(( ألية الفلاش باك ... ورقي اللغة الروائية ))
قراءة في رواية (( الجاسوس 388 )) للروائي / عبد الله يسري
كتب إبراهيم موسى النحـّاس :
من بين موضوعات الرواية المختلفة هناك نوعان يحتاجان إلى جهد خاص من المؤلف , وشيء من المشقة في كتابتهما , وهما : الرواية التاريخية ورواية الجاسوسية , والثانية بوجه خاص تحتاج إلى جهد أكبر نظراً لقلة ما أنتجته الحركة الروائية العربية في هذا النوع , وصعوبة الحصول على الوثائق المطلوبة لتكملة أحداث الرواية , وضرورة فصل المؤلف ما هو وثائقي عمـّا هو فنيّ لتذوب الوثائق في نسيج أحداث الرواية وتتحول إلى جزء أساسي من أجزاء بناء الرواية الفنيّ دون أن يشعر القارئ أن هذه الوثائق مفروضة على النص .
ورواية (( الجاسوس 388 )) للروائي عبد الله يسري والصادرة عن دار( الشروق ) للنشر والتوزيع تنتمي إلى ذلك النوع من الروايات , ويُحمد للمؤلف اختياره الموفق لموضوع الرواية الذي يؤرخ لفترة هامة في تاريخ مصر الحديث , وهي فترة الستينيات من القرن الماضي , حيث الصراع العربي الصهيوني , ودور الجاسوسية في تشكيل هذا الصراع والتأثير على طبيعته .
جاءت الرواية في أربعة فصول قبلها مقدمة تتخذ أهميتها من اعتبارها مدخلاً لفهم الرواية بدرجة تجعل هذه المقدمة رغم قصرها أول فصول تلك الرواية .
تناولت الرواية قصة الجاسوس ( يوهان فولفجانج لوتز ) وزوجته ( فالترود ) الذين قدما إلى مصر عام 1960 ونجح لوتز في التوغل في نسيج المجتمع المصري , وعمل صداقات قوية مع شخصيات هامة في الجيش المصري برتب جنرالات ولواءات وضباط , كما نجح في استخلاص معلومات عسكرية هامة منهم , وضلوعه بتكليف من الموساد الإسرائيلي في عملية ( بوفون ) التي استهدفت الخبراء العسكريين الألمان العاملين في تطوير منظومة الصواريخ بمصر في تلك الفترة , من أجل زعزعة الأمن والاستقرار بها , وقطع الطريق أمام استفادتها من الخبرات الأجنبية في المجالات العسكرية , إلى أن يتم القبض عليه هو وزوجته أمام باب فيلتهما بمنطقة الهرم بعد عودتهما من زيارة قاما بها لصديق لوتز (( اللواء يوسف العدل )) محافظ مطروح , لنكتشف مدى يقظة جهاز المخابرات العامة المصرية , حيث إن ( لوتز) كان مراقبا منذ أول لحظة نزل فيها أرض مصر وكانت كل تحركاته مرصودة حتى لحظة القبض عليه . كذلك تُظهر الرواية مدى براعة رجال المخابرات المصرية خصوصا الرائد صلاح والضابط (( سمير ناجي )) ذلك الأخير الذي تمكن من اختراق فيلا ( لوتز ) أكثر من مرّة , والحصول على كل ما يريد من معلومات من قلب بيته ومكتبه , بل ومراقبة كل تحركاته حتى خارج مصر, كما سبب له الكثير من الرعب عند التحقيق معه ومحاكمته ثم إيداعه السجن بعد ذلك .
ويتم الإفراج عن ( لوتز ) أو جاسوس الشمبانيا كما كان يُطلق على نفسه بصفقة تبادل للأسرى مع الإسرائيليين , تقضي الصفقة بالإفراج عن عشرة من الإسرائيليين من بينهم لوتز مقابل عشرة آلاف جندي مصري وتسعة لواءات , وكانت تلك الصفقة بموافقة من رئاسة الجمهورية .
وقد نجحت الرواية في رصد الكثير من مساويء المجتمع والنظام المصري في تلك الفترة حيث تداخل الاختصاصات , وقمع الحريات من البوليس السياسي الذي اخترق كل طبقات المجتمع :
(( ممثل البوليس السري : حنكون أول من يلقي القبض عليه يا أفندم . إحنا عنينا على العامة وعلى الكل , عيونا منتشرة في كل مكان , جرسونات , باعة جائلين , شحاذين , حراس العمارات , باعة الجرائد , حتى المثقفين والفنانين )) الرواية ص 21
كما فضحت الرواية بعض كبار رجال الجيش المصري الذين نجح ( لوتز ) في خداعهم وكسب صداقتهم وثقتهم وإغراقهم بالهدايا , وسكرهم في الحفلات والسهرات بدرجة تدفعهم لإخراج أسرار عسكرية هامة ينجح ( لوتز ) في استنطاقهم بها دون وعي منهم رغم علو مناصبهم , فنجد جنرالا مثل ( عبد السلام ) يقول للوتز في إحدى السهرات في فيلا لوتز وهو يتحدث عن مدينة السويس:
(( لا شيء , فكما تعلم هو مكان مهم , لقد كنا ننقل فرقة مدرعة وكنت أنا كالعادة حاضنة أطفال لمجموعة من الضباط الصغار غير الأكفاء )) الرواية ص 46
أو قوله أيضاً : (( إننا نمتلك من المعدات الحربية ما يجعلنا نمتلك الشرق الأوسط بأكمله , لكن ليس هذا كل شيء , فحالة الجيش والضباط مخزية , إنها الحقيقة , جمال عبد الناصر والجنرالات الساميين لا يدركون ذلك )) الرواية ص 46
أو عند زيارة لوتز لصديقه اللواء يوسف العدل محافظ مطروح في عزبة الثاني , حيث الترحاب الشديد على هذا النحو :
(( وعند مدخل العزبة فوجئ الجميع بفرقة من الحرس المسلحين يقفون في تشكيل بالبنادق بالقرب من البوابة ويُحيـّون الضيوف مع صوت البوق , وظهر اللواء يوسف وهو ينزل درجات السلم مبتسماً في وجه ضيوفه مُرحباً بهم , وبعد تناول الغداء وتبادل عبارات المرح بين الجميع , حاول اللواء يوسف إقناعهم بالبقاء مدة أطول من اليوم الواحد الذي ينوون مكوثه قائلاً : يا رستي ماذا ؟ يوم واحد ؟ لدي من وسائل المتعة هنا الكثير , دعني أرد لك بعضاً مما أنا مدين لك به أرجوك ))
الرواية ص 129
حتى عندما اخترق لوتز وزوجته قاعدة عسكرية سريـّة مصرية في وضح النهار لمعرفة بعض المعلومات عنها إذا بالعقيد ( حسن فكري ) وهو رتبة كبيرة في جهاز أمن الدولة المصري واللواء ( عثمان ) من الجيش يتصلان بقائد القاعدة العسكرية ويطلبان منه الإفراج عن لوتز وزوجته , بل ويعتذر قائد القاعدة العسكرية و يودع لوتز قائلاً : (( إن اللواء عثمان مغرم بك كثيراً , إنه لشرف لنا أن نستضيفك يا سيادة العقيد لوتز )) الرواية ص 96
هذا التعامل الساذج , وتلك الثقة الغير مسئولة من رجال كبار في الجيش لثعلب نجح في اختراقهم وكسب و ثقتهم مع مهارته ,كل هذا يعكس بعض سلبيات تلك الفترة :
(( لقد اكتسب لوتز دربة عالية في ملاحظة الأحداث والتعرف على اتجاهات الرأي العام المصري , وعلى تحليل المواقف , وحتى النكات التي يطلقها رجل الشارع , ولم تسلم صفحة الوفيات وكذلك الحوادث من قراءة متفحصة يقوم بها لوتز ويستخرج كمـّاً من المعلومات بحرفية شديدة )) الرواية ص 120
ومع خطورته الشديدة لكن يقظة المخابرات المصرية كانت أكبر من كل هذا . كما تناولت الرواية بعض جوانب الحياة الاجتماعية بمصر في تلك الفترة , وسلطت الضوء على حياة بعض اليهود المصريين , وحبهم لمصر وذوبانهم في نسيج المجتمع لدرجة رفضهم كل محاولات التهجير لفلسطين مهما كانت التهديدات , وكانت شخصية ( شحاتة هارون ) الذي وصفته الرواية بأنه (( اليهودي المصري الطيب )) الرواية ص 38 مثالاً لليهودي الذي أحب وطنه مصر , ورفض الخروج منها كما رفض الانصياع لتهديدات المنظمة الصهيونية بسبب موقفه من الهجرة .
وقد اعتمد مؤلف الرواية على آلية ( الفلاش باك ) أى استدعاء أحداث الرواية عن طريق الرجوع إلى الماضي من ذاكرة الراوي أو الشخصية المحورية في الرواية , وتبدأ الرواية بفيلا ( لوتز ) في تل أبيب عام 1972 بعد انتهاء الحدث الأساسي للرواية حيث نجد لوتز يستقبل صاحبي دار نشر يتفقان معه على نشر مذكراته عن فترة نزوله مصر حتى تلك اللحظة , كذلك يستقبل ( بيتر جينجز ) من شبكة N.B.C الأمريكية لعمل حوار معه حول قصة حياته في مصر , وتنتهي الرواية بانتهاء هذا الحوار التليفزيوني , في بناء ( تدويري ) للرواية يعكس وعياً كبيراً لدى المؤلف بأهمية العلاقة بين عملية الفلاش باك وموضوع وزمن روايته .
وقد جمعت الرواية بين لغتي السرد والحوار , وأجاد الكاتب توظيفهما , ولعل مما يلفت النظر في هذه الرواية على مستوى اللغة هو قدرة الكاتب على رسم الشخصيات رسماً مقنعاً , كذلك الاهتمام بوصف المكان بأدق تفاصيله , فيتحول المكان إلى مشهد مكتمل العناصر يسهل تخيله في ( بورتريه ) لغوي ممتع :
(( اقتربت الساعة من التاسعة مساءً , واكتست شوارع القاهرة بسحر الليل , وصوت سيدة الغناء العربيّ .. حفلة غنائية في حديقة الأزبكية .. حضور غفير من المصريين وبعض الجنسيات العربية .. الناس في المقاهي يستمتعون إلى كلمات وألحان وصوت يحبونه ويتآلفون مع كل أغانيه بسرعة )) الرواية ص 20
ثم يكمل وصف شارع عدلي في تلك الساعة قائلاًً :
(( مع كل هذا الجمال الذي يعيشه المارة في شارع عدلي إلاّ أن حالة من الهدوء المخيف والترقب والحذر تشوب المكان وخاصة بالقرب من المعبد اليهودي , أمام باب المعبد الرئيسي على الرصيف المقابل بائع جرائد .. بعده بعشرة أمتار ماسح أحذية يقف أمام عمارة في الدور الثالث منها شقة غير مسكونة .. لكنها تُفتح فقط بمعرفة حارس العمارة لدقائق معدودة في كل شهر .. شق هذا الهدوء المخيف صوت بائع جرائد متجول يقول : أخبار .. أهرام ..جمهورية .. اقرأ أخبار القبض على الجاسوس توماس )) الرواية ص 20
ومن الجوانب التي تعكس حرفية ووعي الكاتب في بناء روايته تنوع الأماكن في الرواية وانتقال الأحداث من مكان إلى آخر دون أن يخل ذلك ببناء الرواية الفنيّ أو يصيبها بشيء من التفكك . فقد تنوعت أحداث الرواية وانتقلت بين تل أبيب و برلين وباريس ومقهى الصيرفي بالقاهرة وميناء الإسكندرية ونادي الفروسية بالجزيرة والهرم وحارة خميس العدس وشارع عدلي وكوبري القبة ودار القضاء العالي وحلمية الزيتون وسجن القناطر وسجن طرة وبيونس أيرس بالأرجنتين .
واختلف مع الكاتب فنياً في بعض المواقف التي فرض فيها المؤلف فكره على الحدث بشكل مباشر دون توظيف مثل قوله :
(( من الصعب على الإنسان أن ينفك عن حياته الأسرية ومشاكله الخاصة وقت عمله لكن هناك نوعاً من الوظائف يتطلب الفصل التام بين الحياة الشخصية ومجرد دخول باب المكتب حيث يعمل الرجل )) الرواية ص 75
كذلك اختلف مع طبيعة الحوار الذي دار بين مصطفى امين ولوتز في السجن والحوار الذي دار بين لوتز والهضيبي رجل الإخوان (ص 223) لإحساسي بغياب الإقناع الفني عن هذا الحوار , إذ ليس من المنطقي أن يلاقى جاسوس يقضي فترة عقوبته في السجن بهذه الحفاوة وذلك الترحاب من تلك الرموز الوطنية .
لكن تبقى هذه الرواية بسبب طبيعة موضوعها , وآليات بنائها الفنيّ , ولغتها الروائية الراقية بصمة قوية في نتاج عبد الله يسري الروائي , وإضافة جادة وتثبيت واع لأدب الجاسوسية الذي يعاني من قلة الأقلام الروائية التي تناولته موضوعاً لها على الساحة العربية .