الشاعر قيمة إنسانية

هذا جزء من مقال نشرته حول قيمة الشاعر الإنسانية ومكانته السامية

إذا كنا هنا بصدد الحديث عن الشاعر ؛ فعلينا أن نبين أهمية الشاعر ومكانته , وإذا كنت قد عبرت في قول سابق أن الشاعر هو الراعي الرسمي لكل الفنون وهو القادر على سبر أغوارها جميعا فلم أكن متزيِّدا في ذلك بأي لون من ألوان التزيُّد .. فالشاعر الشاعر هو من يجعل من نفسه حاملا للواء اللغة والفكر وبكليهما تحيا الأمم .. فلم نعلم عبر التاريخ أن أمة قد حيت ونبضت بصنوف التقدم وألوان التحضر بغير اللغة والفكر .. والشاعر هو الحامل للواء هذين العمودين الفِقْريَّيْنِ اللذين يحملان كل هذا الثقل
وكما قلت آنفا : ليس كل من نظم شاعرا وليس كل من صف الحروف شاعرا ... فحين استحضرت نظرية عبد القاهر الجرجاني المسماة بـ ( نظرية النظم ) إنما كنت أريد أن أبين أن هناك ممن يدعون الشعر من ينظم الكلمات دون أن تنضج تلك الكلمات في داخل نفسه في صورة تراكيب يمتزج فيها الفكر والوعي اللغوي والوجدان والقدرة على الربط واستحضار المخزون المعرفي ... إن الشاعر الشاعر قيمة كبرى قدرتها الأمم الراقية وعرفت مكانته الحقيقية حيث جعلت منه هادي الأمة وحاديها ودفعت بعض الأمم إلى منحه مرتبة النبوة ولنا في ( بوذا ) خير دليل على ذلك
وقبل كل هذا نجد الها تبارك وتعالى ينزل من عليائه ليقبل التحدي والله في جلاله لا يقبل إلا بتحدي أعتى خلقه وأقواهم وأقدرهم على تدبر موطئ التحدي والقبول بالهزيمة أمام الخالق لأنه بقوته وقدرته سيقدر حق التقدير كلمات الخالق المعجزة في قرآنه الكريم .. فاختار الله الشاعر لينزل عليه كلماته من السماء فأنزل القرآن على النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – ليبلغه أمة الشعراء لأنه حكمة الله قدَّرَتْ أن هذا الشاعر هو القادر على فهم ذلك الإعجاز اللغوي وليس غيره بقادر على فهم الإعجاز الفكري اللغوي العلمي الكائن في القرآن الكريم
ولكي أبين قيمة هذا الشاعر وقدرته على تدبر أمر الحرف والكلمة وقدرته على تدبر أمر التركيب اللغوي علي أن أبين أن اللغة العربية دون كافة اللغات قد خصها الله بصفات في حروفها وكَلِمِهَا لا توجد في لغة أخرى ... ومن يحمل هذه اللغة بين جنبيه إنما يحمل إعجازا لا يقدر سواه على حمله
إن تلك اللغة التي يحملها الشاعر بين جنبيه إنما هي هندسة ومنطق وميزان وصوت وسيمياء المبانى وسيمياء المعانى .... إلخ
أتعلمون أن القليلين النادرين من هم يعلمون على سبيل المثال لا الحصر أن للأبجدية العربية هندسة وضعها المناطقة الأولون تثبت أن للرسم الهندسي للحرف العربي معنى يدعم المعنى النفسي والفكري للناطق بهذه اللغة ؟
وهذا ليس أمرا جديدا فمن يبحرون في الدراسة الألسنية للغة يدركون أن للغة معان هندسية تعد من النوادر التي تحير العقل
فالحاء في اللغة تساوي عددا من الجرامات والقاف تساوي عددا مضاعفا من هذه الجرامات وحين اشتق العرب ألفاظهم راعوا ميزان هذه الحروف فنجدهم مثلا يقولون ( فلح ) – ( فلق ) و[ فلح ] للأرض التي هي تراب لا تحتاج إلى ثقل غزير لتقليب التراب فاستخدموا الحاء و [ فلق ] للصخر الذي يحتاج ثقلا شديدا كي نعمل فيه فعل الفلق ... وحين نقول " قل أعوذ برب الفلق " فإن الآية الكريمة استخدمت مادة [ الفلق ] وليس [ الفلح ] إثباتا لقوة الفعل الصادر من الله عز وجل
وإننا حين نقول ( قطف ) – ( قطع ) فالفاء في قطف أخف وزنا من العين في قطع وقطف الثمار لا يحتاج ثقلا فاستخدم العرب الفاء وأما قطع الأشجار فيحتاج ثقلا فاستخدم العرب العين
وكمحاولة لإظهار سر اللغة العربية وسر فصاحتها دون سائر اللغات الأخرى لنا أن نعلم أن اللغة العربية قد نحتت المبنى طبقا لمعيار المعنى فنحن نقول ( جمدت )  المياه و ( تخثرت الدماء ) وكلاهما سائل يجمد فلماذا أطلقنا الجمود على الماء والتخثر للدماء ؟ علينا أن نعلم أن الجامد لابد وأن يعود بطريقة ما إلى السيولة وأما المتخثر فلا يمكن له أن يعود إلى سيولته السالفة مهما حدث .. ولأن العرب قد أدركوا كيمياء السوائل فقد وصفوا كل حالة بوصفها الذي هو أليق بها
وحين نقول ( صورة فوتوغرافية ) و ( سورة قرآنية ) وكلاهما بمعنى التصوير فما الفرق بينهما ؟
إن حرف الصاد حرف بارز مسموع يظهر لنا الملامح البارزة المحسوسة وأما السين فهو حرف هامس مخفي لا يظهر لنا الملامح بقدر ما هو يظهر المعاني التي تدرك بالبصيرة لا بالبصر وكلاهما من التصوير
وحين نقول ( صعد فلان الجبل ) و ( سعد فلان بمحبوبته ) إنَّ صَعَدَ وسَعَدَ كلاهما من العلو ولكن الصاد تومئ إلى العلو على بروز يدرك بالبصر وأما السين فهي تومئ إلى العلو الذي يدرك بالبصيرة
وكذلك ( صرَّ ) و ( سرَّ ) وكلاهما بمعنى خبأ .. ولكن الصاد تعني الشيء البارز الناتئ أمام البصر وأم سر فإنها تعني الشيء المعنوي غير البارز والمدرك بالبصيرة
إن رسم الحرف العربي أيضا له دلالات هندسية تجعل المبنى معبرا عن المعنى فقط من خلال رسم الحرف وحساب زواياه الهندسية
فمثلا حين نقول ( طَفَرَ الحصان الحاجز ) أي قفز من فوقه فهيا نرسم حروف الفعل ( طفر ) لنرى كيف أن الشكل الهندسي لهذه الحرف الثلاثة مجتمعة إنما يعبر عن المعنى المراد دون الحاجة إلى بحث معجمي وإنما بالنظر إلى الشكل الهندسي ... إن حرفي ( الطاء و الفاء ) [ طف ] لو مررنا فوقهما خطا بقلم من اليمين إلى اليسار نجد أنهما قد رسما نصف قوس " ربع دائرة " من اليمين إلى اليسار ... ثم إن حرفي ( الفاء والراء ) [ فر ] لو مررنا خطا بقلم فوقهما من اليسار إلى اليمين سيرسم لنا نصف قوس أيضا " ربع دائرة " من اليسار إلى اليمين ... وإذا جمعنا ربع الدائرة المرسوم بـ ( الطاء والفاء ) مع ربع الدائرة المرسوم بـ ( الفاء والراء ) نجد أن كليهما سوف يرسم قوسا كاملا يمثل قفزة الحصان منذ يبدأ القفز إلى أن يلتقي الأرض مرة أخرى .... إن اللغة العربية لغة معجزة ولم يخترها الله تبارك وتعالى لتكون حروف قرآنه إلا لأن حكمة الله قدَّرت لهذه اللغة أن تكون موطئ الإعجاز في كل شيء ؛ الأعجاز الهندسي والإعجاز الصوتي والإعجاز المبنوي والإعجاز المعنوي ...
وحين يظهر لنا إنسان يحمل هذه اللغة في طياته ويتخذ من نفسه رسولا يحمل غاية هذه اللغة فإنما هو إنسان فوق المستوى البشري العادي ... إنه الشاعر ... وأعني هنا الشاعر الذي يصل بذاته إلى حد يستحق أن يَشِمَ نفسه بلقب الشاعر