عاطف الجندي
أخيرًا هل البدر و أضاءت الدنيا بوجودك فى منتداك
يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب
لنسبح معا فى سماء الإبداع
ننتظر دخولك الآن
عاطف الجندي
أخيرًا هل البدر و أضاءت الدنيا بوجودك فى منتداك
يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب
لنسبح معا فى سماء الإبداع
ننتظر دخولك الآن
عاطف الجندي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى عاطف الجندي الأدبى يهتم بالأصالة و المعاصرة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
صدر عن دار الجندي بالقاهرة ديوان مكابدات فتى الجوزاء للشاعر عاطف الجندي .. ألف مبروك
أحبائي بكل الحب تعود ندوة المنتدى السبت الأول من كل شهر باتحاد كتاب مصر ويسعدنا دعوتكم السادسة مساء السبت الأول من كل شهر باتحاد الكتاب 11 شارع حسن صبري الزمالك فى ندوة شعرية مفتوحة
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» متفتكرش
التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالأحد نوفمبر 17, 2024 9:53 pm من طرف محمود جمعة

» في يوم الاسير الفلسطيني/ د. لطفي الياسيني
التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالسبت أبريل 15, 2023 1:27 am من طرف لطفي الياسيني

»  مطولة شعرية الجزء الاول مهداة للاستاذة الشاعرة حنان شاعرة م
التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالأحد مارس 12, 2023 4:27 pm من طرف لطفي الياسيني

»  عيد الاحزان والاسرى في عتمة الزنزان/ د. لطفي الياسيني
التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالجمعة مارس 10, 2023 8:49 pm من طرف لطفي الياسيني

» تحية الى المرأة في 8 آذار / د. لطفي الياسيني
التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالثلاثاء مارس 07, 2023 7:54 am من طرف لطفي الياسيني

»  ردا على قصيدة الاستاذ الشاعر الفلسطيني الكبير شحده البهبهان
التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالخميس مارس 02, 2023 9:19 pm من طرف لطفي الياسيني

» الى روح رفيق دربي عمر القاسم/ د. لطفي الياسيني
التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالإثنين فبراير 20, 2023 12:07 pm من طرف لطفي الياسيني

»  انا المجاهد في العصور / لشاعر دير ياسين*لطفي الياسيني
التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالسبت فبراير 18, 2023 11:51 am من طرف لطفي الياسيني

»  في ذكرى الاسراء والمعراج/ د. لطفي الياسيني
التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالخميس فبراير 16, 2023 1:12 pm من طرف لطفي الياسيني

Navigation
 البوابة
 فهرس
 قائمة الاعضاء
 الملف الشخصي
 س و ج
 ابحـث
منتدى عاطف الجندى الأدبى
Navigation
 البوابة
 فهرس
 قائمة الاعضاء
 الملف الشخصي
 س و ج
 ابحـث

 

 التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي]

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
عبد الله جمعه
عضو مجلس الإدارة
عضو مجلس الإدارة
عبد الله جمعه


الدولة : مصر
عدد الرسائل : 2257 نقاط : 2468 تاريخ التسجيل : 10/06/2009
بطاقة الشخصية
مرئى للجميع:

التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Empty
مُساهمةموضوع: التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي]   التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالجمعة أكتوبر 23, 2009 6:18 am

ظاهرة التطريب في قصيدة " سراب " للدكتور| جمال مرسي



الأداء الشعري يتأرجح عند الشاعر ما بين الوجدان والفكر والآلة التعبيرية هي الوعاء الذي يحملهما إلى المتلقي والشاعر قبل تمرير وجدانه وفكره في أنبوب التعبير تتأرجح الكفتان داخله وتعتملان بل تتصارعان أيهما يغلب على الآخر فتارة نجد تجربة يطغى فيها الجانب الشعوري وتارة يغلب فيها الجانب الفكري وتارة يتنازعان فيما بينهما حسب طبيعة الشاعر وثقافته وتوجه التجربة ذاتها ... ودعوني أفرد القول في الأمور الثلاثة :
القصيدة الوجدانية:
تصطبغ القصيدة بالصبغة الوجدانية بدوافع تكمن في نفس الشاعر وهذه الدوافع هي التي توجه طاقته وأهم هذه الدوافع الرغبة في الخروج من الحيز الفكري ومن خلال بحث مستمر في الشعر المعاصر وصلت لنتائج قد تكون مفاجئة للكثيرين فإذا سألت ما الذي يدفع الشاعر إلى التوجه الوجداني وغلبه النزعة العاطفية على القصيدة ؟ قد يظن البعض أن الدافع وراء هذا نقص في الرافد الفكري وعدم القدرة على إعمال الذهن في التجربة ... ولكن مع البحث المستمر وجدت أن أعلى القصائد الوجدانية التي تتخطى حيز الفكر الفلسفي والتعقيد الذهني إنما تخرج من الشعراء الذين يمثلون حيزا فكريا ممتلئا ...
فسُئِلْتُ ذات يوم : ما السر في شيوع ظاهرة الشعراء الأطباء لدرجة تجعل قاطرة الشعر العربي تزخر بهم على الرغم من أن ممارساتهم اليومية قد تكون بعيدة كل البعد عن الوجدان الشعري .. فقلت : إن الأطباء هم أقرب الناس إلى الدائرة الشعرية فالشعراء دائما ما يسعون إلى الانتصار في شعرهم على ما هم منهزمون فيه في الواقع فالشاعر الطبيب في الواقع العملي له إنما يكون بعيدا كل البعد عن ممارسة الوجدان الشفاف فطبيعة مهنته تجبره على تغليب الجانب العقلي ومن ثم فهو يدخل دائرة الشعر راغبا في تفريغ الكبت المعنوي الذي أفقدته طبيعة مهنته إياه فنجد أن توجهه الوجداني يغلب توجهه الفكري في الشعر ولنا في ذلك أدلة فيما خرج من منتوج شعري للشاعر الطبيب إبراهيم ناجي والشاعر الطبيب أحمد زكي أبو شادي ... وهذا المنطق ينطبق على كل ذي فكر ممتلئ بالزخم العلمي والفكري فإنه يمارس في قصيدته الحرمان الشعوري فيأتي شعره يكاد يكون خاليا من التوجه الفكري وهذا ما حدث بالتحديد مع الدكتور " جمال مرسي " وعلى الرغم من عدم علمي مسبقا بطبيعة تخصصه وكل ما أعرفه أنه يحمل لقب " دكتور " فأكاد أجزم أنه يمارس الجهد الفكري والذهني في حياته الواعية ومن ثم يجد في الشعر متنفسا يمرر من خلاله رغبته العارمة في إطلاق العنان للوجدان المطلق دون إعمال الذهنية والفلسفة الفكرية في القصيدة ...
وحين أقول " دون إعمال الذهنية والفلسفة الفكرية في القصيدة " لا أعني خلو القصيدة من الجانب الفكري بل أعني أن الدفقة الشعورية التي تحرك دراما القصيدة تغلب عليها النزعة الوجدانية والرغبة في الابتعاد عن الجفاف الذهني .
وحين يمارس الشاعر الوجدان داخل التجربة الشعرية فإنه كما قلت يمارس انتصارا شعريا على ما هو مهزوم فيه في الواقع وهو الحرمان من ممارسة الوجدان بنفس السقف المأمول داخل دراما القصيدة فيلجأ الشاعر إلى إعداد أهم أداة تحقق له هذه الممارسة الوجدانية وتتمثل في بناء دائرة شعورية داخل القصيدة يحقق من خلالها عملية " التطريب " فيصل إلى مستوى الانتشاء الشعري ويجذب المتلقي له إلى ذات دائرة الانتشاء ... وعملية التطريب هذه تحققت عند الدكتور جمال مرسي بالارتكاز على عدة دعائم أساسية حققت له ما أراد منها ما هو على مستوى مضمون القصيدة ومنها ما هو على مستوى شكل القصيدة فما كان على مستوى المضمون تمثل في ( رسم مفردات عالم المثل – السعي وراء نعومة المعنى ) وما كان على مستوى الشكل تمثل في ( حسن اختيار القالب الموسيقي – التصوير الجزئي والكلي – اجتذاب الألفاظ ذات المخارج الصوتية الناعمة )
*مفردات المضمون

1-رسم مفردات عالم المثل :
عالم المثل عالم بعيد المنال لا يتحقق في واقع البشر وإنما هو حلم يراود خيال الشعراء وقد أدرك ذلك الشاعر " جمال مرسي " فعلق [ العتبة الشعرية ] قبل البدء في القصيدة وحقيقة الأمر أن العتبات الشعرية نوعان ( شعري ) و ( نثري ) والعتبة النثرية في مقدمة القصيدة تخرج هدف القصيدة من الحالة الإبداعية وكأن الشاعر يقول أنا على وعي تام بما أنا مقدم عليه فلم أكن مغيبا تماما في دائرة المعايشة بل فقط أنا أمارس تفريغا لكبت معنوي ولست مصدقا للحالة أما العتبة ( الشعرية ) تجعل الهدف من القصيدة جزءا من الحالة وتجعل الشاعر مصدقا للحالة وتصديق الحالة شيء والصدق الفني شيء آخر فتصديق الحالة ليس مرتبطا بالصدق الفني فالصدق الفني أداته آلة التعبير وتصديق الحالة أداته درجة وعي الشاعر وهذا ما عبرت عنه في كتابي ( روافد الشعر العربي ) تحت مسمى " نظرية التقمص الشعري "
وغاية الأمر أن الدكتور " جمال مرسي " مارس الصدق الفني ولم يمارس تصديق الحالة وقد وضح هذا من خلال العتبة التي أصر هو أن يجعلها نثرية على الرغم من قدرته الواضحة في صياغتها شعرا
ثم دخل الشاعر في الحلقة الشعرية لتجربته وبدأ يرسم معالمها بعد رحيل تلك الجميلة فجعل الحوار بالسؤال والجواب ذاتيا مستخدما خاصية " الاسترجاع " مغايرا ما فعله { أبو فراس الحمداني } حين استحضر محبوبته أمامه وتمثلها تخاطبه وجعل منها صورة حية تسأل وهو يجيب ولكن الدكتور { جمال مرسي } جعل الجمل الحوارية تدور على لسان حاله هو فجاء الحوار من طرف واحد وكأنه لم يكن مصدقا للحالة أما أبو فراس الحمداني فقد كان مصدقا للحالة وهذا فرق جوهري بينهما في تلك التجربة((((دعوة لنقاد المنتدى لعمل دراسة نقدية مقارنة بين قصيدة جمال مرسي " سراب " وقصيدة أبي فراس الحمداني " في "العتاب" بداءً من قوله [ أراك عصي الدمع إلى قوله ولطن الهوى للبلى جسر] )))) فمن يقرأ أبو فراس يستشعر أنه كان مصدقا للحالة ومن يقرأ لجمال مرسي يستشعر أنه لم يكن مصدقا للحالة كما عبرت وكلاهما بلغ الصدق الفني في التعبير عن محتواه
مَن أَنـتِ يَـا فَجـراً تَوَضَّـأَ بِالسَّنَـا
مَن أَنتِ قُولِي ، كَي أُجِيبَكِ مَن أَنَـا ؟
ه
نا الشاعر يمارس أسلوب " تجاهل العارف " فهو يسال سؤالا لم ينتظر إجابته من المحبوبة بل أخرجها من مسئولية حمل واجب الإجابة عن تساؤله وأغلق الباب عليها بوضع علة سؤاله والهدف من وراءه " كي أجيبك من أنا " وكأنه يعلن رغبته في إقامة حوار ذاتي يعبر فيه عن آماله المرجوة من عالم المثل المنشود وأكاد أجزم أن تلك المحبوبة قد اختفت تماما من المشهد الدرامي كتواجد وإن بقيت طوال المشهد كمحفز معنوي للشاعر لعرض تفاصيله هو الشعورية وإن كان قد وصفها فقد وصفها غائبة عن المشهد الشعري متعمدا ذلك فمنذ البداية كما قلت هو " غير مصدق للحالة " :
أَلقَت بِكِ الأَقدَارُ فِـي دَربِـي ، و مَـا
أَلفَيـتُ دَربـاً رَاقَنِـي مُـذ ضَمَّـنـا

يمارس في هذا البيت حوارا ذاتيا مبررا تواجد تلك المحبوبة بفعل الأقدار ورغبته الملحة في عدم الاقتناع بأي درب هي ليست فيه على الرغم من علمه بأنها غير حقيقية
عَامَانِ مُذ كَـانَ اللِّقـاءُ ، و خَافِقِـي
مُتَرَنِّـحٌ بَيـنَ الصَّبَـابَـةِ والعَـنَـا
أَصحُو عَلَى شَوقٍ ، أَبِيتُ عَلَى جَـوَىً
وأَشُـمُّ فِـي رَوضِ التَّذَكُّـرِ سَوسَنَـا
وأُبِيحُ لِلعَينِ اختِـلاسَ طُيُـوفِ مَـن
زَرَعَت ، و رَاحَت بِالبِـذَارِ و بالجَنَـى
وعَنَـادِلُ القَلـبِ الشَّغُـوفِ تَرَنَّحَـت
مِن خَمـرِ عُصفُـورٍ بِثَغـرِكِ دَندَنَـا
و نَسَائِـمُ الجَنَّـاتِ فَاحَـت بِالـشَّـذَا
فَعَرَفتُ مَـن تَخِـذَت رُبَاهَـا مَسكَنَـا
مَن أَنتِ ، قَد جَفَّ السُّؤالُ عَلَى فَمِـي
و اْخضَوضَرَت فِي القَلبِ أَشجَارُ الضَّنَى
و تَأَجَّجـت نَـارُ التَّوَلُّـهِ فِـي دَمِـي
مِـن نَظـرَةٍ قَلَبَـت بِعَيْنَـيَّ الـدُّنَـى
فَشَمَالُهَـا كَجَنُوبِهَـا ، و صَبَاحُـهَـا
كَمَسَائِهَـا ، و المُستَقِيـمُ المُنحَـنَـى
و نُوَاحُهَـا كَصُدَاحِهَـا ، و عَرَاؤُهَـا
كَكِسَائِهَـا ، والفَقـرُ فِيِهَـا كَالغِنَـى
مَن أَنتِ قُولِي ، أَينَ بَوْصَلَـةُ الهَـوَى
تَهـدِي سَفِينَـةَ مَـن لِحُبِّـكِ أَذعَنَـا
لَو كُنتِ خَلفَ الشَّمسِ جَئتُـكِ طَائِـراً
لأُرِيـقَ فِـي كَفَّيْـكِ أَنهَـارَ المُـنَـى
أَو كُنتِ خَلفَ البَحـرِ جِئتُـكِ سَابِحـاً
لا المَـوجُ يُثنِينِـي هُنَـاكَ و لا هُنَـا
عَامَـانِ و الـدَّربُ الطَّوِيـلُ يَقُودُنِـي
لِلآَلِ ، مَا فَتَـرَ الفُـؤَادُ و مَـا وَنَـى
عَامَانِ أَبحَثُ فِي مَوَانِـي اْلقَادِمِـيـ..
نَ ، اْلرَّاحِلِينَ ، و كَم سَأَلـتُ الأَعيُنَـا
و نَظَرتُ فِي كُلِّ القُلُـوبِ فَلَـم أَجِـدْ
لِطُيُـورِ قَلبِـيَ غَيـرَ قَلبِـكِ مَوطِنَـا
عَينَـاكِ غَيَّرَتَـا خَرِيطَـةَ عَالَمِـي اْل
بَـدَوِيِّ ، مُـذ أَشرَقْـتِ فِيـهِ تَمَدَّنَـا
و جَبِينُـكِ المِـرآَةُ يَفضَـحُ لَحـظَـةً
دَارَت بِهَـا كَـأسُ التَّسَـاؤُلِ بَينَـنَـا
و يَمِينُكِ النَّعنَـاعُ مُـذ لَمَسَـت يَـدِي
و حَـرَارَةُ اللُّقيَـا تُــرَاوِدُ أَرعَـنَـا
لَـوْلاكِ قَــرَّت عَيـنُـهُ بِمَنَامِـهَـا
و ارتَـاحَ مِـن أَرَقٍ عَلَيـهِ تَشَيْطَنـا


بدأ الشاعر من هنا يرسم عالم المثل النشود الذي يأمل فيه ولشدة يقينه بعدم " تصديق الحالة " يعلن أن عامين قد مرا عليه وهو يعايشها راغبا في الانفصام عن الواقع المغاير لما يتعايش معه مع تلك المحبوبة وكان مفتاح يقيني بعدم تصديق الشاعر للحالة التعبير بقوله [عَامَانِ مُذ كَـانَ اللِّقـاءُ ]فالإصرار على استخدام ( كان تامة ) غير ( ناقصة ) جعل الأمر يبدو وكأن لقاءها لن يعود فتمام الحالة بالاكتفاء بمرفوع " كان " فاعلا جعل دائرة المعنى تنغلق على قناعة الشاعر بأنها لن تعود ومن ثم فكل ما هو آت هو مجرد معايشة لعالم مثال منشود لن يتحقق في الواقع والرجوع لدلالة كان الناقصة وكان التامة يحقق ما بلغته من فهم لطبيعة التجربة النفسية عند الشاعر فلم يخلق النحو والصرف كقواعد جافة وإنما خلقا كقوالب تعبيرية حين يحسن تمرير الإحساس من خلالها يصل إلى المتلقي ويجعله يعايش حال المتحدث وتلك نظرية ( المبنى والمعنى ) التي عبرت عنها أيضا في كتابي " روافد الشعر العربي " ومدى العلاقة الوثيقة بين المعنى والمبنى عند الشاعر
وغاية الأمر فإن الدكتور جمال مرسي قد حقق هذه النظرية وليتني رأيته قبل إتمام كتابي هذا وإلا لكان من أهم الدعائم التي أرتكز عليها لإثبات ما كنت بصدد إثباته في ذلك الكتاب ولكن الأقدار تلعب لعبتها في تحديد الزمان والمكان
بعد تلك اللمسة الأولى في رسم عالم المثل الأعلى الذي بدأ الدكتور جمال مرسي رسمه في المقطع السابق والاعتماد على عناصر اللون والصوت والحركة في رسم هذا العالم والقارئ للأبيات يستشعر ارتكاز الشاعر على العناصر الثلاثة بقوة وليكن المثال على ذلك وليس الحصر قوله : ( خافقي – مترنح – العنا – طيوف – الجنى – دندنا .... إلخ ) كل ذلك رسم العالم الذي ينشده الدكتور جمال مرسي بدقة تفاصيله في دائرة الوهم وكل ذلك من خلال نظرية " عدم تصديق الحالة " التي عبرت عنها سالفا بل أكاد أجزم أن أصوات الحروف ذاتها تحقق تلك العناصر وتهيئها في ذهن المتلقي بقوة
يـا ظَبيَـةً عَرَبِيَّـةً لَــم تَتـرُكِـي
لِقَتِيـلِ حُسنِـكِ غَيـرَ حُلْـمٍ هَيمَنَـا
و شَرَدتِ لا عُنـوَانَ غَيـرَ " أُنُوثَـةٍ "
و سَـرَابِ غَانِيَـةٍ إِذَا ابتَعَـدَتْ دَنَـا
و قُصَاصَـةٍ بَيضَـاءَ نَـوَّرَ فَوقَهـا:
" مَن أَنتَ قُل لِي كَي أُجِيبَكَ مَن أَنَـا
"

في الخاتمة لا يملك الشاعر عند إحساسه بالخروج من عالم المثل مع قرب انتهاء الحالة سوى استخدام لفظين أوجزا كل ما عبرتُ عنه في كل ما سبق ( يا ظبية ) ذلك النداء الملتمس المتوجع على مقاربة الإفاقة من تلك الرؤيا الحالمة ثم لفظ ( حُلم ) التي أكدت أنه كان يمارس كل ما فات من خلال حلم بعالم المثل المنشود


2- السعي وراء نعومة المعنى :

إن ذلك العالم المثالي الذي رسمه الشاعر ( جمال مرسي ) كان يستوجب اجتلاب المعاني الناعمة البعيدة عن الخشونة . ولأن الشاعر ممتلك كل الروافد الداعمة لتجربته ومن أهمها ( الامتلاء الفكري والمعرفي ) و ( الثراء المعجمي ) فالامتلاء لازمة ضرورية للشاعر إذا أراد أن يدخل تجربة ما وهو فصل كامل في كتابي المشار إليه والخوض في تفاصيله قد يفقدني الخط الفكري الذي أنا بصدده ولكن الشاعر كان ممتلكا كل تفاصيل التجربة المعرفية ومن ثم لم يجد عائقا في اجتلاب المعاني خلال رسمه لعالم المثل الذي سعى إلى تحقيقه ومن أمثلة ذلك :
عَامَـانِ و الـدَّربُ الطَّوِيـلُ يَقُودُنِـي
لِلآَلِ ، مَا فَتَـرَ الفُـؤَادُ و مَـا وَنَـى

فرسم الحالة هنا كان يستوجب على الشاعر إدراك أن الأمر وهم يرقى لمرتبة الحقيقة فارتكز بالمعنى على ظاهرة السراب الذي حقق الحالة ( الوهم بملمس الحقيقة ) وهذا المعنى لا يحققه إلا مفردات ظاهرة السراب وإلمام الشاعر المعرفي بخواص تلك الظاهرة جعله يجد المعنى دون عناء أو جهد ومن ثم نحكم على الشاعر بالتوجه إلى التجربة في حالة امتلاء كما عبرت سالفا
أما الثراء المعجمي فهو واضح - وأكاد أجزم – في كل لفظ من ألفاظ القصيدة أن الشاعر يمتلك البدائل اللفظية في معجمه فليس هناك مبنى أجبره على تمرير المعنى من خلاله فالأمر كان يسيرا عليه كل اليسر نتيجة ثراء ذلك المعجم وأكبر دليل على ذلك اختيار الشاعر لروي يحتاج ثراءً لفظيا ليتجاوب مع المعنى فاستخدم ذلك الروي بسهولة ويسر فلم يستشعر المتلقي ولو للحظة واحدة أن هناك لفظة جلبت عنوة لإقامة الروي بل نجد كل ألفاظ الروي قد جاءت سهلة ميسرة دون اجتذاب أو إجبار
ولكي لا نبعد كثيرا عن ( نعومة المعنى ) الذي هو أهم مكامن الإبهار في مضمون قصيدة " سراب " نجد أن ( الامتلاء – الثراء ) قد هيئا للشاعر القدرة على اختيار المعاني الرقيقة الناعمة التي تتناسب مع طبيعة التجربة

* مفردات الشكل



حين نتحدث عن شكل القصيدة نجد من يربط الشكل بالبنية العروضية ويقصره عليها وهذا في حقيقته ظلم مبين للقصيدة العربية ليس إنقاصا من قيمة الموسيقى العربية وإنما إهدار لطاقة القصيدة ذاتها فشكل القصيدة تتحكم فيه ضوابط كثيرة ولأن شكل القصيدة جزء لا يتجزأ من آلتها التعبيرية ومكون من مكونات نسيجها الدرامي كان من الضروري الوقوف على مفرداته وبيان أهميته في بنية القصيدة ... فالأداء اللغوي والبنية الاشتقاقية والتركيب على مستوى الجملة بل والضبط الإعرابي أيضا والبنية التصويرية وامتلاك ناصية القوالب البلاغية عامة وقدرته على مراعاة مقتضى حال المتلقي والموسيقى التصويرية التي نخطئ فنسميها العروض الخليلي ومن ثم نقتل ما فيها من روح ولنا وقفة على هذا خلال قراءتنا هذه
وقصيدة سراب من خلال ما حققته من التطريب وكنت أعني بالتطريب حقيقة قدرة القصيدة على الارتقاء بمستوى اللذة الشعرية لدى المتلقي حتى وصلت به إلى حيز التطريب والتلذذ والمعايشة الكاملة للحالة التي يصفها الشاعر الدكتور جمال مرسي
وهذا التطريب لم يأت من فراغ وإنما جاء من مقدرة مهارية يمتلكها الشاعر وتلك المقدرة المهارية ارتكزت على عدة مقومات هي في حقيقتها دعائم ارتكز عليها الشاعر لإدخالنا معه إلى الحيز التطريبي الذي عاشه هو مع تجربته قبل أن يمنحنا بطاقة التأهل لمعايشة حالته والتي منحها لمجرد نشر القصيدة ودعوتنا كقراء لمشاركته الحالة التي تعايش معها
وبالنظر إلى البنية الشكلية للقصيدة نجد أن كل مفرداتها قد وُظِّفت بقوة ومهارة حتى تجذبنا إلى دائرة الشاعر النفسية ومن ذلك :

1-الأداء اللغوي :

نجح الشاعر في بناء الجملة بعناية فائقة مع حسن اختيار مفردات معجم القصيدة وكان ذلك مرجعه إلى الثراء المعجمي الذي يمتلكه الشاعر حتى قطعت حكما سابقا بأن الشاعر كانت تنثال عليه البدائل اللفظية للمعنى الواحد فينتخب المرادفة ذات الأداء المعنوي والصوتي والدلالي الأقوى في جعلها وعاءً صادقا في حمل المعاني إلينا
ففي البيت الأول :
مَن أَنـتِ يَـا فَجـراً تَوَضَّـأَ بِالسَّنَـا
مَن أَنتِ قُولِي ، كَي أُجِيبَكِ مَن أَنَـا ؟

تعايش الشاعر مع حالة الدهشة والانبهار المصاحبين له حين رأى ذلك الجمال غير المتوقع فجاء اللفظ منتخبا بعناية حتى يدخلنا معه دائرة تلك الحالة حيث اعتمد على ضميري المخاطبة والمتكلم وكأنه وقبل ظهور الضمير " أنتِ "في الكادر كان وحيدا معتادا على تلك الوحدة فانغلقت دائرة البيت على شخصين الأول الشاعر وما يمثله الضمير " أنا " والثاني القادم إلى دائرة الوحدة ليشاركه ويكسر حدتها عليه والمتمثل في الضمير " أنتِ " بل تكرر ضمير المخاطبة ليؤكد عدم تصديقه الحالة وكأنه يؤكد لنفسه أنها قد دخلت بالفعل دائرة الوحدة ... وحياته كانت عبارة عن ليل طويل مجرد الإحساس فيه بقرب بزوغ الفجر أمل بعيد لا يتحقق ولكنه تحقق فجأة مع دخول الفجر ولأن تلك المحبوبة تمثل فجراً مطلقا أمام ليل مطلق نجد أن المعجم الشعري لديه أتى بها في حالة نداء " يا فجرا " لنكرة غير مقصودة وهو ما يسمى في علم المنطق " الحد الكلي " فتنكير لفظة الفجر هنا أفادت إطلاق الفجر من حدود التحجيم إلى المساحة المطلقة ولأن الشاعر كما قلنا " غير مصدق للحالة " وتعايش معها على هذا الأساس فقد علم أن تواجد تلك الفاتنة في بقية القصيدة لن يكون مجديا وإنما أثرها عليه وفعلها هو الأجدى نفعا فقد أراد أن يغلق عليها باب الاستمرار فأعلن بضمير المتكلم " أنا " أغلاق باب تواجدها فيما هو آت من دراما في القصيدة قائلا " كي أجيبك من أنا " وكأنه يعلن أن الآتي هو تعبير عن الذات وما بها من تقلبات نفسية
عَامَانِ مُذ كَـانَ اللِّقـاءُ ، و خَافِقِـي
مُتَرَنِّـحٌ بَيـنَ الصَّبَـابَـةِ والعَـنَـا

ولأن الشاعر انشغاله بالحالة التي تركتها المحبوبة أكثر من انشغاله بالمحبوبة ذاتها وهذا يؤكد زعمي بأنه لم يكن مصدقا للحالة فقد جعل جل تركيزه على الأثر المترتب على ظهور تلك المحبوبة في دائرته المعتمة وتجلى ذلك في البيت السابق من مطلعه وقد ساعده في ذلك بنيته اللغوية العالية وقدرته على حبك نسيج الجملة وكما قلت أن القاعدة النحوية وانضباطها هي جزء ركين من نسيج المعنى فقد ظهر ذلك جليا في هذا البيت فعلى سبيل المثال :
-[عامان] لو أخضعناها لإعراب نجد أن ( عامان ) خبر لمبتدأ محذوف ومن ثم فقد تعمد الشاعر الحذف هنا من خلال القاعدة النحوية حتى يحقق ظاهرة الإيجاز البلاغي ومن ثم تتحقق أهمية الحالة فكما قلت ليس هَمّ الشاعر وصف المحبوبة بقدر ما هو مهموم بوصف الأثر المترتب على ظهورها فحذف المبتدأ ليوجز الكلام في لفظ الخبر لبيان أهمية هذا الخبر وهو " عامان " وهو الذي يمثل الأثر المترتب على ظهور تلك المحبوبة
- [ مذ كان اللقاء ] أشعرني هنا الدكتور جمال مرسي أنه لم يكن يريد الخوض في تفاصيل اللقاء بل أنه كان متعمدا إغفال وصف تفاصيل ذلك اللقاء وما كان يعنيه في المقام الأول وصف أثر ذلك اللقاء وهذا هو المعني بقوة وهنا يسألني سائل : ما الذي أشعرك إذن بذلك ؟ أقول : قول الشاعر " مذ كان اللقاء " فكان هنا ليست ناقصة وإنما هي " تامة " أي اكتفت بمرفوعها وهنا وجب عليَّ الوقوف على مدلول كان الناقصة والتامة ولمَ اختار الشاعر بنية " التامة " دون " الناقصة " فكان التامة التي تكتفي بمرفوعها تغلق الامتداد الزمني لمرفوعها فإذا قلت " اجتهدت حتى كان النجاح " فقد أغلقت الأثر النفسي بعد تمام النجاح الذي هو فاعل كان ولكني لو قلت " كان النجاح عظيما " فقد فتحت المدلول الزمني لمعنى النجاح لما قد يستقبل من الزمان . وإصرار الشاعر هنا على استعمال كان التامة أشعرني أنه لا يريد الخوض في الامتداد الزمني للقاء فاكتفى به مرفوعا لكان لأن الذي يعنيه ليس اللقاء في حد ذاته بقدر ما هو أثر اللقاء
- [ مُترنِّحٌ ] الاشتقاق هنا يستلزم اجتلاب " اسم الفاعل " لما له من خاصية دوام واستمرار الوصف فاسم الفاعل يحمل دلالة دوام الوصف بأن تقول فلان " كتب " أي انقضت كتابته بعد حين ولكنك إن قلت فلان " كاتب " لزمته الصفة على سبيل الدوام فجاءت بنية اسم الفاعل في قوله " مترنح " للدلالة على تلازم صفة الترنح ليه ما بين الصبابة والعنا
أَصحُو عَلَى شَوقٍ ، أَبِيتُ عَلَى جَـوَىً
وأَشُـمُّ فِـي رَوضِ التَّذَكُّـرِ سَوسَنَـا

كان أثر اللقاء شديدا مؤرقا للشاعر فعاش عامين كاملين في حال من التأرق وكان هذا التأرق مرهقا للشاعر على المستوى النفسي وقد لعبت البنية اللغوية أيضا دورا رائعا في إيصال هذا المعنى من خلال عدة تركيبات لغوية منها :
-[أبيت ] بعد [ أصحو ] فالمعنى الواصل للوهلة الأولى أن الشاعر أراد أن يضرب على ظاهرة التضاد وما تحدثه من أثر في إيضاح المعنى فالمنطق يقول أن ( أصحو ) يقابلها ( أنام ) ولكن الحس المعجمي للشاعر هنا استشعر أن الفعل " أنام " يعطي من الهناء والرضا والاستغراق في النوم ما لا يريد أن يصفه فهو يقضي ليله مؤرقا بعيدا كل البعد عن النوم فعمد إلى إيجاد البديل اللفظي ذي المدلول المعنوي المراد فاستبدله بالفعل " أبيت " والبيات هو قضاء الليل وليس بالضرورة أن يكون نائما كما أن النوم يستلزم قضاء الليل في المكان المخصص للنوم أما " المبيت " فلا يستلزم بالضرورة قضاء الليل في المكان المخصص للنوم فجاء الفعل " أبيت " محققا للحالة التي أرادها الشاعر من التأرق وعدم الاستقرار بل وربما التشرد النفسي
- تأكد لي في هذا البيت أن تلك المحبوبة إنما لم يُرِدْ لها الشاعر البقاء في دراما الحالة فحيز تواجدها لم يتعد تلك اللحظة التي سألها فيها عن كنهها في البيت الأول وتجلى لي هذا الإحساس في لفظ " التذكر " في البيت السابق ولشدة إمعان الشاعر في عدم تصديق الحالة جعل الحال المستمر الممثل في المضارع " أشم " يرتكز على " روض التذكر " وليس روض التواجد الفعلي الحالي للمحبوبة

2- البنية التصويرية والتحكم في الأداء البلاغي على وجه العموم :

الشاعر هنا لعب على نوعين من التصوير ( الأول ) صورة المشهد ( الثاني ) الصورة الدرامية
فصورة المشهد تعبر عنها الصورة الجزئية والنسيج التصويري الجزئي وما يمثله من أهمية بالغة في بناء التصوير الدرامي الذي يمثل الصورة الكلية أو الممتدة داخل القصيدة فكان الشاعر مدركا أيما إدراك أن الثوب مهما كان غاليا متقنا فإن خيطا واحدا فيه يوضع في غير محله فإنه يشوه الثوب كاملا ومن ثم كان حريصا كل الحرص على صورة المشهد بكل دقة وبراعة ومن ذلك مثلا :
يَـا فَجـراً تَوَضَّـأَ بِالسَّنَـا

-"الفجر" هنا صورة جزئية امتدت من خلال صورة مركبة منها ومن صورة جزئية اخرى " توضأ بالسنا " فالفجر هو ما يسميه البلاغيون " استعارة تصريحية " جعل المحبوبة فجرا وحذف المشبه وصرح بلفظ المشبه به ثم استشعر الشاعر أن تلك الصورة وعلى جمالها لاتفي بالمعنى المعتمل في خياله ومن ثم وجب نسج صورة أخرى إلى جانبها تكمل المشهد التصويري فاجتلب " توضأ بالسنا " وهي ما يسميه علماء البلاغة " الاستعارة المكنية " ومن خلال الاستعارتين المتتاليتين نجح الشاعر في بناء صورة المشهد فجعلنا نتعايش مع الحالة بل ونستشعر كمَّ الإضاءة التي تشعُّ من تلك المحبوبة ومدى جمالها
وهنا وقفة خارجة عن الإطار ولكن لابد منها ردا على المشككين في البنية التقليدية للقصيدة العربية الذين ينظرون لكل علم من العلوم الداعمة للشعر على أنه نوع من الجمود وعدم القدرة على مواكبة معطيات العصر أليست الاستعارة التصريحية تلك هي التي تحقق الرمز والانفتاح الدلالي اللذين يتشدق بها أصحاب تلك الحداثة المزعومة ؟ بل أكاد أجزم أن كل الاصطلاحات الحداثية الجديدة لا تكاد تخرج عن الاصطلاحات العربية الأصيلة أو علوم الشعر العربي وإنما الفتنة بالغرب وما وفد منه والعجز عن امتطاء صهوة البنية العربية الأصيلة دفعا هؤلاء إلى الثورة والتمرد ولو يعلم هؤلاء أن الله تبارك وتعالى في جلاله حين قبلت ذاته أن تتحدى أحدا من خلقه تحدت أمة العرب ببلاغتها وقدراتها على الفصح والإبانة فكيف نثور على المقومات التي جعلت الله سبحانه وتعالى يفضل أمة العرب على غيرها من الأمم لينزل فيها قرآنه والتنطع على أبواب لغات لا حياة فيها ولا رونق
-إن بحثنا في التشبيه وجدنا أنه لون من التصوير يجمع بين شيئين متقاربين في الصفات على اعتبار أن أحدهما قد فاق الآخر في وجه التشابه بينهما فإن قلنا " الرجل كالأسد " مثلا علمنا أن الرجل قد اشترك مع الأسد في صفة وربما أكثر مع العلم أن الأسد قد فاق الرجل في هذه الصفة ومن ثم قربنا بينهما بالشبه لبيان قوة الرجل أو قسوته أو افتراسه ومن ثم لزم بين المشبه والمشبه به الجمع بين الصفات على سبيل التوازي لا على سبيل التضاد والشعراء يتبارون في هذا تباريا شديدا حيث يحاول كل منهم التجديد والاختلاق في هذا الباب فعلى مر عصور الأدب العربي ومن خلال التنافس في اختلاق التصوير نجد كل شاعر ممن لهم الريادة الشعرية يسعى إلى اختلاق جديد في عالم التشبيه ومن ثم ظهرت ألوان عدة من التشبيه فمنهم من جعل التشبيه مرسلا ومنهم من جعله مؤكدا ومنهم من جعله مفصلا ومنهم من جعله مجملا ومنهم من جعله بليغا ومنهم من جعله ضمنيا ومنهم من جعله تمثيلا وذهب منهم مذهب قلب التشبيه فخرج لنا التشبيه المقلوب ولكنهم جميعا أجمعوا على الجمع بين المشبه والمشبه به على جهة التوازي في الصفات وهنا أبت عبقرية الشاعر " جمال مرسي " إلا أن تضع بصمتها على التشبيه فجاء التشبيه عنده على جهة الجمع بين المشبه والمشبه به على وجه التضاد والتناقض
فَشَمَالُهَـا كَجَنُوبِهَـا ، و صَبَاحُـهَـا
كَمَسَائِهَـا ، و المُستَقِيـمُ المُنحَـنَـى

.... فقد علمنا أننا نشبه السمح بالبحر للتوازي بينهما في صفة العطاء فإن أراد شاعر أن يختلق فليشبه السمح بلون السماء الصافية وعلى الرغم من اختلاف المشبه به لكن التشبيه في كلا الأمرين جمع بين المشبه والمشبه به على جهة التوازي بين الصفات ولننظر إلى التشبيه عند الشاعر جمال مرسي الذي جاء ليجمع بين " الشمال والجنوب " و " الصباح والمساء " و " المستقيم والمنحنى " فأين القواسم المشتركة هنا بين المشبه والمشبه به ؟ بالمنطق العقلي المعتاد لا توجد صفات تجمع بين كل من المشبه والمشبه به في كل تشبيه على جهة التوازي , ولكن الشاعر جمال مرسي قد اختلق قواسم مشتركة من العدم الناتج عن التناقض بين هذه الأشياء وجعل وجه التشابه هنا مستنبطا غير ملفوظ فالشمال والجنوب والصباح والمساء والمستقيم والمنحنى كل أولئك كان وجه الشبه بين كل طرفين هو الارتباك وعدم الاتزان وفي واقع كل مشبه به من هذه التشبيهات لا يحمل صفة الارتباك وعدم الاتزان ولكن هذه الصفات اختلقها الشاعر لإيجاد علاقة تجمع هذه المتناقضات على التوازي فنجح أيما نجاح في هذا ويعد هذا مما يحسب له كإضافة إلى أحد عناصر الخيال في الشعر العربي الرصين مما يؤكد قدرة قوالب الشعر الرصينة على التواكب والتجدد تبعا لمعطيات التجربة وليحسب هذا في ميزان الحسنات الشعرية للدكتور جمال مرسي
وعلى مستوى الصورة الدرامية للقصيدة لعب الشاعر على مفردات السينما فلعب من خلال مونتاج سينمائي عالي الجودة فقام بتركيب الصور تركيبا دراميا من خلال خاصية " الفلاش باك " فبدأ من النهاية ثم قام بعملية استرجاع للمشهد وأثره وتنامت دراما القصيدة وعادت لعامين مضيا فوصف فيهما كل الآثار الناجمة عن دخول تلك المحبوبة دائرة الظلمة النفسية له وتبدل حالها من الظلام والسكينة إلى النور والحيرة وفي نهاية القصيدة عاد إلى حيث بدأ حتى يغلق دائرة الدراما في واحدة من أروع النهايات التي تشعر المتلقي بالشبع وعدم احتياجه لإضافة جديدة أو استشعاره أن العمل قد تم على عجل بل اتخذت فيه الروية الحكيمة حتى أتمته على خير وجه يقول في النهاية :
يـا ظَبيَـةً عَرَبِيَّـةً لَــم تَتـرُكِـي
لِقَتِيـلِ حُسنِـكِ غَيـرَ حُلْـمٍ هَيمَنَـا
و شَرَدتِ لا عُنـوَانَ غَيـرَ " أُنُوثَـةٍ "
و سَـرَابِ غَانِيَـةٍ إِذَا ابتَعَـدَتْ دَنَـا
و قُصَاصَـةٍ بَيضَـاءَ نَـوَّرَ فَوقَهـا:
" مَن أَنتَ قُل لِي كَي أُجِيبَكَ مَن أَنَـا
"

كل ماحدث أنه بدل صيغة السؤال من على لسانه متوجها إلى تلك المحبوبة فجعل السؤال على لسانها متوجها إليه

انتظروني في قراءة أستكمل فيها الحديث عن القدرة البلاغية عند جمال مرسي والقوالب الموسيقية ودورها في خلق حالة التطريب الشعري على مستوى شكل القصيدة
عبد الله جمعة


عدل سابقا من قبل أبو القوافي في الجمعة نوفمبر 13, 2009 6:58 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عاطف الجندى
المدير العام
المدير العام
عاطف الجندى


الدولة : مصر
الجوزاء عدد الرسائل : 14290 الهواية : الشطرنج
نقاط : 13287 تاريخ التسجيل : 01/05/2007
بطاقة الشخصية
مرئى للجميع:

التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Empty
مُساهمةموضوع: رد: التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي]   التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالجمعة أكتوبر 23, 2009 8:10 am

الكبير عبد الله جمعة
هى دراسة وافية شافية لقصيدة شاعرنا الكبير
د جمال مرسي
و نثبت لى دائما بأنك من أهم النقاد الذين مروا
فى حياتي
ولم و لن أجاملك فى هذا
دراسة للتثبيت
أخوك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elgendy.ahladalil.com
عبد الله جمعه
عضو مجلس الإدارة
عضو مجلس الإدارة
عبد الله جمعه


الدولة : مصر
عدد الرسائل : 2257 نقاط : 2468 تاريخ التسجيل : 10/06/2009
بطاقة الشخصية
مرئى للجميع:

التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Empty
مُساهمةموضوع: رد: التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي]   التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالإثنين أكتوبر 26, 2009 4:33 pm

الشقيق الرفيق " عاطف الجندي "
الكبير هو أنت والكريم هو أنت
فما كنت لأبدع حرفا واحدا لولا تشجيعك ودفعك المستمر
ووعيك العميق بالحركة النقدية يجعلك دائما خير مستقبل للشعر والنقد
دمت ودام مرورك وتشجيعك
وتذكر أنك صاحب الفضل في تعرفي إلى ذلك العبقري
د. جمال مرسي
أدامكما الله وحفظكما
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عادل حسنين رزق
شاعر
شاعر
عادل حسنين رزق


الدولة : غير معرف
القوس الثور
عدد الرسائل : 750 62
نقاط : 880 تاريخ التسجيل : 20/08/2009
بطاقة الشخصية
مرئى للجميع:

التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Empty
مُساهمةموضوع: رد: التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي]   التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالإثنين أكتوبر 26, 2009 7:10 pm

والله يا أخى كل ما أقرأ دراسة لك أنزوى بعيدا مستحقرا نفسى أنى شاعر
فما أسعدنى وأثرانى بمعرفتك فأنت بلا أدنى مجاملة فخر لكل شاعر محترم
أدامك الله للشعر والشعراء
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبد الله جمعه
عضو مجلس الإدارة
عضو مجلس الإدارة
عبد الله جمعه


الدولة : مصر
عدد الرسائل : 2257 نقاط : 2468 تاريخ التسجيل : 10/06/2009
بطاقة الشخصية
مرئى للجميع:

التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Empty
مُساهمةموضوع: رد: التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي]   التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي] Icon_minitimeالأربعاء أكتوبر 28, 2009 2:34 pm

التطريب في قصيدة " سراب " للدكتور الشاعر جمال مرسي
متابعة لما سبق




1- الحيز البلاغي وقدرته على تبليغ حالة الشاعر إلى المتلقي

قتل العلماء روح الروافد الشعرية حين حولوها إلى علوم جامدة تُحْمَل في صورة قوالبَ صماء تنقل لمتعلميها فكان هذا من أهم أسباب ظاهرة " الرسوب والتسرب " في الأوساط الشعرية العربية ولجوء الأجيال الجديدة إلى موجات التغريب والحداثة تيسيرا للطريق إلى الشعر وبلوغ النضج المفتعل بل وأعطت هذه الأجيال الذريعة لمهاجمة تلك الروافد ممتلكة حجتها في هجر أرقى الممرات التعبيرية وكانت البلاغة العربية التي وضعها علماء العرب لخدمة التركيب القرآني من أهم تلك العلوم التي قُتِلَتْ بهذا السلوك ومن ثم كان لزاما أن نستوضح أن البلاغة ليست هدفا في حد ذاته وإنما هي وسيلة وجواز مرور للتعبير وسياج شفاف يكشف عن التموجات النفسية والانفعالية للشاعر فالقاعدة هي الشعر إذن والبلاغة هي المتكأ الذي نستند إليه لإثبات التوجه الشعري وكانت الأخت " هيام مصطفى قبلان " من الوعي الفكري حين علقت على هذا في الجزء الأول من هذه الدراسة بأن النقد الحقيقي لا يجب أن يخضع النص للقاعدة وإنما القاعدة هي التي يجب أن تطوع لخدمة النص دون تحريف طبعا في أصول النقد وإلا ذهبنا إلى الشطط
وحين نقف أمام قصيدة سراب نجد أن قاعدة الانطلاق تلك التموجات الوجدانية العالية مصحوبة بفكر واع قادر على انتخاب الممر التعبيري الشكلي الذي يحملها بصدق للمتلقي مما يجعله يدخل دائرة التطريب التي نوهت عنها من قبل
وعلوم البلاغة ثلاثة (البيان) وهو كافل التصوير و(البديع) وهو كافل الزخرفة اللفظية والذهنية و(المعاني) وهو كافل مراعاة مقتضى الحال أو كافل الإيماءات والإيحاءات التعبيرية
وقد نجح الشاعر د. جمال مرسي أيما نجاح في انتخاب القوالب البلاغية القادرة على توصيل الحالة الشعرية التي أرادها أن تصل إلى المتلقي فتكون خير اتصال بين المرسل والمستقبل



مَن أَنـتِ يَـا فَجـراً تَوَضَّـأَ بِالسَّنَـا
مَن أَنتِ قُولِي ، كَي أُجِيبَكِ مَن أَنَـا ؟

الشاعر يستهل الحالة باندهاش وتعجب ثم إلحاح هذا ما دار في المعمل النفسي للشاعر وكان لزاما عليه أن يضع هذا التموج الوجداني في القالب القادر على إحداث الاتصال بينه وبين المتلقي فكان لابد من البدء بالإنشاء دون الخبر المتمثل في " الاستفهام " المتكرر في المرة الأولى بدلالة التعجب وفي المرة الثانية بدلالة الإلحاح فوعي الشاعر المعرفي جعله ينتخب الأسلوب المناسب ليمرر من خلاله إحساسه


أَلقَت بِكِ الأَقدَارُ فِـي دَربِـي ، و مَـا
أَلفَيـتُ دَربـاً رَاقَنِـي مُـذ ضَمَّـنـا


بعد الانفعال السابق الممثل في الاستفهامين المتمثلين في البيت الأول انتقلت الموجة النفسية إلى هدوء تقريري فالشاعر في حاجة إلى تقرير حقيقة مؤداها شدة إحساسه بالفرق بين حالتي ما قبل اللقاء وما بعده وهذا التموج النفسي إنما يحتاج إلى التقرير لا الانفعال والتقرير يصاحب الخبر والانفعال يصاحب الإنشاء لذلك انتقل سريعا من الإنشاء إلى الخبر حتى يقرر الحالة التي هو بصدد نقلها للمتلقي وبالتأكيد سندرك أن الانفعال وما يصاحبه من قوالب إنشائية لن يجدي نفعا في توصيل تلك الحالة لذلك عمد إلى تمرير الحالة من خلال الخبر ولكن الذي أدهشني حقا أن الشاعر قد أتى بالخبر " ابتدائيا " ولكي أكون واضحا عليَّ أن أنوه إلى أضرب الخبر فالخبر يكون ( ابتدائيا ) وسمي بذلك لأنه ينقل إلى خالي الذهن مصدق للخبر ومن ثم فلا يحتاج إلى مؤكدات ويكون ( طلبيا ) إذا كان المتلقي للخبر مترددا يحتاج لتأكيد الخبر عليه ومن ثم فيحتاج الخبر إلى وسيلة توكيد واحدة حتى يصدق الخبر ويكون الخبر ( إنكاريا ) إذا كان المتلقي منكرا للخبر غير مصدق له فيحتاج الخبر إلى أكثر من وسيلة توكيد ... ولأن الشاعر هنا في البيت السابق كان مستشعرا بأن الخبر سينقل إلى متلقٍ خالي الذهن مصدق له بما مهد له من فورة انفعال في البيت السابق له فقد أتى بالخبر ( ابتدائيا ) دون أن يلجأ لوسيلة توكيد واحدة خلال البيت بأكمله



عَامَانِ مُذ كَـانَ اللِّقـاءُ ، و خَافِقِـي
مُتَرَنِّـحٌ بَيـنَ الصَّبَـابَـةِ والعَـنَـا


للمتحدث الحق في اجتلاب القالب التعبيري بين ثلاثة مستويات :
الأول : أن يكون القالب التعبيري مساويا لحجم المعنى المعتمل في نفسه ويسمى هذا التعبير [مساويا ]
الثاني : أن يستشعر المتحدث بحاجة المتلقي إلى الاستيضاح فيلجأ إلى قالب أكبر من حجم المعنى فيكون [الإطناب البلاغي] ولنا وقفات بمشيئة الرحمن إن كان في العمر بقية نتجاذب الحديث حول تفصيل هذه الممرات التعبيرية الخطيرة التي احتوى عليها علم المعاني في البلاغة العربية وكيفية توظيفها لخدمة المعنى
الثالث : أن يستشعر المتحدث أن المتلقي قادر على استنباط جزء من المعنى المنقول فينقل المعنى في قالب تعبيري أقل من حجم المعنى فيكون [ الإيجاز البلاغي ]
وكان الشاعر من الحكمة هنا أن استشعر أن المتلقي قادر على استنباط بعض المعنى فلجأ إلى ظاهرة الإيجاز البلاغي في قوله " عامان مذ كان اللقاء " فـــ ( عامان ) خبر لمبتدأ محذوف كما نوهت في الجزء الثاني ويقدر المتلقي المعنى في قوله " هما عامان " فوجد الشاعر أن ذكر المبتدأ سيكون نوعا من التزيد والشعر " لغة التلميح " فلمح بالخبر تاركا إدراك المتلقي يفتعل المبتدأ مبتعدا عن التزيد الشعري
مع ملاحظة أن الشاعر غير مولع بالزخرفة اللفظية فابتعد كثيرا عن الزخارف ذات الأصوات العالية أو ربما يكون صوت الحالة خفيض غير محتاج إلى الأصوات الزاعقة فالشاعر على الرغم من فرحه بتلك الزائرة المحبوبة إلا أنه تعمد أن يخفي تلك الفرحة ولم تظهر منه إلا في القليل القليل من دراما القصيدة واعتمد كما قلت آنفا على " الفلاش باك " في اجترار حاله قبل لقائها والتأكيد على ذلك وصوت حالة الاجترار هذه خفيض فلم يعمد إلى تلك الزخارف الشعرية لعدم الاحتياج لها ... وإن كنت قد لاحظت في بعض قصائده التي بين يدي أنه في عموم حاله لا يميل إلى تلك الزخارف كالتجنيس اللفظي وغيره


2- الموسيقى الشعرية وقدرتها على نقل المتلقي إلى دائرة دراما القصيدة


الشاعر في القصيدة يمتطي البحر الكامل وهو بحر من البحور الصافية التي تعتمد على تكرير التنغيم بصورة متتالية وهو يحمل في داخله طيات موسيقية تتناسب تماما مع صوت الحالة التقريرية في مجملها على الرغم مما يتخللها من بعض فورات انفعالية إنشائية ولكن تفعيلة ( متفاعلن ) التي يبنى عليها " البحر الكامل " هي تفعيلة تقوم على التحام [ فاصلة صغرى بثلاث متحركات فساكن ثم وتد مجموع بمتحركين فساكن ] وهذا التركيب به من التدافعات الموسيقية المتتالية والمتمثلة في كثرة الحركات فيه إنما هو حيز مروري لدفعات نفسية متسارعة ولكن الشاعر تدافعاته النفسية فيما غلب من دراما الحالة هادئة تقريرية تتدافع وتتسارع وتيرتها في بعض المواقف ثم لا تلبث أن تعود إلى طبيعتها التقريرية فكان لزاما عليه أن يتعامل مع هذا البحر بحرفية شعرية شديدة حتى يسيطر على تدافع التنغيم داخل تفعيلة البحر الكامل تلك فلجأت مهارته الشعرية إلى استخدام زحاف يدخل على تفعيلة " متفاعلن " يكون بتسكين متحركها الثاني يسمى بــ " الإضمار " فيحولها إلى " مستفعلن " فيتحول تدافعها التنغيمي إلى بطء تنغيمي شديد يتناسب مع الحالة التقريرية فتكون مكوناتها عبارة عن سبب خفيف ثم سبب خفيف ثم وتد مجموع فتكثر فيها السواكن فتلبي رغبة الشاعر في تلجميها وتحويلها إلى البطء التنغيمي وهنا يسألني سائل بداخلي : " وما الذي أجبره أصلا على تفعيلة ( بحر الكامل ) ثم إرهاق نفسه موسيقيا بإضمارها فكان من الأولى به أن يستخدم مثلا تفعيلة ( بحر الرجز ) التي هي مستفعلن أصلا ويكون قد حقق الهدف ؟ " فأقول : إن الشاعر كان على وعي لا إرادي - وهذا هو الفرق بين الانفعال والافتعال - بأنه سوف يحتاج في بعض الأحيان إلى تدافع النغمات وسرعتها ليمرر من خلالها إحساسه المتدافع في بعض المشاهد الدرامية للقصيدة وبالتالي فهو في حاجة وقتها إلى فك الإضمار لإعادة التفعيلة إلى أصلها وبأنه لو مرر تجربته من خلال ( بحر الرجز ) فسوف يضطرها إلى الهدوء الشديد ولو استخدم الزحاف المتاح لتفعيلة " مستفعلن " الأصلية في بحر الرجز فإنه سوف " يخبنها " والخبن سيحولها إلى " متفعلن " بوتدين مجموعين متتاليين وهذا سيحقق صخبا موسيقيا غير مأمول
وأعود لسؤال قد يداخلني : وهل الشاعر موكول بكل هذا أثناء اللحظة الإبداعية ؟ أقول : نعم ولكن ذلك يتم من خلال نظرية " التأزر النفسفكري " التي عبرت عنها آنفا حيث كثرة الدربة على القوالب الموسيقية تجعل وجدان الشاعر قادرا على انتخاب الممر الموسيقي المناسب للحالة دون إفساد اللحظة الإبداعية تماما مثل سائق السيارة الذي يقود سيارته لأزمنة طويلة فيصبح التفاعل بينه وبين الحركات المصاحبة لعملية القيادة لا إرادية ولا تؤثر على انفعاله أثناء القيادة وهذا خاضع لقانون " التآزر الحركي " فتتحرك به الأعضاء جميعها دون تمهيد فكري فتصبح تلك الحركات جزء من اعتياد جهازه العصبي
غاية الأمر أقول إن هذه القصيدة لواحدة من أروع القصائد التي قرأتها في حياتي الشعرية التي تناهز الثلاثين عاما وما قدمته من قراءة فيها إنما هو مرور على بحر شعري ارتشفت منه قطرة وتركته وأنا في غاية التطريب والنشوة الشعرية وما تركته زهدا فيه ولكن تركته لكثرة مائه وقد أعود إليه حين أتعطش مرة أخرى ليظل أمامي متجددا لا ينضب أمام قراءاتي إبدا

ملاحظة :
كنت قد أعلنت أثناء قراءتي لهذه القصيدة أن هناك وجه مقارنة نقدية بين تلك الفريدة الشعرية وبين رائعة " أبي فراس الحمداني " في الأسر [ الجزء الغزلي ] منها وأنا في سبيلي لإتمام قراءتي المقارنة بين الرائعتين
فانتظروني قريبا في قراءة بعنوان [ " أبو فراس وجمال مرسي " بين تصديق الحالة وإنكارها ]
كل الشكر لهذا الشاعر الرافد الذي فتح لي تلك اللُّجَّة الشعرية لأنهل منها ما شئت



عبد الله جمعة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
التطريب في قصيدة "سراب"د. الشاعر [جمال مرسي]
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» على شاطئها / د. جمال مرسي
» آخر ما حدث به المغنى / د. جمال مرسي
» أعياد / د. جمال مرسي
» في خيمة الليل / د. جمال مرسي
» الشاعر السوري أحمد دوغان في"إجازة في غرفة"..!

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
عاطف الجندي :: منتدى الإبداع الأدبى :: نقد ومقالات-
انتقل الى: