الفقر
ندت منه ضحكة مقتضبة ساخرة عندما شعر بفقد إحدى فردتى حذاءه,تسلق,ارتقى سلمها, انغمس بين المتشعبطين , المتحاشرين تغلغل بين الكتل البشرية, المتلاصقة,المتلاحمة,بروزات تتداخل فى نتؤات لتسد الفرج والفجوات,يتلاكظون بالمناكب ويتضاربون بالاكتاف.وقد امتدت أذرعهم وارتفعت أيديهم قابضة متشبثة بقائم حفظ الإتزان الأفقى للحافلة, ووسط الضجيج والعجيج والصراخ والصياح يهب خليطا من عرق الأجساد ورائحة الأقدام لتزكم الأنوف .
إاذا فقد الإنسان الأمل فقد أخلاقه,’ومن فقد أخلاقه خسر كل شئ.
المؤلف 2008 القاهرة .
عاد منهكا والتعب قد نال منه, دخل حجرته كالحة الظلام الكائنة بسطح بيت وطيئ نخر الزمن قواعده وجدرانه, تناول عدة لقيمات لايكاد يقيم بهم أوده . . . يحارب فى معركة الحياة وحيدا وأفنى صباه وشبابه والعقد الأول من كهولته وحيدا لا ثانى له فلا زوجة ولا أب ولا أم . . .
رقد على فراشه,لم يرتد منامه كعادته , ارتسمت علي قسمات وجهه المسحوب الناشف غيوم الغضب ولسعات دهر مستبد,وذقن مشتعلة الشيب متناثرة الشعر بين الملتحى والحليق,وجسدا خارت قواه من الكد والكبد, يضع نمرقته ذات الحواء المتسخ,المتآكل,بين فخذيه وشبيهتها أسفل رأسه,راح كيانا صامتا,هامدأ مستسلما لما يشبه نوم,يكح ويمتد سعاله إلى فحيح وتشنج لتندفع روائح وأصوات من خاتمه لا يستطيع - بفعل علته- إمساكها .
أسفل دسارته المهترئة تجمهر أصدقاء الفراش حول هيكله الهزيل,المرتعد,النحيل الذى كاد أن يلتصق بكنبة خشبية,عارية,متباعدة الألواح, لم يرحمه الناهشون,يتلمس بهرش مواضع جسده المستباح,يداعب حشرات رأسه الجياع,يجاهدهم بكل ما أوتى من عزم حتى يغمض له جفن,يتقلب ذات اليمين وذات الشمال,فلن يفلح فى اجتنابهم,ترك راقده وفضل النوم جالسا على الأرض.
تسللت أشعة الشمس الحامية من خلال مجموعة ألواح متهالكة,لا ترقى للفظ نافذة,لسعته حدتها,لملم بتكاسل وتثاقل جسده المفكك, شمر كاشفا عن ساقيه الصفيفين السوداويين المليئين بالقرح والجروح,وتقرفص على إناء قضاء حاجته,ومسح عوالقها بقصاصة ورق استعملت من قبل لنفس الغرض,التقط حقيبته البالية التى لا تحوى فى الأصل شيئا .
خلف خلوته الخشبية , وحين وطأت قدماه محطة الأتوبيس, غدت الشمس حارقه تشوى الوجوه, احتمى من قيظها بلوحة ماكادت تظل رأسه, وصهد يصنع منه السراب أمواجا يحسبها الظمآن ماءا,مترقبا هو ينتظر الحافلة التى اعتادت أن تقله إلى مكان متجره, رمقها من بعد, استعصى عليه إستيقافها , مرقت أمامه منثرة الغبار على وجهه الذى تشكلت عليه علامات الحنق والتبرم.
اندفع وراءها وخطواته العنيدة تنهب الأرض نهبا, لم يفكر فى النظر خلفه ولم يكن يجرؤ على التفكير فى التوقف لحظة كان خوفه الكبير فى عدم الإلحاق بها , فظل يجري مدفوعا بيد خوف عمياء لا ترحم أمثاله من الثكلى والضعفاء .
ليبلغها مكدودا لاهث الأنفاس , ندت منه ضحكة مقتضبة ساخرة عندما شعر بفقد إحدى فردتى حذاءه, تسلق, ارتقى سلمها, انغمس بين المتشعبطين,المتحاشرين تغلغل بين الكتل البشرية,المتلاصقة,المتلاحمة, بروزات تتداخل فى نتوءات لتسد الفرج والفجوات, يتلاكظون بالمناكب ويتضاربون بالأكتاف.
وقد امتدت أذرعهم وارتفعت أيديهم قابضة متشبثة بقائم حفظ الإتزان الأفقى للحافلة,ووسط الضجيج والعجيج والصراخ والصياح يهب خليطا من عرق الأجساد ورائحة الأقدام لتزكم الأنوف,وبعد أن بلغ الإجهاد منه مبلغه عثر على ما يكفى لراحة قدم,ففضل الوقوف عليها دون النزول.
لفظه بالقرب من مخبأ عمله المكون من مجموعة متراصة من الأقفاص الجريدية أمام حجر كبير يعلوه قطعة من خيش الأجوله ليبدو كمقعد وقطعة من قماش مثبت إحدى طرفيها بوتدين مدقوقتين ببناية لبنية الطوب والآخراوان مرفوعان بعصى من جريد النخل لتقيه أشعة الشمس.
ليجده مهشما , محطمة محتوياته من أكواب زجاجية وصنية ووابور للتسخين وجردل ماء للغسيل , صمت متأملا حاله دونما عمل, فشعوره بأن يد تترصده وقد فغرت قبضتها القاسية دوما لتقتفيه, حالت دون أن ينبس ببنت شفه . . . هكذا كان من قبل أثناء عمله صبى قهوجى دون الثامنة سننا , ومشورجى لجزاره دون الثاني عشر, وتباع لعربة دون الرابعة عشر, وعلى مشارف العقد الثالث وبحكم شيبته المبكرة, أراد أن يكون حرا وينجو من العذاب الأليم .
راح سريحا بصندوق لمسح الأحذية وعندما ناء به جسده,افترش بمقطفه أسفل شجرة ليبتاع للمارة ترمس وجلاب العسل,ولكن حال شكله القذر دون بيع ليأخذ مكان قصى، ربما يجبر الناس على الشراء منه, فلا غيره هنا وهناك , فهداه عقله لتحويل جزء منه إلى عمل شاى وقهوة لعمال اضطروا للشراء منه .
فأمسك حبل بجواره وطوق به رقبته نافرة العروق وربط طرفه الآخر بالوتد المدقوق بالحائط , فألفوه جثة هامدة , معلقة فاغرا فاه , يتدلى منه لسانه, مشاعا لحشرات الأرض الجياع .
ففضل الموت على أن يحيا حياة بلا غرض بلا أمل ,حياة لا حياة فيها , حياة تستكثر على الفقير فتات الغنى .