بين العناصر: الحركة في مقابل السكون ، و التوتر في مقابل الاسترخاء ، و الارتداد في مقابل التعاقب"ينظر الخطيئة و
التفكير طبعة جدة1985 ص 23
..الوزن الخليلي باختصار يخضع للقياس الكمي الدقيق و على أساسه نشأ علم العروض (( ينبغي ان ننتبه دائما إلى أن العروض لاحق للقصيدة العربية فهو ليس موجها لها على الإطلاق..و ما زال الكثير من الشعراء اليوم ينظمون القصائد الموزونة دون سابق علم بالعروض..))..
إذا كان الوزن الخليلي يقوم على توازن العناصر و على القياس الكمي الدقيق فهل يخضع الايقاع الداخلي ، و بعبارة أخرى، القيم الصوتية في اللغة (كجرس الحروف)للقياس الكمي نفسه حتى تكون بديلا للايقاع الخليلي؟ طبعا لا ، فهذه القيم الصوتية تقوم على حدس الناقد و ذوقه و لعلنا نذكر نفور "طه حسين" من قصيدة "الطين" لايليا أبي ماضي بحجة رداءة قافية الدال! بينما قد أراها أنا و انت من انسب القوافي للنص؟!..
و هناك امر آخر مهم إنما ليس في أهمية ما سبق ذكره و اعني به ظهور القافية في قصيدة النثر.يحاول البعض الآن و من أبرزهم"شاكر اللعيبي" الشاعر العراقي كتابة قصيدة نثر بقافية! و لعلهم يريدون استكمال نقص في قصيدة النثر يحسون به و لكننا نلاحظ أن القافية في قصيدة النثر ظاهرة قديمة أي أن الكثير من المبتدئين"و هم في الغالب أطفال أو أيفاع" يكتبون محاولاتهم الاولى بدون وزن لكنها لا تخلو أبدا من القافية لسهولتها و هي في الواقع قيد على قصيدة النثرلا معنى له ، إذ تشبه تمرير المشط على رأس أصلع تماما!!
نستخلص من كل ما سبق قوله حقائق واضحة:
1- ان قصيدة النثر تكتسب شعريتها من استغلالها الشعري للمستوى الدلالي من اللغة.
2- أنها لا تمثل بديلا للقصيدة الموزونة لأنها لا تقدم قانونا صوتيا يعوض قانون البحر الشعري القائم على االتعارض و التوازن بين العناصر.
3- أن القافية في قصيدة النثر لا معنى لها سوى ان تكون قيدا مجانيا.
و إذا اختزلنا هذه الخلاصات الثلاث فإننا نقول أن قصيدة النثر إضافة و ليست بديلا