جدتي السومرية

ا
قصة قصيرة
جدتي السومرية

لما طل الصبح من خلف جبال العتمة ، وخرجت الطيور من وكناتها ، قصدت السير على ضفة الفرات ، استمد منه الطاقة بعد أن أرهقتني أمور الحياة وشؤون الدنيا ، لعلي أبوح له بما ثقل علّيَ حمله 0
رأيت العجب ، لم أميز هل ما رأيته هو حورية قادمة ما أعماق المجهول ، أم امرأة ساحرة قدمت من أحضان الجزر النائية ، كانت تعوم في النهر ، ثم ترفع رأسها من بين صفائح النهر ترمق الروابي والسهول بنظرات حزينة ، وتمد البصر بعيداً حيث الجبال الشامخة وتنفض شعرها الطويل فيغطي وجه الموج ثم تغوص في مجهول النهر وقد غطى الأفق غمام رمادي دثر الموج والسماء بأطياف زمانٍ آفلٍ 0
اشتعل الشوق في صدري لأتحدث إليها وجعلت ارقبها كل يوم حتى تحققت غايتي وسألتها :
- حدثيني عن الحزن الذي يهطل من عينيك ؟
- بناتي وحفيداتي خرجن عن إطاعتي
- وهل لك بنات
- أجل
- من أنت
- أنا جدتكم السومرية
رميت نفسي بالنهر لأضمها لكنها ذرفت دمعاً وهي تبتعد عني ، ناشدتها بحق الأمومة أن تعود أجابت وهي ماضية مع رحيل الموج انتظريني غداً
دب الحنين بروحي وكان الزمن طويلاً جداً حتى جاء الغد ، وخرجت السومرية من النهر ، أمسكت بيدي ورنت نحو صخرة أجلستني قربها ، كان شعرها يغطي جسدها ويزيد ، بدت حوراء العينين بابلية الكحل ، لطيفة المبسم أقحوانية الشفاه ، صافية البشرة دائرية الوجه كأنه قمرٌ ليلة اكتماله ، رقصت فراشات زرقاء حولها لكأن نجوم السماء تحتفل بقدومها ، ما أروع ما رأيت !
سألتها عن حزنها :
- دعيني لبكائي ، أنت غرة في الحياة ولن تفهمي قصدي
- أرجو أن تحدثيني عما صعب عليَّ فهمه ، أعدك أن أحسن إصغائي 0
- البارحة يا بنيتي رأيت الزائرات القادمات من الغرب إلينا يتجولن في سوق الحميدية ، ويبتعن عباءات عراقية ، إحدى الزائرات ابتاعت رداءً تدمرياً ، وتحلت بأساور وأقراط وعقد شرقي التصميم ، آه لو تدري يابنيه كم بدا عليها جميلاً فبكيت وفاضت روحي شجناً يلح عليَّ بكل ألوان الألم ، لأني لم أرى حفيدة من حفيداتي تفعل كما فعلن هؤلاء النسوة ، أعرفتي ما أبكاني ؟!
عيب علينا أن تزدحم أسواق أوربة بتراثنا الذي هجرناه ، ألا يعيبنا ألا نقدر تراثنا حق قدره ؟
لقد نسيتن ما صدرناه للتاريخ من حضارة ، هل تعلمين أن مصممي الأزياء الغرب أصبحوا يقلدون تراث جداتكن ؟ألا يليق بحفيداتي أ، يصدرن تراثهن لشعوب العالم
كليني لهمي جروحي لم تعد تبرأ ، وما أن وصلت بحديثها لهذا الموصل حتى ثقل لفظها ووهنت عزيمتها وهطل غزير دمعها نهضت ونهض معها شعرها الأسطوري وغابت في موج الفرات بعد أن تركت في روحي العويل 0
رغبت في تنفيذ ما دعت له جدتي ، زرت سوق الحميدية وابتعت زياً تدمرياً وتحليت بحلي تشبه ما كانت تتحلى به الملكة زنوبيا وبت كأني امرأة قادمة من زمنٍ آفلٍ ، ليتك تعلمين يا جدتي ما حصل عندما خرجت إلى الطريق بهذا اللباس الجميل قالوا :
مسكينة هذه الفتاة فقدت عقلها وهي في ريعان شبابها ، صرخت ُبأعلى صوتي لست مجنونة ، وحكيت لهم ما سمعته منكِ ، هربوا جميعاً مني وقالوا ( مسكينة لبسها عفريت )
سمعت صوت جدتي يتردد بين جوانب المكان وفي جوانب روحي وقلبي قائلة :
- لن تقدري على حمل أحزاني ، لقد ضاع كل شيء منذ زمان ، والقادم أعظم يا بنية )
- لن أنهزم ، ولن أبدل عزيمتي لأني وجدتني هكذا أجمل وسأكون سعيدة عندما يقلدنني رفيقاتي 0
لما حان موعد الامتحان الجامعي كنت أكتب عن جدتي السومرية لكن كميرات التصوير الصحافي والتلفزيوني كانت تتبعني وخبرٌ بالخط العريض غطي عناوين الصحف ( فتاة جامعية تصاب بانفصام الشخصية ) !!!