التطريب في قصيدة " سراب " للدكتور الشاعر جمال مرسي
متابعة لما سبق
1- الحيز البلاغي وقدرته على تبليغ حالة الشاعر إلى المتلقي
قتل العلماء روح الروافد الشعرية حين حولوها إلى علوم جامدة تُحْمَل في صورة قوالبَ صماء تنقل لمتعلميها فكان هذا من أهم أسباب ظاهرة " الرسوب والتسرب " في الأوساط الشعرية العربية ولجوء الأجيال الجديدة إلى موجات التغريب والحداثة تيسيرا للطريق إلى الشعر وبلوغ النضج المفتعل بل وأعطت هذه الأجيال الذريعة لمهاجمة تلك الروافد ممتلكة حجتها في هجر أرقى الممرات التعبيرية وكانت البلاغة العربية التي وضعها علماء العرب لخدمة التركيب القرآني من أهم تلك العلوم التي قُتِلَتْ بهذا السلوك ومن ثم كان لزاما أن نستوضح أن البلاغة ليست هدفا في حد ذاته وإنما هي وسيلة وجواز مرور للتعبير وسياج شفاف يكشف عن التموجات النفسية والانفعالية للشاعر فالقاعدة هي الشعر إذن والبلاغة هي المتكأ الذي نستند إليه لإثبات التوجه الشعري وكانت الأخت " هيام مصطفى قبلان " من الوعي الفكري حين علقت على هذا في الجزء الأول من هذه الدراسة بأن النقد الحقيقي لا يجب أن يخضع النص للقاعدة وإنما القاعدة هي التي يجب أن تطوع لخدمة النص دون تحريف طبعا في أصول النقد وإلا ذهبنا إلى الشطط
وحين نقف أمام قصيدة سراب نجد أن قاعدة الانطلاق تلك التموجات الوجدانية العالية مصحوبة بفكر واع قادر على انتخاب الممر التعبيري الشكلي الذي يحملها بصدق للمتلقي مما يجعله يدخل دائرة التطريب التي نوهت عنها من قبل
وعلوم البلاغة ثلاثة (البيان) وهو كافل التصوير و(البديع) وهو كافل الزخرفة اللفظية والذهنية و(المعاني) وهو كافل مراعاة مقتضى الحال أو كافل الإيماءات والإيحاءات التعبيرية
وقد نجح الشاعر د. جمال مرسي أيما نجاح في انتخاب القوالب البلاغية القادرة على توصيل الحالة الشعرية التي أرادها أن تصل إلى المتلقي فتكون خير اتصال بين المرسل والمستقبل
مَن أَنـتِ يَـا فَجـراً تَوَضَّـأَ بِالسَّنَـا
مَن أَنتِ قُولِي ، كَي أُجِيبَكِ مَن أَنَـا ؟
الشاعر يستهل الحالة باندهاش وتعجب ثم إلحاح هذا ما دار في المعمل النفسي للشاعر وكان لزاما عليه أن يضع هذا التموج الوجداني في القالب القادر على إحداث الاتصال بينه وبين المتلقي فكان لابد من البدء بالإنشاء دون الخبر المتمثل في " الاستفهام " المتكرر في المرة الأولى بدلالة التعجب وفي المرة الثانية بدلالة الإلحاح فوعي الشاعر المعرفي جعله ينتخب الأسلوب المناسب ليمرر من خلاله إحساسه
أَلقَت بِكِ الأَقدَارُ فِـي دَربِـي ، و مَـا
أَلفَيـتُ دَربـاً رَاقَنِـي مُـذ ضَمَّـنـا
بعد الانفعال السابق الممثل في الاستفهامين المتمثلين في البيت الأول انتقلت الموجة النفسية إلى هدوء تقريري فالشاعر في حاجة إلى تقرير حقيقة مؤداها شدة إحساسه بالفرق بين حالتي ما قبل اللقاء وما بعده وهذا التموج النفسي إنما يحتاج إلى التقرير لا الانفعال والتقرير يصاحب الخبر والانفعال يصاحب الإنشاء لذلك انتقل سريعا من الإنشاء إلى الخبر حتى يقرر الحالة التي هو بصدد نقلها للمتلقي وبالتأكيد سندرك أن الانفعال وما يصاحبه من قوالب إنشائية لن يجدي نفعا في توصيل تلك الحالة لذلك عمد إلى تمرير الحالة من خلال الخبر ولكن الذي أدهشني حقا أن الشاعر قد أتى بالخبر " ابتدائيا " ولكي أكون واضحا عليَّ أن أنوه إلى أضرب الخبر فالخبر يكون ( ابتدائيا ) وسمي بذلك لأنه ينقل إلى خالي الذهن مصدق للخبر ومن ثم فلا يحتاج إلى مؤكدات ويكون ( طلبيا ) إذا كان المتلقي للخبر مترددا يحتاج لتأكيد الخبر عليه ومن ثم فيحتاج الخبر إلى وسيلة توكيد واحدة حتى يصدق الخبر ويكون الخبر ( إنكاريا ) إذا كان المتلقي منكرا للخبر غير مصدق له فيحتاج الخبر إلى أكثر من وسيلة توكيد ... ولأن الشاعر هنا في البيت السابق كان مستشعرا بأن الخبر سينقل إلى متلقٍ خالي الذهن مصدق له بما مهد له من فورة انفعال في البيت السابق له فقد أتى بالخبر ( ابتدائيا ) دون أن يلجأ لوسيلة توكيد واحدة خلال البيت بأكمله
عَامَانِ مُذ كَـانَ اللِّقـاءُ ، و خَافِقِـي
مُتَرَنِّـحٌ بَيـنَ الصَّبَـابَـةِ والعَـنَـا
للمتحدث الحق في اجتلاب القالب التعبيري بين ثلاثة مستويات :
الأول : أن يكون القالب التعبيري مساويا لحجم المعنى المعتمل في نفسه ويسمى هذا التعبير [مساويا ]
الثاني : أن يستشعر المتحدث بحاجة المتلقي إلى الاستيضاح فيلجأ إلى قالب أكبر من حجم المعنى فيكون [الإطناب البلاغي] ولنا وقفات بمشيئة الرحمن إن كان في العمر بقية نتجاذب الحديث حول تفصيل هذه الممرات التعبيرية الخطيرة التي احتوى عليها علم المعاني في البلاغة العربية وكيفية توظيفها لخدمة المعنى
الثالث : أن يستشعر المتحدث أن المتلقي قادر على استنباط جزء من المعنى المنقول فينقل المعنى في قالب تعبيري أقل من حجم المعنى فيكون [ الإيجاز البلاغي ]
وكان الشاعر من الحكمة هنا أن استشعر أن المتلقي قادر على استنباط بعض المعنى فلجأ إلى ظاهرة الإيجاز البلاغي في قوله " عامان مذ كان اللقاء " فـــ ( عامان ) خبر لمبتدأ محذوف كما نوهت في الجزء الثاني ويقدر المتلقي المعنى في قوله " هما عامان " فوجد الشاعر أن ذكر المبتدأ سيكون نوعا من التزيد والشعر " لغة التلميح " فلمح بالخبر تاركا إدراك المتلقي يفتعل المبتدأ مبتعدا عن التزيد الشعري
مع ملاحظة أن الشاعر غير مولع بالزخرفة اللفظية فابتعد كثيرا عن الزخارف ذات الأصوات العالية أو ربما يكون صوت الحالة خفيض غير محتاج إلى الأصوات الزاعقة فالشاعر على الرغم من فرحه بتلك الزائرة المحبوبة إلا أنه تعمد أن يخفي تلك الفرحة ولم تظهر منه إلا في القليل القليل من دراما القصيدة واعتمد كما قلت آنفا على " الفلاش باك " في اجترار حاله قبل لقائها والتأكيد على ذلك وصوت حالة الاجترار هذه خفيض فلم يعمد إلى تلك الزخارف الشعرية لعدم الاحتياج لها ... وإن كنت قد لاحظت في بعض قصائده التي بين يدي أنه في عموم حاله لا يميل إلى تلك الزخارف كالتجنيس اللفظي وغيره
2- الموسيقى الشعرية وقدرتها على نقل المتلقي إلى دائرة دراما القصيدة
الشاعر في القصيدة يمتطي البحر الكامل وهو بحر من البحور الصافية التي تعتمد على تكرير التنغيم بصورة متتالية وهو يحمل في داخله طيات موسيقية تتناسب تماما مع صوت الحالة التقريرية في مجملها على الرغم مما يتخللها من بعض فورات انفعالية إنشائية ولكن تفعيلة ( متفاعلن ) التي يبنى عليها " البحر الكامل " هي تفعيلة تقوم على التحام [ فاصلة صغرى بثلاث متحركات فساكن ثم وتد مجموع بمتحركين فساكن ] وهذا التركيب به من التدافعات الموسيقية المتتالية والمتمثلة في كثرة الحركات فيه إنما هو حيز مروري لدفعات نفسية متسارعة ولكن الشاعر تدافعاته النفسية فيما غلب من دراما الحالة هادئة تقريرية تتدافع وتتسارع وتيرتها في بعض المواقف ثم لا تلبث أن تعود إلى طبيعتها التقريرية فكان لزاما عليه أن يتعامل مع هذا البحر بحرفية شعرية شديدة حتى يسيطر على تدافع التنغيم داخل تفعيلة البحر الكامل تلك فلجأت مهارته الشعرية إلى استخدام زحاف يدخل على تفعيلة " متفاعلن " يكون بتسكين متحركها الثاني يسمى بــ " الإضمار " فيحولها إلى " مستفعلن " فيتحول تدافعها التنغيمي إلى بطء تنغيمي شديد يتناسب مع الحالة التقريرية فتكون مكوناتها عبارة عن سبب خفيف ثم سبب خفيف ثم وتد مجموع فتكثر فيها السواكن فتلبي رغبة الشاعر في تلجميها وتحويلها إلى البطء التنغيمي وهنا يسألني سائل بداخلي : " وما الذي أجبره أصلا على تفعيلة ( بحر الكامل ) ثم إرهاق نفسه موسيقيا بإضمارها فكان من الأولى به أن يستخدم مثلا تفعيلة ( بحر الرجز ) التي هي مستفعلن أصلا ويكون قد حقق الهدف ؟ " فأقول : إن الشاعر كان على وعي لا إرادي - وهذا هو الفرق بين الانفعال والافتعال - بأنه سوف يحتاج في بعض الأحيان إلى تدافع النغمات وسرعتها ليمرر من خلالها إحساسه المتدافع في بعض المشاهد الدرامية للقصيدة وبالتالي فهو في حاجة وقتها إلى فك الإضمار لإعادة التفعيلة إلى أصلها وبأنه لو مرر تجربته من خلال ( بحر الرجز ) فسوف يضطرها إلى الهدوء الشديد ولو استخدم الزحاف المتاح لتفعيلة " مستفعلن " الأصلية في بحر الرجز فإنه سوف " يخبنها " والخبن سيحولها إلى " متفعلن " بوتدين مجموعين متتاليين وهذا سيحقق صخبا موسيقيا غير مأمول
وأعود لسؤال قد يداخلني : وهل الشاعر موكول بكل هذا أثناء اللحظة الإبداعية ؟ أقول : نعم ولكن ذلك يتم من خلال نظرية " التأزر النفسفكري " التي عبرت عنها آنفا حيث كثرة الدربة على القوالب الموسيقية تجعل وجدان الشاعر قادرا على انتخاب الممر الموسيقي المناسب للحالة دون إفساد اللحظة الإبداعية تماما مثل سائق السيارة الذي يقود سيارته لأزمنة طويلة فيصبح التفاعل بينه وبين الحركات المصاحبة لعملية القيادة لا إرادية ولا تؤثر على انفعاله أثناء القيادة وهذا خاضع لقانون " التآزر الحركي " فتتحرك به الأعضاء جميعها دون تمهيد فكري فتصبح تلك الحركات جزء من اعتياد جهازه العصبي
غاية الأمر أقول إن هذه القصيدة لواحدة من أروع القصائد التي قرأتها في حياتي الشعرية التي تناهز الثلاثين عاما وما قدمته من قراءة فيها إنما هو مرور على بحر شعري ارتشفت منه قطرة وتركته وأنا في غاية التطريب والنشوة الشعرية وما تركته زهدا فيه ولكن تركته لكثرة مائه وقد أعود إليه حين أتعطش مرة أخرى ليظل أمامي متجددا لا ينضب أمام قراءاتي إبدا
ملاحظة :
كنت قد أعلنت أثناء قراءتي لهذه القصيدة أن هناك وجه مقارنة نقدية بين تلك الفريدة الشعرية وبين رائعة " أبي فراس الحمداني " في الأسر [ الجزء الغزلي ] منها وأنا في سبيلي لإتمام قراءتي المقارنة بين الرائعتين
فانتظروني قريبا في قراءة بعنوان [ " أبو فراس وجمال مرسي " بين تصديق الحالة وإنكارها ]
كل الشكر لهذا الشاعر الرافد الذي فتح لي تلك اللُّجَّة الشعرية لأنهل منها ما شئت
عبد الله جمعة