سيرة شاعر

أستاذنا العظيم درويش الأسيوطي غني عن التعريف له كل الحب والتقدير ..
إسمحلي أن انشر له هذا النص الذي أحبه خاصة :

خالتي بخاتي




إنها خالتي ..

واحدةٌ من بناتِ القبيلةِ

رأسُ النساءِ ببوابةِ الأهلِ ،

عزباء عاشت ..

وماتتْ بلا أملٍ في الزواج.



خالتي لم تزرْ قبرَ سيدنا المصطفي ،

( عليه الصلاةُ وخير السلام )

وكانت تصلي عليه بمفتتحِ القصِّ دوماً،

وكانت تصومُ ،

ولكنها لا تصلي،

وتؤمنُ أنَّ الإله الرحيمَ،

إلهٌ غفورْ.

لم تبتْ ليلةً في فراشٍ وثيرٍ،

علي الأرضِ كانتْ تنامُ..

شتاءً وصيفاً..

وكانت تدوسُ علي الأرضِ حافيةً..

فالعقارب تخشى خطاها ..

وكانت تدبُّ علي الأرضِ دباً..

بكلِّ الدروبِ وبين الحقول .

كالعفاريتِ أثوابُها السود مغسولةٌ بالسواد.

فقدتْ في مراح الطفولةِ عيناً،

وشيئاً فشيئاً..

تسربَ نورُ النهاراتِ من عينها المبصرة.

لم تكنْ قادرة

أنْ تميّزَ بين العيالِ،

من الصوتِ تعرفنا..

فتنادى علينا بأسماءِ أقرانها الأمّهات..

يا ابن أمينة .. يا ابن سعاد ..

وأزعمُ أنَّ بخاتي وحتى الممات ..

لم تذقْ غيرَ ما تطرح الأرضُ في قريتي من ثمار !!

مثلنا تأكلُ العيْشَ من ذرةِ القيْظِ بالْمشِّ

كانت تساءلنا :

كيف يحتاجُ خبزُ العلامةِ للجبنِ أو للغموس؟!!



لم تكنْ تستطيبُ سوى الشاي،

والقصصَ المستحيل،

في رأسها تسكنُ الأغنياتُ القديمةُ..

من سير الأقْدمين..

(أبو زيد).. ( عنترةَ) المستهام بعبلٍ

و( سيدة الحسنِ) ..

كنز المواويلِ والأحجيات ..

[ … كان يا ما كان..

ما يحلو الكلام ..

إلا بذكر المصطفي ..]

ثم تهمسُ بالصلاةِ وبالسلام…

وينسابُ نهرُ الحكايا .. الطويل .. الطويل ..



في الجنائزِ تلطمُ وجداننا بالعديدِ

ويدهشنا حزنُها العبقري الأليم..

هي لم تعرف اليتمَ ..

لم تفقدِ الطفلَ والزوجَ !!

من أين تغترفُ الدمعَ؟

كيف تدفقَ هذا العديدُ المريرُ؟

وكيف تفجرَ هذا البكاءْ؟!!



من بخاتي قبسْتُ الجنون الجميلَ

ومازالَ حزنُ المواويلِ

خنجرهُ بالفؤادِ يغوصُ .. يغوص..

ومازال قطر ُ الغناءِ الجميلِ

ينبتُ في الروحِ فاكهةَ الشعر ..!!

كيف تسربَ هذا الأريجُ إلى الصدرِ؟!!

كيف تخلَّقَ هذا الغرامُ الأبيُّ النبيلْ؟!!



بعد أن ينتهي الليلُ من دسِّ خوفِ العيالِ بأحضانِ جدَّاتهم،

يختلي الطيبونَ علي سرَّةِ الليلِ بالطيبات ..

عندها..

تختلي خالتي بالمعسَّلِ معشوقها

بعيدًا عن الأهلِ، عن أعينِ النَّاسِ..

في حجرةٍ من رواق قديم..بعيدٍ .. بعيد..

تقرقرُ ( جوزتها) بانسجام …

كنَّا نشمُّ الدخانَ فنرصدُها من شقوقِ الجدارِ:

بخاتي تعسل ..!!

تشتمنا بالقحابِ اللواتي حبلنا بنسل العفاريت

حتى تكح..

فنضحكُ .. تضحكُ ..

تقذفُ ملءَ يديْها من الحشفِ الفجِ والتمْرِ..

نهرعُ نبحثُ في ظلمةِ الليلِ

عن تمرةٍ من تمورِ الرشاءِ..

لنغلقَ أفواهنا عن حديثِ الدخان

أمامَ الرجالِ وبين النساءِ …

وكي لا تغلِّقَ في وجهنا- خالتي –

جنة الشعر والقصصِ المستحيل

طوالَ الشتاءْ.



الشاعر الكبير : درويش الأسيوطي