"إن أعظم وأفضل الملحنين الموسيقيين الأتراك كانوا من المولوية، ومن ثم تعد بدائع الموسيقى المولوية هي أثمن ما في الخزينة الموسيقية التركية" هذا ما قاله رؤوف يكتا بك في أحد مراسم السماع الصوفية التي أقيمت في إستانبول عام 1934. وإذا كانت الطرق الصوفية عمومًا هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن ظهور واستمرار الموسيقى الدينية الصوفية في تاريخ تركيا القديم والمعاصر على حد سواء، فإن الطريقة "المَولوية" الصوفية -التي أسسها الصوفي الشهير جلال الدين الرومي 1203-1273م- تعتبر هي الأكثر بروزا في هذا المضمار الفني. كما أن أشعار وقصائد رجال الصوفية المشاهير مثل: الرومي، وسلطان ولد، ويونس إمرة، وسليمان شلبي هي المادة الدسمة وحجر الأساس في تشكيل الموسيقى الصوفية التركية. وقد أطلق في الماضي تعبير أو كلمة "درويش" (الشخص الفقير والمحتاج)(1) على الأشخاص الذين انتسبوا للطرق الصوفية، وكان يطلق تعبير "درويش" داخل الطريقة المولوية على الشخص الذي يبلغ درجة "ده ده ليك" Dedelik، وهي أعلى الدرجات أو الصفات التي تطلق مبالغة على المنتسب القديم للطريقة المَولويّة (2). | جلال الدين الرومي |
ولكن اليوم لم يعد هناك استخدام لهذا التعبير أو إطلاق مثل هذه الصفة على الأشخاص الذين ينتمون للطرق الصوفية. ولكن تستخدم اليوم كلمة "مُريد" العربية على الشخص المرتبط بإحدى الطرق الصوفية، بينما يسمى المنشد أو الشخص أو الدرويش الذي يغنى الأغاني الدينية بـ "سَماع زَن" Semazen (3) أو مَولدخان. البداية في قونيا | "سماع" و"إلهي" اسمان للموسيقى الصوفية التركية |
في الماضي البعيد وفي مدينة قونيا -عاصمة الدولة السلجوقية 1237/1299م- الواقعة في جنوب تركيا، ظهرت الموسيقى الصوفية في بساطتها الأولى على أيدي دراويش الطريقة المولوية؛ حيث كانوا ينشدون قصائدهم من المديح والثناء في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفي صحابته الكرام وآل بيته الطاهرين، وكذلك مدحاً في رجال الصوفية الكبار، وكان ذلك في زوايا الطريقة التي انتشرت في مدن جنوب ووسط الأناضول مثل: قونيا وقيصرى وسيواس وآقسراي. في البداية لم تعرف الموسيقى الصوفية غير مقامات وآلات موسيقية بسيطة مثل الناي والدف والسَاز (آلة وترية تشبه العود، ولكنها أصغر حجما منه)، تعرف الموسيقى الصوفية عند الأتراك عمومًا باسمين أولهما "سَماع" Sema أو السماعي- (هو نوع من الأشعار أو الكلمات المستخدمة في الموسيقى التركية) (4)، وهو أيضًا الذكر الديني القائم على الدوران وقوفًا والمصحوب بالموسيقى التي تستخدم فيها آلات موسيقية مثل الناي والقانون (5) وهي الموسيقى التي تعزف في الحجرة المسماة بـ "سماع خانه" Sema-Hane والتي تقع في داخل زاوية الطريقة المولوية (6) أو تلك الأشعار الغنائية التي تغنى في الـ "مشك خانه"Meşk-Hane (المكان المخصص للعزف الموسيقى) (7). أما النوع الثاني للموسيقى الصوفية فيحمل اسم "إلهي" İlahi وهو من الشعر الصوفي التركي (8) والإلهي أيضاً، وهو المنظومات والقصائد التي تتحدث عن أوصاف وخصال الله تعالى ورسوله الكريم وتحتوي على أدعية(9). وكان يطلق في الماضي تعبير "إلاهِجي باشي" İlahicibaşı على رئيس المجموعة أو الفريق الذي يقرأ ويغني الأغاني الدينية (10). مع الوضع في الاعتبار أن الطائفة العلوية (إحدى فرق الغُلاة المنتسبة للمذهب الشيعي) الموجودة بتركيا تستخدم هي الأخرى الموسيقى المصحوبة بكلمات أو أشعار والتي تعزف في حلقات وتجمعات لأفرادها تقع في داخل بيوت أو منازل تسمى بـ "بيوت الجَمع" Cemevi، ويطلق عليها أيضًا نفس تعبير "سماع". والسماع عند الطائفة العلوية، هو نوع من الغناء الموسيقي الديني يشبه إلى حد كبير حلقات الذكر والغناء الديني المعروفة عند الطريقة الصوفية المولوية. ولعل الفارق الوحيد هو أن السماع المَولَوي يقوم به أو يؤديه الرجال فقط، وفي ملابس باللون الأبيض وطربوش طويل باللون الأحمر وفي شكل من الدوران وقوفاً -(مثلما هو الحال في حلقات الزار و"أبو الغيط" التي تقام في بعض الأوساط النسائية الشعبية في مصر)- على عكس السماع عند العلويين حيث تشارك فيه النساء إلى جانب الرجال، ويرتدين ملابس شعبية مزركشة بالألوان. في ليلة القدر وتعرف الموسيقى الصوفية التركية كذلك القصائد الشعرية، وهي الأشعار التي تزيد عن 15 بيتًا، وتدور حول مدح الكبار، ويطلق اسم "قصيده كويى" أو "قصيده سرايان" على الشخص الذي يغني القصائد المدحية(11). ومن الأشكال المنتشرة في الوقت الحالي في الموسيقى الصوفية التركية: المجموعات المنشدة (Şarkılar Gorupu)، وهي مجموعات تتكون من خمسة إلى عشرة أشخاص (رجال) يرتدون ملابس موحدة، ويقومون بالغناء أو الإنشاد الديني دون أدوات موسيقية، ولكن ينشدون على مقام موسيقي واحد لا يتغير، يتبادل أفراد المجموعة الإنشاد المنفرد، ثم يعودون مجدداً بين الحين والآخر للإنشاد الجماعي داخل الجوامع الكبيرة في المناسبات الإسلامية مثل: ليلة القدر، النصف من شعبان، المولد النبوي الشريف وغيرها، أو في الاحتفالات العائلية الاجتماعية مثل: حفلات ختان الصبيان، في الوفاة، العودة من الحج... إلخ. ولا شك في أن السلاطين السلاجقة والعثمانيين الأتراك قد ساهموا بدور ما في دعم واستمرار الموسيقى الصوفية في تركيا، خصوصًا أن البعض من أولئك السلاطين كان إما منتسباً -مثل السلطان السلجوقي علاء الدين قيقباد الأول (1219-1236م)- لإحدى الطرق الصوفية، أو كاتبا للأشعار الصوفية مثل السلطان العثماني أحمد الأول (حكم بين سنوات 1603-1617م )، أو شارك في الدعم من باب كسب ود وخاطر رجال الطرق الصوفية الذين كان لهم تأثير كبير على قطاع من الرعية في الدولة في تلك العصور. ويذكر المؤرخ ابن بيبى في كتابه الشهير "سَلجوقنامه" أن السلطان علاء الدين قيقباد الأول كان يذهب للصوفي جلال الدين الرومي في زاويته، وكان يدعوه هو ومريديه لسراي الحكم في قونيه، من أجل الاستماع لأشعار وقصائد وموسيقى التصوف. من جهته أولى السلطان سليم الثالث (1761-1842م) اهتماما كبيراً بالموسيقى خصوصا "المولوي السماعي" القائم على عزف آلة "ساز"، وكان يدعو للسراي أسطوات الموسيقى أمثال أحمد كامل أفندي القِرمي، والطنبوري.. وكان يقف احتراما لمعلميه الموسيقى عند دخولهم عليه. وقد شجع السلطان الموسيقى في زمنه للتدليل على مدى تأثير الطرق الصوفية في القصر أو السراي الحاكم العثماني، ونجد أن السلطان سليم الثالث قد وقع في "دفتر الدراويش" بزاوية الطريقة المولوية في حي "جلطه سراي" بإستانبول باسم "سَليم دَه دَه"، وكان يقدم كل الإمكانيات للفنانين الذين يقيمون في زاويا وتكايا الدراويش. ومن المشاهير الموسيقيين الذين ناولوا رعايته: حمامي زاده إسماعيل، وناصر عبد الباقي ده ده، وصالح أفندي، وإسماعيل زاده الدلال. وقد عرفت الموسيقى الصوفية التركية عبر تاريخها الطويل الكثير من المنشدين والملحنين والعازفين. ومن مشاهير الموسيقى الصوفية الدينية التركية: درويش عبدي (توفي 1695/1107هـ)، ودرويش علي الأسود (توفي 1614/1023هـ) الذي تولى رئاسة مجموعة المنشدين والذاكرين في زاوية الشيخ خير الدين أفندي بإستانبول، وقد برز في إلقاء النوع أو الغناء الموسيقي المسمى بـ "المربع". وهناك الدرويش علي قدومزن (عاش في القرن الثامن عشر الميلادي)، وقد اشتهر بالتلحين والغناء الديني في عصر السلطان مصطفى الثاني (1695-1703م).. وقد لحن أكثر من 30 لحناً غنائياً صوفياً لأبي إسحاق زاده أفندي. أما الملحن درويش موسى (توفي 1728/1140هـ) فقد برع في الغناء والعزف على آلة الناي في عصر السلطان أحمد الثالث (1703-1730م). وقد أوجد الملحن والمنشد الديني ناصر عبد الباقي ده ده (1765-1842م) شكلاً من أشكال النوتة الموسيقية عرف بـ "تحريرية"، كما لحن ديوانا صوفياً مكونا من 3 آلاف بيت.
| أشكال الغناء الصوفي |
لم يتوقف أمر ظهور وتطور الموسيقى الصوفية في تاريخ تركيا على كونها كانت تعزف في زوايا وتكايا دراويش المولوية، بل إنها اعتمدت أيضاً على الأشعار والقصائد التي كتبها الصوفية. وقد أخذت الموسيقى التركية الصوفية الكثير من أشعار وقصائد كتابي "مثنوي" و"ديوان الكبير" للرومي. ويقول ناصر عبد الباقي ده ده بأن الفضل في الموسيقى الصوفية التركية القديمة يرجع للمولوية، وإن أغلب مشاهير الموسيقى التركية كانوا "محبين" أو "ده ده" في زوايا المولوية. ومنهم مصطفى أفندي (عطري) حاجي فائق بك، ومحمد زكائي ده ده، ونيزن صالح ده ده، وحسين فخر الدين ده ده، وأحمد عوني كونوك وهم من مشاهير المجموعات المنشدة. كما ذكر المؤرخ التركي الشهير فؤاد كوبرولو أن درويش موسى كان من مشاهير الشعراء الذين استخدموا آلة "ساز" الموسيقية في غناء أشعارهم في القرن الثامن عشر الميلادي. كما عُرف فن التواشيح الدينية في الموسيقى الصوفية. ومن المشاهير في فن الموسيقى الدينية الصوفية درويش عمر أفندي (عاش بين القرنين السادس عشر والسابع عشر)، حيث عاش في عهود سلاطين مثل سليم الثاني وسليمان القانوني، واشتهر بالغناء عبر نوعين من الموسيقى الصوفية هما "بَشرو" Peşrev، وهو عبارة عن المقطع الموسيقي المكون من أربعة أجزاء والذي يأتي بعد المقدمة الموسيقية في موسيقى الشرق (12)، و"أوج" Evc وهو عبارة عن مقام موسيقي مُركب (13). وفيما يخص درويش صدائي (توفي 1655/1066هـ) فقد كان من منتسبي الطريقة الجُلشنية، ومثل كل مشاهير المنشدين والدراويش الصوفيين الأتراك فقد ذهب لمصر وبقي في القاهرة فترة زمنية بين أركان زاوية إبراهيم الجٌلشني قبل أن يعود لتركيا ويشتهر. ومن أشهر أغانيه الصوفية النشيد أو الموشح الديني المكتوب بأسلوب أوسط، ويبدأ بمصراع يقول Gelmişim vahdet ilinden: أي جئت من أرض الوحدة (14). من مشاهير القرن العشرين في موسيقى التصوف التركية: سعد الدين هبر (1899-1980م) وهو أحد أبرز الموسيقيين الأتراك في الموسيقى المولوية.. ومن أشهر الإلهيات التي لحنها "Sevelim hezret-i mevlana: فلنحب حضرة مولانا" 15. وفي الفترة ما بين الثمانينيات ونهاية التسعينيات من القرن الماضي برز منشدون في الغناء والموسيقى الدينية أمثال: يلديريم جورسَس (Y.Gürses)، وأحمد أوزجان، وعبد الرحمن أونول، ومصطفى دميرجي، ومحمد أمين آي، وحسن دُرسُن، كما ظهرت مطربة أو منشدة دينية في نهاية عام (2001م/1422هـ) تسمى سَربيل جوك دَرَه، وهي أول امرأة تركية تقوم بالإنشاد والغناء الديني في تاريخ تركيا المعاصر. |