صوت أمه و هي توقظه جعله يهب فزعاً ... لم تكن تلك طريقتها في إيقاظهِ ...اللمسة الحانية و البسمة الصافية و الصوت الملائكي الذي يهمس باسمه في موسيقا مقتبسة من ألحان الفردوس... كل هذا صار ذكرى ... نزعها للغطاء كأنها تنفض أثارهِ كلها من عليه ... إحساساً يتوغل داخله بالإهانة ...لكنها أمه ...و هو يعلم لماذا تفعل كل هذا .... باستسلام تامٍ قام ...و بصمتٍ و خضوعٍ أدى طقوس الصباح المعتادة ...حول الطعام وجدها تضع لقيمة في فمها ...تتبعها بأخرى ....نظرة تحمل مشاعرٍ شتى له ...ثم قيامها دون أن تكمل إفطارها ...أنحشر الطعام في فمه ...لم يستطع التحمل ....لكنه لم يستطع الاعتراض ...دخل في ملابسه بسرعة و هو يأخذ بعض القروش القليلة التي تكاد تكفيه المواصلات ...يتجه نحو الباب ...إلتفاتة إلى والدته التي رمقته بصمتٍ ...ثم تحولت نظرتها نحو المكتب الذي طالما جلس عليه يستذكر حتى أنهى دراسته و حصل على شهادته الجامعية ...و التي تختفي خلف تراب كث غير ملامحها و نال من إطارها المصدئ ما نال ...لم يكن فيما مضى يحتاج لمناشدتها الدعاء ... كانت تدعو له منذ تستيقظ و حتى تنام ...و هي جالسة على سجادة الصلاة ...أو كلما فكرت فيه أو ذكر أحدهم أسمهِ أمامها ... يكاد يجزم أنها كانت تدعو له حتى في أحلامِها ... تلتقى العيون ...يتوسل إليها أن تنطقها ...دعوة واحدة لكي يبدأ بها يومه ...ترتجف شفتاها ... ثم تشيح بوجهها الممتلئ غضباً ... يخرج من المنزل ... خطواته سريعةً كأنه يهرب من نظرات جيرانه و التي يشعر بها شامتة ... يحاول البحث عن عمل كالمعتاد ...مرة...أخرى ... عام ... أخر... و النتيجة أيضاً كالمعتاد ... كل مكان يذهب إليه يدلى بكل ما يحمله من شهادات و أوراق ... يقينه بأنه جمع كل الوراق يجعله واثقا ً ... لكن ثقته تنساب من بين أصابعه هاربة و نظرة الرفض تتكرر من العيون حتى آلفها ...ماذا يريدون إذاً؟ ...لا يعلم ...حنقه يزداد ...غضبه يزداد ...و إرهاقه يزداد...مع غروب الشمس كانت قدماه قد تورمتا ...جلس قبالة النيل يشكو همومه لصفحته الخالدة ...جاءت إليه ...أشادت بدقته فى المواعيد ...و مثل المرة الأولى حين تعارفا ودون أن تسمع رداً أخذت تسرد عليه أحداث يومها ...أبناءها مازالوا على رفضهم فكرة زواجها من شابٍ يصغرها ... كما إنه لا يملك مالاً و لا يعمل ... لكن لا يهم ... إنها تحبه ... تعشقه ... ومستعدة لإعطائه كل شئ... مهما قال الناس ...و منذ متى تهتم بكلام الناس ... ليذهبوا إلى الجحيم ...وامتدت يدها تتناول يده ... إنها تدعوه إلى الجنة ...جنتها ...قدرته على الاعتراض أو المناقشة صارت سرابا لا جدوى من الإمساك به ... لكن إحساسا بأنها تقوده الى نهايته كشابٍ حمل يوما ً من الكرامةِ ما حمل ... يجعل كل الأمور حوله تختلف ... يدها التي امتدت لتلامس أصابعه احس بها توقع حكم إعدامه ...و لم يتبق الإ التنفيذ... في اليوم المحدد ,بعدما غرٌبت الشمس بدأت المراسم... يدها تحكم على يده ... كأنها تمسك به شبابها الذي انقضي ... نظرات سخرية حولهما لا تخطئها العيون ... لكنها ابتسمت في هدوء و كل شعرة فيها تصرخ:- أين كانوا وهى منبوذة تعانى وحدتها بعد وفاة زوجها و قطار العمر ينفث دخانه معلنا قرب الوصول لمحطة النهاية ...هاتفه المحمول - الذي ابتاعته له- يرن ...امتدت أصابعه ليخرجه من مكمنه ... أصابعها كانت أسرع في إغلاقه...نظر إليها ... قالت : " الليلة دى بتاعتى أنا ... و مش عايزه حد يشاركك فيّا " ... تهاوت عيناه إلى الرقم المسجل ... تعرفه ... اندهش ... كيف علمت برقمهِ هذا ؟ ...لابد و إنها أمهٌ تحاول نجدته مما هو مقبل عليه ... لكنها اختارت خطاً ... هذه الفتاة بالذات لا يمكن أن تثنيه عن عزمه ... لا يمكن أن ينسى وعودا بالحياة معاً و مواجهة الصعاب و مشاعرا صافيةً صادقة ... كل هذا نثرته لتخطو عليه بقدميها ...أمام أول عقبةٍ أعلنت الاستسلام ... بهرتها السيارة الفارهة و الفيلا الأنيقة ... و عندما عاتبها كان ردها جاهزاً... ( إنها صفقة... حتى و إن كان زوجي اكبر من أبى ... حتى ولو كان اكبر من جدي... إنها صفقة ...) و الغريب أن الكل بارك لها اختيارها و أثنى على ذكائها و حكمتها و عصريتها و...و...و... فلماذا لا يفعلوا معه هذا ؟! ... لماذا يتهمونه بأنه ...و أنه ...و انه .... رغم أنه يقلدها فحسب ... هاتفه يرن مرة أخرى ...هذه المرة كانت أصابعه هي الأسرع ... كانت هي مرة أخرى ...يجب أن تجيب ... بعنفٍ أمرته بقايا حبها فى قلبه فأمتثل ...استأذن في الانفراد بنفسه دقائق ... بابتسامةٍ صفراء أحس بها تأمره:" لا تتأخر ..." جاوبها بإيماءة صاغرة ... أغلق الباب خلفه ... وأجاب المكالمة ... سخرية كلماته الأولى جعلتها تتخطى المقدمات التقليدية ..." أعترف أنى أخطأت ... أعترف إني خائنة ... بل وأكثر من هذا ... اعتبرني كما تعتبرني ... لكن لا تفعل هذا بنفسك ... أنت لا تتصور فداحة الثمن ... إنهم نخاسون ... يعتبرونا مجرد أجساداً بضةً يستنزفونها لاعبين بها كالدمى ... ويفعلون بها ما يشاءون " ... و بصوت اختنقت عبراته قالت : " أنا جوزي بيعاملني كآني جارية مش بنت محترمة استنت عمرها كله عشان اللحظة دى ... عارفة إن غلط و ذنب كبير أن أقول كده ...لكن أنت عارف مقدارك و غلاوتك عندي ..." قاطعها بصوتٍ لم يدر كيف تحمل بكل هذا الجفاف :"أنتي أزاى وصلتي لأمي؟" ... لكنها كانت عملية جدا كالمعتاد ... و كأنها متوقعة منه ما هو أكثر ...أخذت تحدثه عن ذكرياتهما معاً ... و كيف عرفت منه كل شئ عن عائلتهِ ... وعن عظمة أمه التي تحملت بعد وفاةِ والدهِ ما لا يتحمله بشر من أفعال طامعى الدنيا ... "إنتى أزاى وصلتي لأمي؟" كررها بقسوةٍ... رد عليه أخر صوت يتوقعه في هذه اللحظة... بكل حنان الدنيا التي أحس بها تكرهه جاوبه همس أمه:
--" تفتكر أقدر استحمل أشوف ابني يضيع و افضل ساكته؟"...صمته التام أمام صوت والدته التى شعر بكل أحاسيسها أيادٍ تحمله كالمعتاد و تهدهده ... "- ح تبيع نفسك؟!..." بصوتٍ غطت عليه و خنقته أصوات الصراع بين قلبه و عقله قال:" اسأليها..." ردت أمه:" و أنت بتحسب أنها سعيدة باللي فيه؟!"..." -هي اللي اختارت"... - "و أنت اللى بتختار د لوقتي... بس ميزتك إن نهاية الاختيار واضحة قدامك..."... دموعه تنهمر وهو يتمنى الانطلاق مختبئاً عن الدنيا كلها ... أصوات عديدة تنادى عليه خارج الغرفة ... يتمنى أن يهرب من الدنيا كلها بقسوتها و جفافها و ماديتها الحقيرة التي تمتد بوقاحة لتصبغ الناس بحقارتها ... الطرقات تتعالى ... مازال بيده الأختيار ... بكلمة واحدة سيقيد نفسه ... و بكلمة واحدة سيحررها ... سيشتريها ... لكن كيف ينسى واقعه المظلم و صوتاً غريباً عنه يهتف داخله: - " أتذكر منظر حذائك المقطوع و ملابسك الرثة ؟! ... أتذكر مشهد وداع من أحببت و لحظة ضياع هذا الحب ؟... أتذكر معاملة أمك الجافة و أنت تبحث عن عملٍ و لا تجد رغم توفر كل متطلبات سوق العمل لديك ... أتذكر ظن الجميع فيك التهاون و الخنوع ؟!... زواجك هذا سيوفر عليك سنيناً من العمل , وسيحميك من الانحراف الخلقي و أنت شاباً لك احتياجات... يجب عليك أن تتقن و تتأكد ... تتقن أن المجتمع بأكمله لا يجديه بؤسك ولا سعادتك قدر ما يجديه الحفاظ على قيمه و مبادئه العتيقة مهما ضحى فى سبيل ذلك بالأرواح ... وتتأكد أنك كشابٍ رافض أن تكون ضحية جديدة فأنما تعلن لنفسك حياة جديدة."...و يتهاوى الصوت البراجماتى داخله أمام صوتٍ أخر لم يخفت بعد..."و ما جدوى حياة جديدة فى روحٍ ميتة و قلبٍ تحللت جثته ؟!..."
و يصرخ عقله : - " لكنى أستطيع العودة "...و يرد عليه صوت :- " ... ح تموت و اللي بيموت ما بيرجعش..."... مازال يهتف :- " أنا ح أقدر ... أنا غير كل اللي ماتوا ... أنا باقتل روحي عشان أوهب ليها الحياة ... انا راجع...راجع ...راجع..."... و بيد هربت الدماء من عروقها ...و بصوت شبحٍ...أغلق الهاتف و هو يفح :-"ما تخافيش يا أمي ... قريب قوى ح تلاقينى راجع ليكى ... بس أنتِ ادعى لي..." ...و اتجه نحو الباب ... فتحه ... تلقته نظراتها الصارمة ...و عبارتها التي حاولت أن تقولها ناعمة:
-" مش قلت لك إنك الليلة دى بتاعى أنا و بس؟!..."
ناولها الهاتف و هو يجاهد لحفر ابتسامة على صخور شفتيه...و ينطلق معها ليكمل مراسم دفنه .