زمزمة اللغة و عبقرية التصوير وتفكك المعني
في ديوان " يوم يكون الراعي " للشاعر كمال علي مهدي
*****************************
يري عبد القاهر الجرجاني أن الغموض أحد جواهر الكتابة الشعرية , في حين أن الوضوح هو سمة من سمات النثر, حتي لو كان نثرا إبداعيا, ويتفق هذا كذلك مع ماقاله أبو اسحق الصابي , ويحدد إمبسون آليات الغموض المتمثلة في عناصر سبعة منها : تعدد التفاصيل , والتراكيب النحوية المربكة وتعدد دلالات المفردات , والتراكيب المتناقضة مما يعكس نوعا من التشتت الذهني لدي المتلقي , ورغم أن عبد القاادر قد استخدم مفردات مثل الغرابة والتوسع , وغيرها كمرادفات للغموض , إلا أن الغرابة قد لاتكون غموضا تماما , وكذلك التوسع , ويمكن القول أن الغموض مسألة شديدة النسبية , وليست مسألة مطلقة فما تراه غامضا مبهما , قد لايكون كذلك بالنسبة لي , ولا شك أن الإبداع معني بتغيير كثير من الثوابت , وهو الذي يمنح للغة حيويتها وتجددها وكذلك للأفكار والصور , وكافة الجوانب الأخري , وان اتباع نفس القواعد , ماهو إلا محاكاة عقيمة لم سبق , وبين يدي ديوان للشاعر المتميز كمال علي مهدي – الشاعر المصري- والذي صدر له متأخرا بشكل نسبي , لكنه ديوان بالطبع قد سبقته " دواوين ," وتاريخ الشاعر معروف , من خلال منشوراته في المجلات والجرائد المتعددة , فموهبته ليست محل تساؤل أو شك وشاعريته , لها موقعها بين الشعرية العربية , لكن القارئ للديوان , والذي يسعي للتعامل مع مثل هذا الديوان من منطلق نقدي , لابد أن يتوقف عند مفرداته , وادواته التي استخدمها , في تخليق وليده الإبداعي الاول الذي يعد كما قلت إضافة للشاعرية العربية , هذا الشاعر –كمال علي مهدي-هو شاعر قد سبته غواية اللغة , واستهوته لعبتها , ويمكن القول أن تلك الغواية سلاح ذو حدين , فإذا ما ملكت زمامها و استطعت أن تفعل بها ماتريد , وأن توجه دفتها حيث تهوي , أما إذا تركت لها الزمام, فقد تغريك بلذتها وصليل حروفها , وقوة سطوة تصويرها إلي ما لم تكن ترغب ,فيكون التراجع صعبا , بل يكاد يكون مستحيلا , ,وبإلقاء نظرة غلي عنوان الديوان , نجده " يوم يكون الراعي " , وقد يتحتاج هنا إلي استخام تكنيك close
لاستكمال العنوان , فيوم يكون الراعي ماذا ؟ حزينا , مهموما , لاهيا , ديكتاتورا ....., ولأن العنوان عتبة النص , فإنه هام جدا التوقف بساحته , وبحث كل هذه الاحتمالات وغيرها مما قد لايكون إلا في حسبان الشاعر وحده , أو ماقد يكون لدي متلقين آخرين, ويمكن أن تسقط علي العنوان كل مايعن لك, لتبدأ القراءة , لكنك قد تعود خائب الرجاء لأن الفرضية التي اقترحتها لم تؤد إلي النتيجة المتوقعة, فتبدأ من جديد .. وبالتوغل إلي باحتة يوم يكون الراعي , تجد أن عنواين القصائد كانت كاتالي " مفردات العيس- إنني آنست نارا –تبارك الرميم- إنا قدرناه منازل-سأجئ بالجمار – إمرأة في بردية ..لتكون معظم العناوين علي هذه الشاكلة عدا النزر اليسير منها , كذلك المفردات التي تخللت النصوص كانت : سمهري- جمل – نوق – حاديان –الرمال – العير –القفار –المرابض- الجزور- العيس-نعاج-دلو .......
, ولأن اللغة هي وسيلة الاتصال بين المبدع والمتلقي , فنلحظ أن المفردات التي راودتنا , مفردات بيئة تراثية صحراوية شدية الصراحة بلا مواربة , رغم أن الشاعر يحيا المدينة بكل مفرادتها , منذ سنوات طوال , إلا أن الأثر اللغوي لم يمتد إليه حقيقة من التأثير البيئي , لكنه طاله , ثقافيا حيث , التهم الشاعر التراث وخاصة الشعر الجاهلي , ولأن هذا ديوانه الأول الذي قد احتشد له , فكان عليه أن يستعرض كل أبجدياته الثقافية والشعرية – كما فعلنا جميعا في الديوان الأول – لكن المبالغة كانت شديدة الاسراف هنا , حتي أن مفردة كائن كالجمل قد ارتسمت في معظم القصائد في الحاح شديد , لم يكن من الضروري , أن يستخدمه رمزا متكررا بهذا الكثافة عبر قصائد الديوان ...
شكلت اللغة هاجسا لدي كمال علي مهدي , واستدرجته ,وكذلك استدرجه التصوير , لكن لحسن الحظ,, إلي فضاءات شعرية رحبة , تجعل من الديوان أمثولة شعرية للجيل الحالي دون مبالغة , لكن ذلك كله كان علي حساب المعني , الذي تشوش وارتبك , نتيجة اعتماد الشاعر التداعي الحر في كتاباته , دون أن يستفزه ذلك إلي التوقف لحظات , لقطع هذا الاسترسال , وإعادة التعاطي مع النصوص ثانية ,مما يصنع ضبابية بعض الصور التي تخللت بعض قصائده , وإن كان هناك تساؤلا مشروعا , هل هناك فجوة بين الشعر وأدواته ؟ التي هي اللغة والتصوير والموسيقي؟......قد تتعدد الإجابات , لكن ما أراه أن الشاعر قد آثر اللغة , واختار التصوير قبل الموسقة , والموسقة قبل المضمون , وإن كان الشاعر في بعض وقفاته , قد استعاد التوازن بين مجمل المفردات الجوهرية للكتابة الشعرية , كما في بعض النصوص , علي سبيل المثال :
فإياك والأسودين
حريمك والنفط
وكذلك:
لا تترك البحر رهوا
وهم يدخلونك من كل فج
أقول : نعم سوف أنجو
ويقول أيضا :
سحيقان
هذا الذي يملأ الجب دلو ارتحاله
ذاك الذي أيقظ الصيف من غفوة
في دروب انتظاره
نري هنا التضاد بين هذا –ذاك , ومراعاة النظير بين
هذا الذي
ذاك الذي
و
يملأ الجب
أيقظ الصيف
,ويمارس الشاعر هواية التناص مع الموروث الديني والشعري في العديد من القصائد مضيفا إليها من شاعريته الكثير
ها أنا ذا" واحد من خلال المدينة يسعي"
وقامته " من زمان البكاء بركب الحسين"
ومحشوة بالرسل
حتي أن تناصه هنا مركب , تداخلت الشخصيات والأزمنة والأحداث وجمعها في سطرين فقط , وعليك أن تستعيد الكون ثانية من خلال رؤي جديدة تماما !,
لعبت القوافي الداخلية علي تحقق العنصر الموسيقي بشكل أو آخر
قد كنت أغسل تحت ظل السدر
أفئدة الحمام
ويالهم عني تنحوا
يزعمون أنني نمام
وكذلك قوله:
وها أنت راع تجوس خيول الخصوبة
أو تغتدي فوق عر ش البكارة ملتحفا بالطنب
أو تنسحب
أو تنسكب
هكذا , استطاع الشاعر كمال علي مهدي أن يقدم ديوانه الحالة للقارئ المصري والعربي في كل مكان , ليقرأ ديوانا مغايرا يذكر – علي تفرده –بالكبار , وخاصة أمل , وأعيب علي المجلس
الأعلي للثقافة " الكتاب الأول " الذي صدر من خلاله الكتاب الإخراج الفني لللديوان و والذي اعتبرته لا يعدو أكثر من تصوير كاريكاتيري للديوان , لم يكن ليتناسب وهذه الشاعرية الكبيرة , وحقيقة لو كنت في موقع الشاعر ما ارتضيت أن اتسلم الديوان , إلا بعد اختيار غلاف يليق , بجدية التجربة وجدتها .