((ديوان حُلة حمراء وعنكبوت. قيم إنسانية وجمالية ))
قراءة / إبراهيم موسى النحـّاس
تتميز الحركة الشعرية الآن بوجود عدد من الأصوات الشابة التي تحاول بجرأة أن تبتعد عن كل ما هو مجاني ومستهلك في بنية النص الشعري , وتحفر عن قصد رؤيتها حول بنية القصيدة , بل وتعلن تمردها بوضوح على الأنساق الكتابية السابقة التي تجنح إلى الاهتمام باللغة التي تقوم على المجاز بمفهومه البلاغي القديم , والموسيقى العالية , واللهجة الخطابية المباشرة في التعبير عن رؤية الشاعر .
ومن هذا المنطلق أصبح التعامل مع النص الشعري يتطلب النظر إليه من زاوية جديدة مختلفة تماما عن التناول التقليدي بحيث لا تفرض القراءة النقدية على النص أية أيديولوجيا أو نظرية نقدية مسبقة بل يجب استكشاف النص من الداخل ليعلن النص وحده ووحده فقط عن جمالياته لآن الكتابة الحقيقية لدى هؤلاء الشعراء أصبح لها مفهوماً جديداً حيث صارت (( تُعرف بمستواها الرفيع وبمضامينها المثيرة للجدل واستنفار الأسئلة الجادة حول الإشكاليات الحقيقية المطروحة على عقل الأمة وليس مطلوباً من هذه الكتابة الحقيقية أن تقدم أجوبة سابقة التجهيز ينصرف عنها القارئ لأنه يعرف أنها ليست كافية بحال من الأحوال لإشباع حاجاته العقلية ذلك الإشباع الذي لا يكون إلاّ إذا شارك القارئ نفسه في صنع إجاباته )) ( 1 ) .
والشاعرة ( هبة عصام ) من ذلك الجيل حيث تؤكد في ديوانها الأول ( حُلة حمراء وعنكبوت ) نضج تجربتها الشعرية , وامتلاكها الواعي لأدواتها الفنية , و تؤصل لتوجهها الإبداعي الذي يؤمن بقصيدة التفعيلة في ثوبها الحداثي القائم على التعبير عن الذات , واستخدام المعجم الشعريّ الخاص بها والمختلف كثيراً في مفرداته ودلالاته عن تجارب تفعيلية سابقة , إضافة إلى التجديد في الصورة الشعرية .
يعرض الديوان الذات الشاعرة كحالة إنسانية وجودية , فتطل الذات علينا في مختلف لحظاتها وتناقضاتها البشرية بين تمردها حيناً , وضعفها ورغبتها في الهروب حينا آخر, وإن غلبت الذات المتمردة على معظم قصائد الديوان بداية من غلافه الذي فضـّل أن يكون المقطع الشعري في واجهته الأمامية وليس في الجانب الخلفي من الغلاف , كإشارة رمزية على ذلك التمرد بالدرجة التي تجعل هذا المقطع التصديري على الغلاف الأمامي للديوان يوحي به:
((في الشُرفة جِنِّيٌ أسمرْ
يتقلد تاجاً فضِّياً
العينُ اليمنى شاخصةٌ نحو اللاشيءْ
واليسرى يسكنها الحلمْ
في كل صباحٍ أَرقبُهُ
يتسلق درجات الشمسْ)) ( 2 ) .
هذا الجني الأسمر يتمرد على الواقع وتتحول عيناه إلى نتوء في جبهة الزمن الصخري فلا يغريه شيء فتقول في قصيدة ( ما هو لي ):
((العرّافةُ لا تُغريني الآنَ
ولا الأبراجُ
ولا الصَدَفُ المسكونُ بصوتِ الموجِ
وطعمِ الملحِ
ورائحةِ الحلمِ الغجريْ)) (ص 7 )
ذلك التمرد الذي يدفع الذات رغم افتراشها الحياة كما هي إلى محاولة التغيير الكامل حتى ولو كان هذا التغيير على حساب راحة الذات وسعادتها كما في قصيدة ( غيبوبة ) :
((أرتد أسئلةً يموءُ جنونُها
وأعود أفترش الحياةَ كما هي:
أحلامي البكماءُ بيتٌ من دُمَى
وصدى الخواءِ يلوكُني..
فلم التعجبُ حين أُزعِجُ غفوةَ الأيامْ
أو أكسر الكرسيَ كي لا أستريح؟!)) (ص 16 ).
ولعل اختيار الشاعرة لعنوان قصيدة ( حُلـّة حمراء وعنكبوت ) ليكون عنواناً للديوان , اختياراً موفقاً , حيث تبدو شخصية كارمن المجسدة لروح التمرد على كل شيء : على الخوف , و التهميش , والتمرد على الأمن تحت الظل , وتبين رغبتها في الصعود فوق المارة والأقزام , وتأبى خفض الرأس وحبس المرأة في كهف حجري , ترفض وصفها بالضعف, حتى لو ضاق العالم بها , لأن لها أنصبة وفكر يختلف حتى عن تفكير العقلاء, أي التمرد إلى حد الجنون , لكنه الجنون الجميل الذي يدل على النرجسية بقدر دلالته على إيمان الذات بنفسها وطاقاتها فتقول في القصيدة التي حمل الديوان عنوانها الديوان:
((نَمِراتٌ من غاباتِ الجنْ
تتسلق عقلَ الصاخبةِ الشهباءْ
جَمَراتٌ تحرِق بردَ الروحِ
ومسُّ جنونْ
ولكارمن عاداتٌ حمقَى
تَدخُلُ حُلَّتَها الغجرية
ترقص
يتطاير ما فوق الجسد الرافض
تتحررُ من صَمغِ الخوفْ
تصعدُ فوق المارةِ والأقزامْ
شامخةً)) (ص 22-25 )
حتى مجد المساء يتحول إلى طيش ونار وحزن, ومع تمرد الذات على هذا النحو واعتدادها بنفسها وإيمانها بقدراتها وطاقاتها , ينزل الآخر من عرشه , وتسقط القداسة عنه , على نحو يؤكد اعتداد هذه الذات بنفسها , ومع ذلك تُشد إليه لأن الحياة لا تقوم إلا بهما معا في قصيدة ( حالما يحتضر الوقت ):
(( وأعلم أنك
لست القوي الذي تدّعيه
وأنك
أكثر أهل المنافي ضعفاً وخوفاً
وأنك
مَدُّ لجرح المسيح
مرارة لوركا
وأحزان حابي )) (ص 29 )
وفي لهجة أكثر عنفاً وقوة تصرح الذات المتمردة معلنة عن نفسها بكل وضوح في قصيدة ( وأمضي ):
((هنا كنتُ
هنا سأكونُ عبر رحيليَ الأبديَّ مُخترِقاً
مدارَ الثلجِ والنارِ
أنا نَـزَقٌ يُراقِصُ لَحنُهُ الغجريُّ
بعضَ جنونيَ العاري)) (ص 57 ).
وظهور الذات الشاعرة في الديوان على هذا النحو يبدي جانباً آخر من سماتها ولو بشكل رمزي غير مباشر وهو شعور تلك الذات بالتشيؤ وعدم الانسجام مع الواقع نتيجة رغبتها في الوجود والتحقق ووجود معوقات من نوع ما تُحد من طموح هذه الذات وهنا أتذكر تناول أحد الباحثين لعلاقة النفس الإنسانية بالاغتراب فيقول (( هناك ثلاث سمات تمثل الطبيعة الجوهرية للإنسان : الفردية , والاجتماعية , والحساسية المهذبة . واغتراب الذات يتخذ شكل نزع إنسانية الإنسان في مجالات الحياة المقابلة لتلك السمات وهي الإنتاج أو قدرة الإنسان على تشكيل وتغيير بنية الواقع وقدرته على الخلق والإبداع . والحياة الاجتماعية أي علاقة الإنسان بالآخرين . وأخيراً الحياة الحسية أو الإشباع الحسي والنزوع الجمالي . وعلينا أن نفهم اغتراب الذات من خلال تلك المجالات الثلاثة ))( 3 ) .
وقد يعتقد البعض أن الديوان يُعبّر في مجمله عن ذات متمردة فقط , لكن بالمزيد من التأمل في نصوص الديوان نجد الديوان يعرض لنا قيمة وبعداً إنسانياً للذات في مختلف جوانب حياتها , في عرض وجودي للذات بكل ما تحمله قيمتها الإنسانية من تناقضات لنجد أنفسنا أمام حالة إنسانية كاملة ومكتملة الزوايا , فبجانب تلك الروح المتمردة نجدها تصف نفسها بالعجوز المُرهقة في قصيدة ( كانت أنا ), ونلاحظ معاً القيمة الرمزية للفظة العجوز حيث ضعفها وربما عجزها عن الفعل أو التغيير كما أظهرت ذلك قصيدة ( كانت أنا ):
((تلك العجوزُ المرهقةْ
بملابسٍ سَوداءَ ترمق بعضَ أشيائي الصغيرةْ
تمضي بأمتعة الرحيلْ
برعونة المذعور أركضُ خلفها
تخطو كرعبٍ في دمي
أدنو؛ فتختلج الخُطَى
ترنو إليّ .. تحل بي
رباه ما هذا الجنون..
كانت أنا..!)) (ص 43 )
كثيرا في لحظات الضعف الإنساني ما يلجأ الإنسان للهروب , ويأخذ الهروب صوراً متعددة منها الهروب إلى الماضي أو الطفولة أو الهروب إلى الحلم أو الهروب إلى الذات نفسها هرباً من واقع أليم وعجز عن التحقق للذات أو للأحلام أو لكليهما معا, وهنا الشاعرة تختبيء أي تهرب في شيء مختلف وجديد تماماً في ( عابرة ليلية ):
((نامت في زاوية الحائطِ
صرخَتْ؛ فارتعدت أبنيةُ الشارعِ؛
أطفأتُ المصباحَ الخافتَ والتلفازْ
ونظرتُ من الركن الضيقِِ
في نافذة الغرفةْ .
.
يخرج حارسُنا الليليْ
تتوسلُ أن تَبقى/
يتركها ويمررُ ثقلَ اللحظاتْ
فتعود الصرخةُ توقظ بومَ الليلْ
أَختبئُ قليلاً خلف ستارِ النافذةِ البكماءْ)) (ص 70– 71 )
كما نجد الذات الممزقة والتي تشعر بالجبن وتصرح بان وقتها انتهى , تصرح بالموت في حالة إنسانية حزينة مقهورة مختلفة تماماً عن لوحة التمرد في النصوص السابقة عليها فتقول في قصيدة ( وقفة ):
((في داخلي عمرٌ جبانْ
طيرٌ يبعثر ريشهُ كي لا يطيرْ
ويفلسف الأشياءَ مِن تحت القممْ
أوراقيَ البيضاءُ تسخر مِن يَدِي
هل كان يجدر بي مقايضةَ الأناملِ بالقلمْ..؟
هَذيِ أناي ممزقةْ
فَلِمَ التساؤلُ كيف ماتت
بين أوردة الحياة بمعصمكْ؟..
دَعْ عنك أقنعةَ التكبر وابتسم
أرأيت عصفوراً يغرد: "هيت لك!"؟
كلٌ سينبشُ وجهَهُ..
وقتي انتهى،
الدور لك.. )) (ص 66-67 )
هنا تتضح علاقة الذات بالآخر الذي يمثله الواقع المعيشي لتلك الذات فمهما بدا الديوان ذاتي النزعة لكن الذات هنا تبدو باعتبارها إحدى مفردات هذا الواقع ليصبح التعبير عنها هو تعبير ضمني عن ذلك الواقع فالشعر كما قال المازني هو : (( مرآة الحقائق العصرية لأن الشاعر لا قبل له بالخلاص من عصره والفكاك من زمنه ولا قدرة له على النظر إلى أبعد مما وراء ذلك بكثير فحكمته حكمة عصره وروحه روح عصره ))( 4 ) وبغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع المازني حول عدم قدرة الشاعر على النظر إلى أبعد مما وراء عصره لكن كلامه يؤكد قوة علاقة الشاعر بواقعه وعدم قدرته على إغفال هذا الواقع داخل النص الشعريّ .
وتكتمل الحالة الإنسانية باستشراف الذات وتنبؤها بالمستقبل مما يؤكد أن الديوان وحدة متكاملة فنياً ودلالياً , وليس ثمة تناقض بين بعض نصوصه التي عرضت الإنسان في مختلف مراحل أحاسيسه ورؤاه وتناقضاته في ( عابرة ليلية ):
((الروحُ الـ كانت هائمةً في قلب الليلْ
تعلم ما يخفيه الصبحُ القادمُ
ناحبةً كانت،
تتوسلُ قَدَرَاً آخرَ
خاتمةً أبعدْ
…. قُضي الأمرْ)) (ص 74 ).
ولتلك القيمة الإنسانية بالنص علاقة وطيدة بمفهوم الشعرية ومدى تحققها حيث يرى البعض أن (( الشاعرية في جملتها في أي جيل من الأجيال عبارة عن نقد لمقدار ما حققه هذا الجيل في طريقة معيشته وفي إيمانه ونظمه من الصفات العامة للحياة الإنسانية ))(5 ) وبهذا المفهوم يمكن القول إن الديوان في تعبيره عن الذات كحالة إنسانية وجودية في مختلف حالاتها المعيشة يحمل قيمة شعرية لا تقل عن القيمة الإنسانية التي نجح في التعبير عنها .
وعلى المستوى الفني نجد الصورة الشعرية في الديوان تقوم على التجديد سواء باستخدام الصورة الجزئية المبتكرة , أو باستخدام الصورة الكلية التي تهتم بالسرد وذِكر التفاصيل الدقيقة , لتتحول القصيدة إلى مجموعة من المشاهد السردية التي تستفيد من خيال الشاعرة وثقافتها مع الاستفادة من فنون أدبية أخرى مثل القصة القصيرة والرواية إيماناً من الشاعرة بأن ((الخيال في الشعر , إنما يكون إبداعياً لأنه يدمج ويوحد , ويفني ويخلق , ويهدم ويبني , ويفكك ويركب , وهو على هذا النحو إنما يمارس في الشعر حرية بلا حدود ))( 6 ) وتنتشر الشواهد في الديوان تحمل صوراً جزئية جديدة مثل قولها في قصيدة ( قبل الفجر ) :
(( وأطلق طير الحب يثرثر في قصص الأطفال )) (ص 38) أو قولها في قصيدة ( اسكتش ص 49-51) : (( القلب تحت الطبع في ركن المجرّة )) أو قولها في نفس القصيدة : (( شباكي المهجور في كراسة الرسم سأطل منه )) وهكذا نجد الصورة الشعرية المبتكرة التي تنم عن موهبة حقيقية ورغبة في التجديد ينأى عن الصور المستهلكة والقوالب الجاهزة بل وتتعدى الصورة الجزئية إلى الصورة الكلية بكل تفاصيلها في لوحة فنية مكتملة العناصر والتفاصيل تعرضها قصيدة ( قبل الفجر ):
((سأوغل في عبث الأوراق الملقاة
على رفٍ مهجورْ
وأشاكس ما خطَّته يداك
فأُوقظ أخيلةً و سطورْ
وسأمرح في فوضاك المثلى
ملابسِك المهملةِ يمينا و يسارا
أقلامِك
عطرِك
لوحاتِك
وبقايا حلوى غافيةٍ
بجوار سريرٍ مخمورْ
)) (ص 39)
واعتمدت الشاعرة على المفارقة في بعض القصائد , لتبرز من خلالها رؤيتها الخاصة , وسخرية الذات من الواقع لتمردها عليه مع رغبتها في الوجود والتحقق والتغيير بقصيدة ( وأمضي ) :
((أنا أَرَقٌ
تَمرَّد ظِلُّه المصلوبُ فوق عقاربِ الزمنِ
وأَرَّخَني
نقوشاً بين أسفاري
إذا أبصرتُها ..
تَرتجُّ ذاكرتي
وتُومِضُ مفرداتُ الروحِ الـ كانت مُبعثَرةً
لتـُشعِلَ نشوةً أخرى
أُعانِقُها ...
و أرتحـِلُ ...)) (ص 59 )
بهذا التشكيل الفني للصورة , وانفتاح النص دلالياً ليعكس الذات الإنسانية في مختلف حالاتها يمكن القول بأننا أمام ديوان يعلن بقوة عن شاعرة تجيد امتلاك أدواتها الفنية وتخطو بقصيدة التفعيلة إلى آفاق حداثية رحبة عن وعي بأهمية الصوت الشعري الخاص والبعد عن المُستهلك والمألوف والمُتاح على الساحة .مما يدفعني لترديد مقولة ( أدونيس ) : (( إننا كي نخلق قصيدة جديدة لابد أن نخلق أيضا قارئاً جديداً والقارئ الجديد لا تخلقه إلاّ الثقافة الجديدة ))( 7) لذا كان التعامل مع النص الشعري الجديد يحتاج إلى قراءة النص من داخله لا من خلال فرض أطر جمالية واتجاهات نقدية من خارجه عليه .
الشواهد :
1- ( حداثتنا المحاصرة ) د / مهدي بندق . ص 46 ,سلسلة كتابات نقدية العدد 131 ,الهيئة العامة لقصور الثقافة , مصر .
2- ( ديوان حلة حمراء وعنكبوت ) الشاعرة :هبة عصام , الطبعة الأولى ,2008دار شرقيات للنشر ,القاهرة .
3- ( الإنسان وحيداً ....دراسة في مفهوم الاغتراب في الفكر الوجودي المعاصر ) د/ حسن حماد ص42. مكتبة الشباب , الهيئة العامة لقصور الثقافة الإصدار رقم 39 . القاهرة ديسمبر 1995 .
4- ( الشعر ...غاياته ووسائطه .. نص كتاب المازني مع دراسة وتحليل ) د/ مدحت الجيار ص 35. دار الصحوة القاهرة 1986.
5- ( الحياة والشاعر ) تأليف ستيفن سبيندر وترجمة د/محمد مصطفى بدوي ص 51مكتبة الأسرة ( أمهات الكتب ) الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001.
6- ( الولاء والولاء المجاور ) د / عبد الحكم العلامي ص 162 . سلسلة كتابات نقدية العدد 132 , الهيئة العامة لقصور الثقافة , جمهورية مصر العربية .
7- ( من حوار مع الشاعر أدونيس ) مجلة القاهرة ص 74 , في 15 يونيو سنة 1988.