(عبد الحكم العلاّمي
....بين كسر أفق التوقـّع والانفتاح الدلالي )
قراءة / إبراهيم موسى النحـّاس
استطاع الشاعر عبد الحكم العلاّمي أن يلفت الأنظار إليه بقوة بداية من ديوانه الشعري الأول (( حال من الورد )) مروراً بديوانه الثاني (( لا وقت يبقى )) ثـُم أعماله – النثرية – الأخيرة ,لما تميزت به هذه الأعمال من رؤى حداثية من ناحية , وانفتاح الحقل الدلالي للنص من ناحية أخرى , إضافة إلى ولعه بالمعجم الصوفي الممتزج باليومي والمعيشي ليخرج علينا بلغة جديدة غاية في الخصوصية تعكس وعياً إبداعيا بتناقضات الذات المبدعة ,وتحولات الواقع , وكذلك وعيه بطاقات اللغة, وطرق توظيفها في بناء النص الشعري.
والدخول إلى عالم عبد الحكم العلاّمي الشعري – نقدياً – يُعتبر أحياناً منطقة شائكة , نظراً لتعدد المداخل النقدية لنصه الشعريّ سواء على مستوى الرؤية أو التشكيل الفنيّ بما في ذلك لغته الشعرية الخاصة , يـُضاف إلى ذلك كثرة الدراسات والقراءات النقدية لشعره والتي نـُشر بعضها في كتب نقدية ,والبعض الآخر نُشر في بعض المجلات والدوريات الأدبية .
يوظـّف الشاعر المنولوج الداخلي أو الحوار مع الذات للتعبير عن رؤيته سواء تجاه الذات أو العالم , في ثنائية تجعل الذات منقسمة إلى ذاتين مختلفتين : ذات متحدثة وأخرى مستمعة , تتناقض كل منهما مع الأخرى على مستوى الفعل والفكر والرؤية, لتتفجـّر الدلالات من هذا التناقض الإنساني , لكشف وتعرية الذات والواقع معاً , والتعبير عن تأزمهما , في حوار داخلي يجمع بين الهدوء حيناً والعنف أحياناً أخرى :
((هكذا يبدو أنني سأكون مـُشتتاً
بين سخطي
وإشفاقي عليّ
أنا رطب الصيف
وخيمة المُحبين
إذا حلّ الشتاء
ورسائلهم التي تتسرب خفية
بعد انتحاراتهم
لم يعد لي
سوى أن أشاطر موتي تمرده عليّ
كأن أقيم له صلاة خاصة به
وأن أدعو له بدوام ملاحقتي في الزوايا
وأن أقيم لشخصي أنا
جنازة خاصة بي
لا يحضرها المُعزون
لأنني
سأكون وحدي عندها
أتلقـّى العزاء
العزاء الذي استحقه منـّي
على أية حال
سيكون لي كلام آخر معي
عند المقابر )) ( 1 )
لكنه يتوجه إلى الذات مباشرة في نصوص أخرى باستخدام ضمير المُخاطب :
(( كل شيء قابل للانهيار
أنا وأنت
وهذه الجُدُر السميكة
التي نعمل على حراستها مُنذ ألف عام )) ( 2 )
ولعل قصيدة سبتمبرية في ديوانه الثاني ( لا وقت يبقى ) تعكس هذا الحوار الداخلي وانسلاخ الذات إلى ذاتين متناقضتين تماماً , الأولى تحمل القيم الروحية والمبادئ وتأنيب الضمير , والثانية تحمل بوار الخُطى التي يتم رفضها من قبل ذاته الأولى :
(( إني الآن
وأنا في سبتمبر
أحتاج لوقت يخلو منك
أحتاج لوقت آخر
لا ألقاك عليه
حتى أقدر
وأنا أرجم فيك بوار خُطاي
أكون بمنأى عن تأنيب عيونك لي )) ( 3 ) .
وتأتي النصوص البكر للشاعر لتؤكد بقوة هذه الدالة التعبيرية , وكيف أن استخدام الشاعر لها ينـُم عن قصدية إبداعية ,ورؤية حداثية مبكرة حول طريقة التعبير لدى الشاعر , واعتبارها – أي دالة المنولوج الداخلي – إحدى البنى الأساسية في تشكيل النص الشعري, ففي قصيدة ( رهان ) التي كُتبت عام 1986 يقول :
(( تصخب مثل نفير العزف
على إيقاع ماجن
ركض في تجويفك يعلو
من سقاك جنوناً ؟
من فتنك ؟
يا مفتوناً
يا مهجوراً
يا مسكوناً
صخب يستقصيك فتنأى
صخب يستدنيك فتدنو
مَن قســّمك إلى ضدين
أي زمان طالع
أي زمان آفل
كيف تُزاوج من زمنين
لتـُطلع زمناً )) ( 4 ) .
ويُعتبر تنوّع الضمائر بين المتكلم والمُخاطب والغائب من البِنى الالتفاتية في حوار الذات مع نفسها . فأحياناً يقوم الحوار على استخدام ضمير المتكلم,وأحيانا أخرى يستخدم ضمير المُخاطب , وأحياناً يتجه الشاعر في حواره مع الذات إلى استخدام ضمير الغائب في دلالة رمزية لاتساع الهُوّة بين الذاتين من جهة, واغتراب الذات أو الخوف أو الرغبة في غيابها في أحيان أخرى, كما نجد ذلك في قصيدة له بعنوان ( عثرات اللوحة ) :
(( طفل يفلت من غابات الشوك
حين يحاول فك الشيء الخائف
يبدأ أول عَثرة
والشيء الخائف لا ينفك
قال الطفل
ماذا لو عرّيت الشيء الخائف
واستثنيت الخوف )) ( 5 ) .
وتستمر الذات في استدعاء الطفل – أي نفسها – حتى يقول :
(( ثُم تـَسائل
كيف يكون النهر القادم ؟
قال الطفل
يكون النهر كما تهواه الأعين أيضاً
ثم تساءل
هو ذا الريّ
وهاك النهر
كيف يُنسـّق عيش الناس إذن؟
وهنا بدأ الخوف
قال الطفل :
ماذا لو عرّيت الناس
واستثنيت الخوف . )) ( 6 ) .
وكأن الشاعر هنا يُفصح عن هدفه من استخدام هذه الدالة الرمزية والتشكيلية , هذا الهدف هو تعرية الذات والواقع الذي رمز له بكلمة الناس في النص , وهذا الكشف هو أحد وظائف الفن (( لأن أهم ما يُميز ذات الفنان هو رغبتها العارمة في عرض ذاتها على ذاتها فما يكاد الوارد أن يهبط حتى تُسارع الذات إلى التأمّـل وسرعان ما تتم عملية الانسلاخ وتشخيص الذات المنظور إليها لكي تلقي فيها الذات الناظرة عيونها وتتخير من عناصرها )) ( 7 ) .
وتعدّد الضمائر على هذا النحو في التعبير باستخدام المنولوج الداخلي يتماس بقوة مع ركيزة أسلوبية أخرى لدى الشاعر وهى كسر أُفق التوقـّع لدى المُتلقي بمفهوم ( ياوس ) وهذا الكسر المُتعمّد لأفق التوقع يضيف للنص قيمة جمالية أخرى بل يصير أحياناً معياراً لتلك القيمة (( فالقيمة الأدبية تُقاس طبقاً للمسافة الجمالية أي الدرجة التي ينفصل بها عمل ما من أفق توقعات قُرائه الأولين )) ( 8 ) .
وقد أشار أحد الباحثين لهذه المسألة في شعر عبد الحكم العلامي دون تصريح حين أشار إلى انفتاح الحقل الدلالي عند الشاعر نتيجة الثراء الشعري للنص عنده على المستوى الدلالي , مما يؤدي إلى شيء من الصعوبة لدى القارئ في استقبال النص من القراءة الأولى فلابد أن تتابع القراءات للنص الواحد لأن مع كل قراءة متعة جديدة فيقول هذا الباحث عنه :
(( ربما يجد القارئ صعوبة في الإمساك بكل جوانب القصيدة لأول مرّة , فالقصيدة تغريه بإعادة قراءتها مرّات ومرّات حتى يستطيع أن يحصل منها على إشباع فنيّ ووجدانيّ وروحيّ )) ( 9 ) .
فمثلاً , رغم أن قصيدة ( الجدة عزيزة ) تتمحور حول حياة هذه الجدة والمسنين , لكن الشاعر يتعمد كسر أفق التوقع لدى القارئ حيث يبدأ النص بداية مغايرة تماماً لتوقع المتلقي الذي استنبطه من عنوان النص على نحو بعيد عن الجدة ودون أي ذِكر لها :
(( صدى من رنين الأباريق
وعِلية القوم على الموائد
يشتهون
خدم
ونُدمان
في سندسهم الأخضر ينعمون
الناس أفواج
هرج من صهيل الخيل
والرواحل تُستناخ
وأنا قليل
واحد
ما كنت أرغب في الرحيل
ولست ممن يرتبون للإقامة
إنما هي رغبتي القديمة
في أن أرد خسارتي
ممن سرقوا سيفي الوحيد
الذي كنت أهش به
ليل الصحاري )) ( 10 ) .
هذا التعامل الحداثي مع النص لا يأخذه إلى دائرة الغموض أو توسيع الفجوة بين النص والمتلقي بقدر ما يعكس بُعدين تشكيليين في بنية النص الشعري , البعد الأول حول مفهوم المعنى الشعري الذي أصبح (( ترشحه هالة من الغموض الشفيف , تضفي عليه قدراً من المهابة والجلال والسحر , بحيث يلوح المعنى من وراء هذه الهالة كما تلوح الأعين الجميلة من وراء أغلالها شفافة على حد تعبير الشاعر الفرنسي [ فيرلين ] . )) ( 11 ) .
والبعد الثاني من أبعاد كسر أفق التوقع عند الشاعر هو ما يؤدي بالنص إلى الانفتاح الدلالي , فتتولد عنه دلالات أخرى تجعل منه نصاً منتجاً خلاّقاً (( لأن انفتاح النص على سيل من الدلالات هو انفتاح منتج بالنظر إلى طبيعة النص الخلاّقة التي تستجيب للتجديد والاختلاف , لأنه نص تـَكوّن من رموز وإشارات حرّة مُشبّعة بإمكانات دلالية واسعة مما يدل على أن العمل الأدبي يستوجب نصيباً كبيراً من الكثافة الدلالية التي تؤهله لقراءات متعددة , وأغلب الظن أن طبيعة ثراء النص وغِنى دلالته هي التي تتيح له تجاوز محدوديته إلى فضاءات دلالية مثمرة )) ( 12 ) . وهذا ما ينطبق تماما ً مع نصوص الشاعر التي يكسر فيها أفق التوقع ويفتح آفاقاً دلالية رحبة تسمح بتعدد القراءات للنص الشعري الواحد عنده.
كما تشير نصوص الشاعر بمعجمها الشعري الصوفي الخاص إلى جدلية العلاقة بين التراث والحداثة داخل النص مما يعكس موروثاً ثقافياً ضخماً لدى الشاعر يجمع بين ثقافة عربية أصيلة تفتح في نفس الوقت - مع أصالتها – ذراعيها لاحتضان آفاق الإبداع والتجريب وآليات الحداثة داخل النص , مؤكدة أن هضم التراث هو بوابة العبور لأي انفتاح على التجريب دون أدنى قطيعة للتراث (( فالتجديد أو التحديث لا يمكن أن يتأتى إلاّ لمتشبع بالتراث وذلك لأنك محتاج قبل خروجك عن الشيء إلى أن تكون لك تجربة بعيدة مع ذلك الشيء )) ( 13 ) .
كما أن المبدع الحقيقي المجدد هو من بدأ حياته الأدبية بقراءة التراث وفهمه وأضاف إلي اهتماماته تلك الاتجاهات الحديثة في الكتابة - شرقية وغربية - لتتشكل عن قناعة تامة منه رؤيته الخاصة وصوته الشعري المُتفرّد .
**************************
هوامش :
1- قصيدة ( رطب الصيف ) . عبد الحكم العلامي , مجلة الشعر ص 85 العدد رقم 131خريف 2008 ,اتحاد الإذاعة والتليفزيون . مصر .
2- قصيدة ( إنهم يشبهوننا تماماً ) عبد الحكم العلامى , مجلة الكرمة العدد 11 . الهيئة العامة لقصور الثقافة . مصر .
3- ديوان ( لا وقت يبقى ) . عبد الحكم العلامى, إصدارات جماعة بدايات القرن الأدبية دار نجد بالقاهرة سنة 1998.
4- ديوان ( حال من الورد ): عبد الحكم العلامي . ص 45 – 46 , سلسلة إشراقات أدبية العدد رقم 92 . الهيئة المصرية العامة للكتاب .
5- المصدر السابق ص 33
6- المصدر السابق ص 34
7- ( أقول لكم عن الشعر ) :صلاح عبد الصبور ( الأعمال الكاملة ) الجزء التاسع ص 366 , الهيئة المصرية العامة للكتاب .
8- ( قراءة الأنا......قراءة الآخر ) د / حسن البنا عز الدين , ص 28 , سلسلة كتابات نقدية رقم 176, الهيئة العامة لقصور الثقافة . مصر .
9- ( الحوار مع النص .. جماعة بدايات القرن نموذجاً ) : جمال الجز يري ص 13 , إصدارات جماعة بدايات القرن الأدبية , الإصدار التاسع , الطبعة الأولى سنة 2002, مصر.
10- قصيدة ( الجدة عزيزة ) : عبد الحكم العلامي . مجلة ( الثقافة الجديدة ) ص 65, العدد 204 يوليو 2007 , الهيئة العامة لقصور الثقافة , مصر .
11- ( حداثة المحافظة و أصالة التجديد ) : د / محمد عبد العزيز الموافي ص 192 , سلسلة إصدارات خاصة , الهيئة العامة لقصور الثقافة , مصر .
12- ( حدود الانفتاح الدلالي في قراءة النص الأدبي ) مقال للدكتور / عزيز محمد عدمان , مجلة ( عالم الفكر ) ص 86 , المجلد 37 يناير – مارس سنة 2009 , المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب , الكويت .
13- ( في حدود الأدب ) : د / محمود الربيعي ص 223, سلسلة كتابات نقدية,العدد رقم 170 , الهيئة العامة لقصور الثقافة ,مصر.
***************************