جريدة العهد/الصفحة الثقافية/العدد245/التاريخ/11/تموز/2012
هوامش نقدية علي ديوان ( نهرٌ قطعتْ أنفاسَه النارُ ) للشاعر العراقيّ علي العبّاديّ
في محاورة لي مع بعض الأصدقاء الأدباء - و هم من شعراء قصيدة النثر العربية - قلت لهم أن لدىّ اعتراضات , حول هذه القصيدة النثرية.
و لكنّي قلت لهم أن اعتراضي الأساسي , يكمن في نفطتين :
أولاهما : أشعر أثناء قراءتي لهذه النصوص , أنني لا أقرأ نصّا من بيئتنا , بل أقرأ نصّا مترجما !
و قد أقرّ الأستاذ أسامة سند بذلك فقال : (أزمتنا مع قصيدة النثر هنا انها قصيده ليست بنت مجتمعنا .. والنظريه الحداثيه لا تتفق مع المجتمعات الراديكاليه أمثال مجتمعنا .. أنا بنسبة ما أتفق مع هذا .. لكننا لا نستطيع أن نلغى المنجزات الضئيله اللى حققتها قصيدة النثر متمثله طبعا فى أسم على شاكلة (محمد عفيفى مطر) تلك حقا تجربه فريده فى القصيده العربيه .. ولا نستطيع سلب شاعريتها .. وأنا اعتقد اننى أفهم سبب اختلافك مع قصيدة النثر يا أستاذ عاطف .. أنت تتحدث هنا عن الخاصيّه الفارقه والمهمه بالنسبه لتواجد العالم الأيدولوجى من عدمه .. أنا بنسبه متفق معك .. ومتفق معك ان قصيدة النثر ليس لها منجز وانها تكتب للصفوه وانها قصيده غير جماهيريه وان بعض من يدعون الشاعريه يهتمون بالتركيبه المعقده الغير مفهومه حتى على مستوى صاحب العمل نفسه هربا من المساءله على النص .. هذه كل الأشياء اللى تفرق بين النثر والتفعيله وانا اتفق معك بنسبه كبيره .. لكن اختلف معك فى انك تعترض على وجود شكل ابداعى من الأساس .. )
ثانيهما : الإيقاع صفة أساسية للغة العربية , و من خواصّها التي لا يمكننا الهروب منها , و لا يمكننا تحطيمها بالكامل , و كفانا بالقرآن الكريم نموذجا للإعجاز الصوتي و البلاغي , ثم إن تراثنا الضخم من الشعر, ما ضاق يوما بأي موضوعات , يتناولها الشاعر, و أي حالة وجدانية , يكون فيها , بل و لا أظنني مبالغا , إذا قلت أنه لن تضيق , لغتنا المبهرة , عن استيعاب و إبداع كل ما هو جديد , مع الاحتفاظ بموسيقاها الغنية.
و برغم اعتراضي , إلا أني لا أستطيع إلغاء إبداع المبدعين , أو أن أتجاهله , و كأنه غير موجود , فهذا شئٌ مستحيل و غير جائز أخلاقيّا , و قد قلت أثناء الحوار : (: أنا لم أنكر وجود نوع فني , و لا أستطيع إلغاء وجوده ,
و ذلك ببساطة لأنه موجود! و قد قال بن خلدون : لا تنكرنّ ما ليس بمعهود عندك.. )
و من هذا المنطلق , لا أجد بُدًّا بين الوقت و الآخر, من أن أقرأ بعض النصوص النثرية , و أن أعلّق عليها , في محاولة للغوص , في بحورها و تلمُّس بعض ما فيها من جمال , و لذا أقدّم هذه الهوامش النقدية ,حول ديوان الأستاذ علي العبّادي.
أول ما نقرأ في الديوان, هو ذلك النص الملئ بالوجع و الصخب ( ضجيج ذاكرتي ...علي حسب قول الشاعر ) فانظروا إليه يقول :
( في ضجيج ذاكرتي
نهرٌ قَطَعت أنفاسَه النار
فاحترقت الأحلام بتلك النيران
وسط الماء لهيب لا إنساني
يحرق موجَه بعنفوان
ودَّعَنا اخضرارُ ذلك النهرِ
وحملنا الذكرىبنعش مزخرف بعطش ٍ الشوق
الذي لا
عندما تَفْتَح ستارة الانتظار
يبدأ عرض الوجع في فضاءات اللامعقول
أمِن المعقول وفي زحمة اللامعقول لا ترى(صرخة حلم)؟
هذه الصرخة ترجمة لروح غرقت بمياه تلك النهر
مازلت أبحث عن أوتار لآلتي الموسيقيّة الجرداء
حتى أُبحِر من خلالها في عوالم وردية
حتى أتمكن من تأليف معزوفتي الهادئة ) .
نحن هنا أمام حالة من الصخب و الضياع , و الألفاظ كلها تشي بذلك الوجع ( ضجيج – النار – احترقت – النيران – لهيب – يحرق – ودّعنا – نعش – عطش – الانتظار – الوجع – زحمة – صرخة – الصرخة – اللامعقول – غرقت - الجرداء ) سبع عشرة كلمة في سطور قليلة تلقي بثقلها و ألمها علي روح المتلقي , حتي كأنك تشعر بالوجع و اليأس, و أنت تقرأ النص ...أليس كذلك ؟
ثم و بعدها مباشرة ....في عدد أقل بكثير من الألفاظ يقول :
أبحر من خلالها في عوالم وردية
حتي أتمكن مع تأليف معزوفتي الهادئة
انتقال من حالة الصخب و الألم إلي حالة من الهدوء الورديّ الجميل في لفتة سريعة و ذكيّة من الكاتب .
كأننا أمام دراما , يتصاعد فيها موقف اليأس و الوجع , و لكن البطل ما زال عنده قبس من أمل ( ما زلت أبحث عن أوتار ....حتي أبحر....أتمكن من تأليف معزوفتي )
و لكن لست أدري لماذا استخدم الكاتب اسم الإشارة ( تلك ) حين قال :
غرقت بمياه تلك النهر
المفروض لغويّا أن يقال : ذلك النهر....و لكننا ألفنا ذلك التجاوز – أعني تجاوز القواعد المتعارف عليها – في قصائد النثر , و سوف أعود لشئ من هذا الأمر في قصيدة أخري للكاتب .
و يقول الشاعر :
رجعت جسداً راجلاً ما بين الملايين
منكسرة هي روحي
من الوقت الذي أصبح رمزاً للزمن ….
هنا أيضا حالة من اليأس و الانكسار توحي بها كلمة( منكسرة ) فتشعر كأن الشاعر / الإنسان عائد من معركة ماشيا علي رجليه بين ملايين من المهزومين مثله ....و من هزمهم هو الوقت ....ما أشرس عداوة و بطش الوقت !! وقد قيل في المثل : الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك
و إن كنت لا أفهم دلالة قول الشاعر :
الوقت الذي أصبح رمزا للزمن
فإننا نساوي ما بين الوقت و الزمن ( في الحس العام ) ...فهل هما شئ واحد ؟ أم هما شيئان مختلفان ؟
ربما مزيد من البحث اللغوي و الفلسفي يثبت لنا أن هناك فرقا بينهما ....من يدري !
و ثمة شئ لفت نظري هو قول الشاعر :
(الطبيعة تمردت
الربيع يأخذ مكانَ الشتاء هازئاً من مطرهِ
والخريف يتربّع على قلب
الصيف
فتتساقطُ فيه أروحنا القانية الحسيس
غطىّ رونق رَنِين الأطفال
كم أغرقتنا عواطفنا
بتواريخ مزّيفة؟......)
المقطع يدل علي انقلاب المقاييس و عدم الانتظام ( انقلاب المنطق ....فوضي وجوديّه) نحن بإزاء حالة من التمرّد تنتاب الطبيعة فالمنطق أمسي شيئا غير منطقيّ و التواريخ التي حفظناها صغارا و تعلمناها في مدارسنا كلّها مزيفة و غير حقيقية ( الشاعر عنده حالة من الغضب من واقعه – بل واقع الأمّة كلها – لدرجة أن حالة الزيف و اللامنطق تضيّع براءة الأطفال/ الشعراء ) و لكن هل يمكن أن تستمر حالة الفوضي هذه إلي ما لا نهاية ؟ إنها إذا استمرّت فسوف يضيع كل شئ و ينتهي كل شئ في الوجود ...لأن أحادية الرؤية أو سيطرة فكر واحد علي كل المقدّرات ينتهي حتما إلي الخراب المطلق ....و أظن هذا لن يكون أبدا – بإذن الله – و أعيد معكم قول الشاعر :
مازلت أبحث عن أوتار لآلتي الموسيقيّة الجرداء
حتى أُبحِر من خلالها في عوالم وردية
حتى أتمكن من تأليف معزوفتي الهادئة .
فلابدّ من وجود أمل ما ..حتي تستمر الحياة .
و يقول الشاعر :
ما بين بحث كلكامش عن عشبة الخلود
وانتظارك مسافة
هذيان الحلم خلاصته أنت في هذه الحياة
حرارة شمسنا
تجفّف الدمع على وجنات أطفالنا
استدعاء شخصية جلجامش و ملحمته الأسطورية و كأن هناك حالة من التعادل ما بين شاعرنا في بحثه عن أوتاره
(غرقت بمياه تلك النهرمازلت أبحث عن أوتار لآلتي الموسيقيّة الجرداء
حتى أُبحِر من خلالها في عوالم ورديةحتى أتمكن من تأليف معزوفتي الهادئة ) .
و بين جلجامش في بحثه عن عشبة الخلود ( جلجامش / الشاعر = الشاعر / جلجامش ) حيث أن الشاعر لا يتناص مع الأسطورة إلا من أجل نقل فكرة معينة أو حالة وجدانية يشعر هو و بالتالي يشعر المتلقي بحالة التعادل بين الشاعر و الشخصية الأسطورية .
وبم أن هناك بحث إذاً فهناك حالة من الانتظار ....و يصور الشاعر الحلم بأنه يهذي ...حرارة الشمس تجفف الدمع ( تجفيف الدموع شئ جيد و مطلوب لاسيّما دموع الأطفال ....و لكن هنا أشعر بعدم انضباط الصورة , حيث أن حالة الانتظار تستدعي نوعا من القلق و ربّما الدموع و الأحلام ....فهل تري تستطيع الشمس بدفئها أن تمحو هذه الدموع .
و يقول الشاعر :
و أنت حياً لا تُرزَق
تصبح نعشاً
وتحمل على أكتاف الشفاه
التي تسيل منها الكلمات كاللعاب
... أري أن التشبيه كان يكون أفضل لو بليغا ..الكلمات لعابا فإن التشبيه البليغ يجعل هناك درجة من التساوي بين المشبّه و المشبّه به فكأنهما شئٌ واحد .
و أسأل سؤالا :
و ما جدوي التقديم حيا لا ترزق ؟ ...الأولي أن نقول حيّ لا ترزق ( هذاأصح لغويّا و نحويا ....و لكن كما قلت من قبل فإن قصيدة النثر تتجاهل بعض القواعد اللغوية ....و لكن هل هذا التجاهل أو التخطّي شئ جائز ؟ )
يذكرني هذا المقطع بقول أدونيس :
لأنني امشي
أدركني نعشي
و لكن أدونيس هنا جعل الحياة طريقا يوصل للموت بم أنني أحيا إذا فإنني سأموت و يدركني نعشي و لكن في مقطع العبادي التصوير أفضل و أعمق أثرا و تشعر فيه بالدراما و الحركة
صمتي كلامي
وجهان لعملة جنوني
إنسانيتّي يتيمة المعنى
كغيمة تنوءُ بمطر الضجر……
حالة الجنون التي تذكرنا بالسيرياليين و أعمالهم الفنّية التي كثيرا ما تكون غامضة و مبهمة ...وأعجبني جدا قول الشاعر ( إنسانيّتي يتيمة المعني ) ولعلّ التأثر بالسريالية و الداديّة أحد أسباب
الغموض و الإبهام و عدم وضوح الدلالة في الشعر الحديث لا سيّما قصيدة النثر .
أحلامي تختبئ في مصحّات المجهول
واسم جنوني يرسم ظله على دخان العقول
المعقول يسهر من فرطِ سكرهِ
يوميّاً في اللامعقول
نهرُ قَطَّعَت أنفاسه النار
و راح يبحث عن كبريائه في وسط الهيجاء….
.الصورة المرسومة بالكلمات التي تعبر عن حالة من الابهام ( المجهول- جنوني - المعقول – اللا معقول –النهر – النار الجنون – العقول )....لفظة الهيجاء ( عربية الدلالة قُحّّة...فتذكرنا بالبيئة العربية الأصيلة و أشعار القدماء ) ....و ما زلنا نري أن الشاعر في حالة بحث عن شئ مفقود / تائه ( تعدد الشئ الضائع في ثنايا النصوص التي بين أيدينا....أليس كذلك ؟....و ما زال الشاعر يبحث ... )
أعيش في جزيرة
يابستها دَفنْتُ جسدي
وماؤها أغرقَ روحي
مواجهة أخري مع اللغة الملتبسة( عدم وضوح العلاقات اللغوية و بالتالي يحدث اضطراب في المعني و من ثم نوع من الالتباس و الغموض) ...هل اليابسة هي التي دفنت الجسد أم ان الشاعر هو الذي دفن جسده ( دفنتْ أم دفنتُ )
و قد تحدث الكتور عبد الرحمن محمد القعود في كتابه (الإبهام في شعر الحداثة ) عن تفجير اللغة و تحطيم العلاقات اللغوية كأحد عوامل الإبهام في شعر الحداثة قائلا :
"هذا العزل الاعتباطي للكلمات من معانيها , و تفريغها من دلالاتها المشتركة بين الناس و المألوفة لهم , و هذا الحشد غير المترابط للكلمات و العبارات و الجمل , هو في ذاته إبهام لغوي لا يمكن إلا أن يثمر إبهاما دلاليا " و تحدّث كذلك عن ظاهرة انخفاض المستوي النحوي و يقتبس قول جون كوين القائل : ( النحو هو الركيزة التي يرتكز عليها المعني , فبدءا من درجة معينة في المجاوزة بالعلاقة إلي قواعد الترتيب و الموافقة , تتهاوي العبارة , و تختفي القابلية للفهم ) و هذا هو نفس المعني الذي ذهب إليه علماء النحو العربي عندما قالوا : الإعراب درب المعني ....و كما يقول الدكتور عبده الراجحي – رحمه الله – النحو علم دراسة الجملة و العلاقات بين مكوناتها .
و قد لاحظت أكثر من مرة في الديوان أن الشاعر يكسر القاعدة النحوية المتعارف عليها فمثلا يقول :
حينما يعلُ صوت الضجيج
فوق دقّات الحُبِّ
لا تسمع سوى الفرار
رغم جودة الصورة الشعرية التي رسمها الكاتب إلا أن الخطأ – ربما يكون متعمدا- في قول ( يعلُ ) و الصواب ( يعلو ) و لا أري ضرورة شعرية و لا معنوية تجيز هذا التجاوز لقواعد اللغة .
و يضعنا الكاتب ببراعة أمام الثنائية الشكسبيرية المعروفة ( أكون أو لا أكون ) و لكن في ثوب جديد و بألفاظ جديدة حيث لا اختيار ثالث بل أنت أمام خيارين فقط و لا حل وسط .
يقول :
يجوز ولا يجوز
يجوز الموت
لا يجوز أن تحيا
و أختم هوامشي النقدية ( لأنها ليست دراسة كاملة للديوان –المجموعة كما يفضّل الشاعر ان يقول - ...بل هوامش و تعليقات وقفت عندها أثناء قراءتي ) بقول الشاعر :
الذكرى الأولى لرحيلي
رغم الأسى الذي يعتريني
ألوذ بكلمات شفتيها
على صوت نايها
لا أعرف من يرقص على همّ الأخر
تغازل دموع الأطفال
وتروي لهم حكاية الأمس
المجسدة بعذابهِم اليوميّ
راوية مهزوزة الروح
تدعى "الدنيا"
كم أوجعني هذا المقطع الذي برع فيه الشاعر حين جعلنا ندرك معه حقيقة الدنيا بأسلوب شعري جميل و في أقل عدد من الكلمات
لقد و ضعنا أمام دراما يومية جميعنا له دور فيها رغم كونها رواية مهزوزة الروح .