محمد عثمان ....في طريق الذكريات
يقول ستيفن سبندر في كتاب "الحياة و الشاعر " ما مفاده أن : الشاعر يجب أن يكون له موقف من الحياة , و هذا الموقف نستشفه من إبداعه , و أظن هذا شيئا بديهيا , و لا مجال للجدال فيه .
و قد يكون موقف بعض الأشخاص حداثيّا متمردا , ضاربا بالقواعد و الأعراف عرض الحائط , و قد يكون البعض ميّالا للمحافظة , و اتخاذ موقف تقليدي من الحياة و الفن , و أقول : إن مدار الإبداع في الحالتين , إنما هو على الجودة و الأصالة الفنية , و مدى القدرة على التعبير عن الحالة الوجدانية, بشكل متناغم و متماسك فنّيا .
كانت هذه مقدمة لابد منها ,قبل الحديث عن قصيدة "في طريق الذكريات " للصديق الشاعر- محمد عثمان و أرجو أن أكون منصفا في تحليلي ,و نقدي, بلا محاباة, و لا تعنت... و الله المستعان .
يقول الشاعر :
إن أتيت الروض شوقا ****و المنى ملء العيون
ترقب الماضي نداء****بين أصداء الفتون
ذكريات في ربيع****ذاب فيه العاشقون
عبّر الشاعر هنا عن الذكريات و الماضي الجميل , و أتت الكلمات معبرة مثل ( الروض – شوقا – الفتون – ربيع – العاشقون ) , فنحن أمام صورة رقيقة , لحالة ربيعية , من الماضي , و ألاحظ أن الشاعر قد استخدم "إنْ الشرطية" , و هي تفيد الشك و التقليل , و هذا يتناغم مع قول الشاعر بعدها :
قد رأيت الروض جاثٍ****في رداء من سكون
عربدت فيه احتراقا ****عصبة الليل الخئون
فاستكان الطير قهرا****بين أشلاء الغصون
أقول : هذه الأبيات هي جواب الشرط ( إن أتيت ) .
و لو قارنا الألفاظ المستعملة , في جملة الشرط , و هي كلمات تشي بالأمل و التفاؤل ( روض – ربيع ....) و ألفاظ جملة جواب الشرط , و هي تشي بحالة من اليأس و الانكسار و الموت ( جاث – سكون – عربدت – احتراقا....) , فقد كان هناك شك من البداية , في جمال الروض و عدم يقين من الأمل المرجو !!
و لاحظوا معي ... في البداية شك ( إن ) و في النهاية توكيد ( قد ) .
ثم يلخص الشاعر الوضع في جملة واحدة :
هكذا الدنيا جنون
فالتوقعات دائما عكس الواقع بالفعل ....و هكذا قام الشاعر , كعادة القدماء و بعض المحدثين بصوغ الحكمة و الجملة الحاسمة القاطعة ...أليس الشاعر حكيم قبيلته , و هو الروح الشفافة التي تبصر من وراء الغمام , و يتنبأ بالمستقبل كأنه عراف قديم !!؟
و استخدم الشاعر كلمة الروض مرتين , في هذا المقطع من القصيدة , و ربما عدّ البعض ذلك ضعفا فنّيا , و تكرارا لا داعي له ... و لكني أقول : إن التكرار قد يكون مفيدا و مبرّرا , و العبرة بالنص الذي نقرؤه , و أقول ما بين "الروض شوقا ... و الروض جاث" نرى أن الروض هو الروض , و لكنّ حالة الشاعر الوجدانية , هي التي تبدّلت , و رؤيته للمشهد , هي التي تحوّلت , و السؤال : هل كان التكرار بلا مبرّر ؟! لا سيّما إذا قلنا أن التكرار وقع في أغلب القصيدة , لا سيّما الكلمات المعبّرة عن الماضي , و ما يقوم مقامها !
و في المقطع الثاني من القصيدة – و قد غيّر الشاعر الرويّ كعادته – يعرّف الدنيا تعريفا جديدا طريفا يقول :
هذه الدنيا مسير **** في دعاء لا يجاب
كالمواعيد الحيارى****بين أصداء الغياب
هي حالة من الحيرة , و مسيرة بلا جدوى , فالدعاء لا يجاب , و المواعيد حائرة , و الغياب هو السائد , و يعرب الشاعر عن رغبته و يقول :
أبتغي عمرا قديما **** في هنيهات الشباب
فهذا مذهبه – العودة للماضي و للجذور – و لكنه يظل حائرا , في حالة من الشك الوجودي الذي يذكرنا بإيليا أبي ماضي و محمود حسن اسماعيل , وحيرتهم , خصوصا "الطلاسم" لأبي ماضي , و ديوان "أين المفر" لمحمود حسن اسماعيل ...و ما يجمع بينهم – أي الشعراء المذكورين – هو حالة الحيرة و الشك , الناشئة بلا جدال من العصر المتسارع و المتخبط الذي عاشوا فيه , هؤلاء في القرن العشرين و حروبه العظمى , و هذا في القرن الحادي و العشرين و فورانه و لا إنسانيته !! ... يقول الشاعر :
كلما لاقيت بابا****لاح في الظلماء باب
بيد أني لست أدري**** أي باب للمآب
كلها أشباه لقيا**** بين هاتيك الشعاب
هكذا تمضي حياتي****بين شك و اغتراب
فقد وضعنا الشاعر بمهارة , و بألفاظه المعبرة , و بصوره الشعرية الجميلة , أمام حالة من الحيرة و الضبابية و عدم الاستقرار و الوحدة .
و أعجبتني جدا صورة "أشباه لقيا " , و هي مكونة من مضاف و مضاف إليه , و تفيد التخصيص - لأن الإضافة إلى نكرة تفيد التخصيص كما تعرفون - حتى اللقاء لم يعد لقاء حقيقيا أو مكتملا, بل هو أشباه ! , مما يذكرني , بما درسناه عن بعض الكائنات الأولية فهذا له أشباه أرجل , و هذا له أشباه جذور , و هي بالتالي لا تقوم بالوظيفة الكاملة , كما أنها ليس لها التركيب الكامل للعضو الحقيقي , و كذلك أشباه اللقيا !!
أما قوله : " قد قضيت العمر وحدي" فهي جملة مباشرة خبرية , تخلو من التصوير , و إن كانت تدلنا على حالة الشاعر الوجدانية , بشكل جيد , كما أنه ليس شرطا أن تكون كل القصيدة صورا و خيالا , و قد أوضحت ذلك - بفضل الله - في مقالة لي بعنوان " عن الصورة الشعرية " .
و أسأل الشاعر : ماذا عنيت بقولك :
يا رفيقي نجّ كأسي ... هل تقصد ناج ِ كأسي ؟ إذا اجعلها "ناج ِ"... و الوزن و المعنى كلاهما يستقيم ... حيث لم أقرأ "نجّ " بحذف الألف من قبل... و الله أعلم
و يؤكد الشاعر على معنى الوحدة – وحدته – فيقول في المقطع الثالث :
عاشق يمضي وحيدا ****خلف طيف الأغنيات
و يؤكد على مذهبه الفنّي – العائد للجذور – قائلا :
يرتجي عمرا قديما **** من رحيق المعجزات
و يعود بنا الشاعر إلى صورة الماضي الجميل , التي صورها المقطع الأول , و يقول :
أن يعود الفجر طيرا**** من دياجير الشتات
تصدح الأوكار عشقا****يزدري جهم السكات
الشتات مظلم , و الفرقة مؤلمة , لكنْ إذا جاء الفجر, صدحت الطيور بالأغاني ( في قول الشاعر "تصدح الأوكار" مجاز مرسل علاقته المحلية ... فالطيرهي التي تصدح و محلّها الأوكار) و تعود الوحدة و الألفة , من جديد , و يتحقق حلم شاعرنا , و حلمنا العزيز :
يقرأ النيل المثاني**** ينجلي حزن الفرات
و أتساءل : هل موقف الشاعر في قصيدته كلاسيكيا بحتا , و مقلدا صرفا للقدماء , لدرجة أن تختفي شخصيته , و رأيه و موقفه الشخصي ؟!...لا أظن .
نعم هو قد اختار القالب العمودي للقصيدة , و لكن هذا ليس عيبا , لأنه استطاع صياغة أفكاره , و موقفه من الحياة , في هذا القالب , و أجاد , و إن كنت أنتظر منه المزيد من التجديد في الصورة الشعرية , و هو- بلا شك - قادر على ذلك بإذن الله .
لأستاذنا سعد علي مهدي – الشاعر العراقي الرائع - تعليق مهمّ , على استخدام كلمة "السكات " , فهو لا يميل إلى استخدامها في قصيدة فصحى , نظرا لشيوعها في الاستخدام العامي فهو يريد – و معه كل الحق – أن تصبح لغة الشعر الفصيح أرقى من كل استخدام عامي مبتذل و أظننا جميعا نوافقه هذا الرأي , حتى و إن كانت كلمة "السكات" كلمة فصيحة بكل تأكيد .
و لي تعليق على صورة " يزدري جهم السكات " تركيب الشاعر للمضاف و المضاف إليه "جهم السكات" أفاد زيادة درجة القبح المعاصرة , فكلمة "جهم" معناها : كالح الوجه و كريه الوجه عابسه , و كلمة "السكات " معناها : الصمت و السكون , و تركيبهما معا بهذا الشكل ممتاز , حيث أفاد زيادة درجة الدمامة و البغض , التي سوف يحاربها , و يقضي عليها غناء الطيور ! تحية للشاعر من أجل هذه الإضافة الرائعة .
و في المقطع الأخير , يؤكد الشاعر على حبه للماضي , و يقول :
في ربى أشواق ليلى **** أو دواوين الرشيد
ربّ لحن قص عني**** رحلة الساري العنيد
ذكره " ليلى " يعبر عن شوقه للشعر و الحب القديم , و ذكره "للرشيد" يعبر عن شوقه للماضي القوي , حينما كانت حضارتنا تنير العالم .
و كولع الشعراء – لاسيما التقليديين – لصياغة الحكمة يقول :
كلنا في الأرض يمشي **** بين شاك أو سعيد
ثم نمضي للمنايا **** في طريق لا يحيد
جمل خبرية تقريرية , و إن كانت لا تخلو من جمال ....جمال الحكمة و جلالها .
قرّر الشاعر الحقيقة , و هي أننا جميعنا نموت , و لكن تبقى حكاياتنا و قصائدنا تعبر عن آلامنا و أحلامنا , و تنقلها للقادمين من بعدنا , و هذا الشعور و إن كان تقليديا , و تحدثت عنه في عرضي لكتاب " الأشباه و النظائر للخالديين " فإنما هو شعور إنساني عام ,
لا ينقضي بانقضاء الأجيال , فكم من شاعر يكتب القصيدة ثم يموت , و تبقى قصيدته , من بعده إلى ما لا نهاية – بإذن الله – و هذه حال الأعمال العظيمة... يقول الشاعر دعبل - شاعر هجّاء , أصله من الكوفة , و كان صديقا للبحتري :
إنّي إذا قلت بيتاً مات قائله
و من يقال له , و البيت لم يمتِ
و يقول محمد عثمان :
بينما تبقى الحكايا **** بين أطياف القصيد
تذكر الشادي المعنّى **** في رؤى الحلم المجيد
و في النهاية أقول :
الشاعر و إن كان قد جرى على أساليب العرب , و مدارسهم الشعرية القديمة , إلا أنه قد أجاد , و جاءت قصيدته جميلة , و متماسكة فنّيا – شكلا و مضمونا - و تحمل الكثير من عبق الماضي , و الكثير من همومنا المعاصرة ....
يا رفيقي لن أغنّي **** غير ذيّاك النشيد
==========================================
عاطف عبد العزيز الحناوي
الاسكندرية
30 رمضان 1433
18 أغسطس 2012
القصيدة:
إن أتـيــتَ الـــروضَ شــوقـــا
**** والـمُـنــى مـِــــلءُ الـعـيــــونْ
تــرقــُــبُ الـمــاضـى نـِـــــداءً
**** بـيـــن أصـــــداءِ الـفـُــتـُـــونْ
ذِكـْــريــــاتٌ فــى ربــيـــــــع ٍ
**** ذابَ فــيـــــهِ الـعــاشِــقـُــــونْ
قـــدْ رأيــتَ الــروضَ جـاثٍ
**** فــى رداء ٍ مــــن سُــكـــــونْ
عـرْبــدَتْ فـيــهِ احـتـِـراقــــا ً
**** عـُصـْبــَــة ُ اللــيــلِ الخَـئـُـونْ
فاسـتـكـانَ الـطـيــرُ قــهـــراً
**** بـيــن أشـْــــلاءِ الـغـُـصـُــونْ
وانـــزَوى نـبــْــعُ الأغــانـى
**** خـلـفَ أســــوار الـظـُنـُــــونْ
إن طـرقـْتَ الـصـمـتَ تـنـْـعِى
**** ضَـيْـعــة َالـعـهــدِ الـحَـنـُــونْ
لا تــقـُــــلْ كـُـنــــا وكــانـــــا
**** هــكـــذا الـدنــيـــا جـُـنـــُــونْ
******
هــــذه الــدنــيــــا مـسِــيــْــرٌ
**** فــى دعــــــاءٍ لا يـُـجــَــــــابْ
كـالـمــواعـيـــدِ الـحـَيــَـــارَى
**** بـيــــن أصــــــداءِ الـغـِــيـــابْ
يــا رفـيـقــى نـَــحِ كـأسـِــــى
**** إنـهــــــا نـجـــــوَى ســــــرابْ
قــد قـضـيـتُ الـعـمـرَ وحـــدِى
**** فــى ســـراديـــبٍ عـُـجــَـــابْ
أبـتــغـِــى عـُمـْـــرا قـديــمــــاً
**** فـى هـُـنـيـْهــــاتِ الــشـبــــابْ
كـلـمــــا لاقــيــــــت بـــابــــــا ً
**** لاحَ فـــى الـظــلـمــاءِ بــــابْ
بـَــيـْـــدَ أنــى لــســــت أدرى
**** أى بــــــــابٍ لــلـــمــَـــــــآبْ
كــلـُـهــا أشــبــــاهُ لـُـقـْـيــَـــا
**** بـيــن هـاتـِيـْــكَ الـشِـعـَــــابْ
هــكــذا تـمـضـــى حـيــاتــى
**** بــيــــن شـــــكٍ واغْــتـِــرابْ
فـــى نــــــداءٍ مــن خــيــــالٍ
**** بـيــــن أوهــــــامِ الـحُـبــَــابْ
******
يــا رفـيـقــى هــذى روحِــى
**** فــى طـريـــقِ الــذكـــريـــاتْ
عـاشــقٌ يـمـضــى وحـيـــداً
**** خـلــفَ طــيـْــفِ الأغـنـيـــاتْ
سـبـَّـح اسـم اللــهِ شــوقــاً
**** فـــى ظـِــــلال الأُمــنـيـــــاتْ
يــرتـجـى عـِـطــْـراً قـديـمــاً
**** مـن رحــيـــق الـمُـعْـجِـــزاتْ
أن يـعـــود الـفـجـــرُ طـيــراً
**** مـــن ديـــاجـيـــر الـشَـتـَــاتْ
تـصــدحُ الأوكـــارُ عـِشْـقــاً
**** يــزدرى جـَـهـْــمَ الـسُـكــاتْ
يـقــرأ الـنيـــلُ الـمـثــانـِــى
**** يـنْـجـَـلِى حــــزنُ الـفــــراتْ
******
يــا رفـيـقــــى لـــن أغـنـــــى
**** غــيـــــر ذيـــاك الـنـشـــيــــد
إن يـلـُـحْ فــى الأفــق نــــورٌ
**** أم بـــــــدا نـجــــمٌُ غـَــريــــــدْ
ْفـى رُبـَــى أشــــواق لـيــلى
**** أو دواويـــــن الـــرشــيـــــــد
رُبَ لـحــنٍ قــَــصَّ عـنـِــى
**** رحــلــة الـســارى الـعـنـيـــدْ
حـيـنـمـا يـهـفـُـو لِـطـَـيـْــفٍ
**** من صـدَى المـاضى الـبعـيـدْ
كـلـُـنـا فـى الأرض يـمـشى
**** بـيــــن شــــاكٍ أو سـعـيــــدْ
ثـــم نـمــضى لـلـمـنــايــــا
**** فــى طـــــريــقٍ لا يـحــيــــدْ
بـيـنـمـا تـَبـقـى الحـَـكــايــا
**** بـيــــن أطـْيــافِ الـقـَصِـيــــدْ
تــذكـُـر الـشـادى المـُعـَـنَّـى
**** فـى رُؤى الـحُـلـمِ الـمجـيــدْ
هــا هُـنـا أحـْيــا الأغـانــى
**** هــاهـُـنــا يـَحـْـيـا شـهــيـــدْ