دخلت قاعة المحاضرات وعدد الحاضرين لايزيد عن العشرين طالباً وطالبة فى انتظار الدكتور الذى دائما مايتأخر عن موعد المحاضرة, ظلت الطالبات داخل القاعة يتسلين بالأحاديث المتفرقة التى تتعلق بتوافه البنات, أما الطلاب فقد خرجوا إلى الطرقة منهم من يدخن ومنهم من يشرب الشاى والقهوة ومنهم من يقضى بعض الملل فى انتظار الدكتور الذى يجلس فى مكتبه !
وبعد ساعة من موعد المحاضرة وصل الدكتور, ودخل ماتبقى من الطلاب القاعة. دخل الدكتور مسرعا كعادته يرتدى بزة قصيرة تلف جسده الممتلئ وقامته القصيرة نسبيا, ثم دخل بعده بقليل المعيد الذى يحضر المحاضرات ليلم بأطراف المادة, وجلس بجوارى على يسارى. بدأ الدكتور بتشغيل جهاز الحاسوب (اللابتوب) الموصل بالبروجيكتور, وأطفأ ماتبقى من الأنوار وأسدل ستائر الشبابيك, حتى أصبحت القاعة مظلمة تماما, ثم بدأت محاضرة مملة كالعادة. كان جو التثاؤب هو الغالب على المحاضرة, والظروف مهيئة لمعانقة النوم الوثير.
وبعد قليل دخل شوقى مسرعا بعد طرقات الاستئذان السريعة, بدت لى نحافته جلية فى هذا الظلام, أنهكت السجائر قواه حتى صار عوده المنحنى كعود الكبريت المحترق وتلاشى اللون الأبيض من ثغره حتى أصبح أصفرا يتخلله خطوط رمادية, ثم جلس بجوارى على يمينى, ثم بدأ يفرغ ما فى جيوبه من أقلام وعلبة المناديل, وهيأ الكشكول, وبعدما أفرغ محتوياته اعتدل فى جلسته ليظهر الاهتمام. كان يلهث ,فكنت أستطيع أن أشم رائحة دخان السجائر المنبعثة من فمه.
وبعد ذلك بقليل سمعت صوت لطمة, فنظرت جهة شوقى ووجدته يضع كفه على جبهته وعيناه الضيقتان قد أصبحتا أكثر اتساعا وشفتاه انفرجتا انفراجة ملحوظة, ثم قال وهو يميل برأسه ناحيتى:
"نسيت اأكل الكلب" !
قال ذلك بصوت لم يسمعه غيرى أنا والمعيد الجالس بجوارى.
فاندهشت لما قال, وسألته: "كلب ايه ؟!"
فرد علىّ بجزع: "كلب صغير فى بيتنا-فى ديرب".
ثم سألت: "هيحصله حاجة لو مكلش يعنى؟!"
لم يرد على سؤالى, وقال: "يانهار ابيض" قالها وهو يمد ياء أبيض.
وهم بالوقوف حتى أثنى ظهره, لكنه مالبث وعدل عن ذلك. وظل على قلقه إلى آخر المحاضرة .
نظرت يسارى فوجدت المعيد ضم كفه الأيسر على فمه ومال برأسه ناحية البنش لئلا يراه الدكتور, وكان جسده يهتز بصورة ملحوظة من الضحك !
وانتهت المحاضرة بعد نصف ساعة, حمل الدكتور حاسوبه وخرج كما دخل, فقام شوقى مسرعا إلى باب القاعة ثم اختفى....
تتبعته بنظراتى المتوجسة, بينما ظل المعيد غارقا فى الضحك, حتى رفع رأسه والدموع تملأ عينيه, وآثار الضحك تكسو وجهه, وما لبث أن نظر ناحيتى, حتى عاد برأسه إلى كفه واستأنف الضحك !
وما إن انتبه لدخول الدكتورة حتى قام مثاقلا بضحكاته محاولا حبسها داخل صدره .
والتفتنا إلى حديث الدكتورة المنزعجة دائما بصوتها الزاعق, فتلقى بقذائفها إلى من يتأخر عن موعد وصولها, قد تكون إحدى قذائفها الهينة أن تنقص بضع درجات من المسكين المتأخر الذى غالبا لا يملك سواها.
ومرت دقائق على هذا الحال. حتى دق الباب, فالتفتت بنظرها الثاقب نحو الباب مستعدة لإلقاء قذيفتها التاليه, وقالت بغضب:
"ادخل"
, وانفرج الباب انفراجة بسيطة وطل شوقى برأسه من خلفه قائلا:
-" أدخل يادكتورة ؟!"
-" إيه اللى أخرك؟!"
-"كنت بأكل الكلب"
مرت هنيهه صامتة, فكأن من سمع يحاول أن يضع الجملة فى موضعها السليم, فاكتشف الجميع أن موضعها هو الضحك, ثم ارتجت القاعة ضحكا.
وظلت الدكتورة واجمة تنظر إلى شوقى الذى اعتلت جبهته علامات الراحة بعد القلق, وكأنما هى الأخرى وضعت عبارته موضعها السليم, فتغيرت ملامح وجهها العبوس حتى كاد يشبه وجه باسم, وأشارت بيدها ليدخل, فدخل مسرعا وجلس بجوارى, واندفعت من صدره الصعداء, بينما كنت أفكر: "يالها من قصة"....