المبدع الجميل أ . عاطف الجندى هذه أولى مشاركاتى فى منتداكم الرائع و لست أدرى هل هذا شئ سئ لتأخره أم جيد لإستطاعتى التفرغ على أى حال
و اليكم بقصتى المتواضعة :
عندما استيقظ ( غريب ) صباح ذلك ( الثلاثاء ) ، مستعداً بمنتهى الهمة و النشاط لعمله اليومى ، كمراجع حسابات فى تلك المؤسسة العملاقة ، و بعدما ارتدى كامل ثيابه ، تذكر بغتة أن ذلك ( الثلاثاء ) بالذات إجازة رسمية فى البلاد كلها ، بمناسبة ذكرى السادس من ( أكتوبر ) المجيدة ..
و ارتج عليه ..
كان يعشق العمل كالهواء و الماء ..
ليس لأن الزمن أصبح منظومة متكاملة ، لا مكان فيها للمتقاعسين أو المتواكلين .. منظومة كل فرد فيها وحدة أو ترس يتكامل مع الباقين .. ليس لهذا فحسب ..
و لكن لأن ( غريب ) - الذى ما يزال عزباً رغم تجاوزه للـ 35 من عمره - لا يعرف عن نفسه سوى أنه مراجع حسابات نشط ، عقله مبرمج بلغة الأرقام ، و حياته كلها لا تعرف العبث ، أو معنى أوقات الفراغ ..
لذا ..
و بكامل هندامه ..
جلس و ملامحه تحمل ما يشبه الصدمة ..
أو الهلع !
ماذا سيفعل الآن إذاً ؟!
كيف سيقضى يوماً كاملاً فى حياته بدون عمل ؟!
كيف ؟!
كان يعمل حتى فى أيام الإجازات ، بتصريح خاص من رئيسه ، و لكن لأن هذه الإجازة ليست تلك الأسبوعية التقليدية ، فلم يلحق بمواعيد شئون الموظفين لتسجيل تصريح العمل ، أو أنه لسبب ما عجيب ، أصيب بسهو عن هذا الأمر بالأمس ، حتى جاء ( الثلاثاء ) ..
هذا ( الثلاثاء ) ..
لهذا هو الآن مضطرب ..
جالساً بكامل ثيابه فى ارتباك عجيب للغاية ..
إنه نمط نادر كبعض الآسيويين ، الذين يتخذون العمل كنوع من الصلاة للإله .. نوع يقدس العمل و يعتبره بوصلته لو كان سفينة ، و جناحيه لو كان طائرة ، و مقوده لو تحول الى سيارة ..
و عاد يردد السؤال : ماذا الآن ؟!
الطبيعى أن يخرج من المنزل ..
لذا فقد خرج ..
غادر منزله البسيط النظيف المرتب ..
حسناً هو الآن يستقل ( المترو ) النفقى ، فى تمام الثامنة و الربع كعادة كل يوم ..
تغيرت الوجوه ، و قل الإزدحام ، و لكنه نفس قطار ذلك الخط ، بنفس التوقيت ..
و كالمعتاد هبط فى محطة ( البحوث ) ، توجه الى الشركة ، و توقف برهبة أمام بوابتها .. المغلقة فى وجهه ..
هذه حقيقة كثلوج ( سان بطرسبرج ) ، كصحراء ( الأتكاما ) فى ( تشيلى ) و التى تلقب بـ ( سطح القمر ) ، حقيقة كرقص أطفال جزيرة ( بالى ) فوق الجمر !
و فى بؤس نظر الى ساعته ..
واحدة من أفضل و أقوى ساعات اليد فى العالم ، من حيث الدقة و المتانة و مقاومة الماء و الأتربة ، تحدد الوقت عبر وسيلتين مدمجتين ، أشعة الشمس و الأقمار الإصطناعية ، لم يتخلى عنها منذ ابتاعها منذ أربعة عشر عاماً و نيف ، و لا يشعر بالإتزان و الإحساس بوضوح الهدف ، إلا و هى تحيط بمعصمه ..
و كانت عقاربها الفسفورية تشير الى تمام التاسعة ..
كالعادة ..
و لكن العمل نفسه متوقف ..
مصاب بالشلل ..
هل إذن يختل ميزان حياته ، الذى كان مضرب للأمثال ، على مستوى أصدقاء و زملاء العمل ، و حتى بين عائلته فى ( الاسكندرية ) ؟!
أم أن كل هذا الإلتزام طوال عمره ، و كل هذه الدقة التى اشتهر بها منذ أيام الجامعة - و لم يخرقها مرة - قد أصبحا مكشوفين الآن ؟!
التزام لا فائدة منه ..
و دقة جائت اللحظة لتنكسر ..
لحظة تجمدت عندها حياته كلها ..
تجمدت بحق ..!
فبينما ينظر الى ميناء ساعته الأثيرة ، و عند توقيت التاسعة و دقيقة واحدة بالضبط ، إذا بعقرب الثوانى النشط يتوقف ..
هكذا ببساطة أذهلته ..
فاتسعت حدقتا ( غريب ) حتى شملتا محجريه ..
هذا مستحيل ..!
هكذا قالها فى ذهول ..
و سأله أحد المارة الذى سمع الكلمة ، و اعتقد أنه يسأله عن شئ ما ، عما يقول ..
فقال له ( غريب ) أن هذا مستحيل ، لقد توقفت ساعته ..
و هو يقصد حياته ..
فقال له عابر الطريق ، بإستهتار ضاحك :
- ( كل حاجة وقفت ، هى يعنى جت على ساعتك ؟!! )
و اتسعت عيناه أكثر و أكثر ..
كل شئ توقف ؟!!
ماذا يعنى ذلك الرجل ؟!
كلا ..!
كلا .. كلا .. كلا ..!
هو يختلف عن المستهترين ..
هو يختلف عن المتكاسلين ..
هو - بالذات - يختلف عن المتقاعسين ..
و إذا ما كان لحياته كلها معنى ، و إذا كان لكل إنضباطه معنى ؛ فليجد الآن ما يهديه ..
و يجمع نفسه المشتتة ..
الآن ..
الآن و ليس فى أية لحظة أخرى ..
و رفع رأسه ينظر حوله بعصبية ..
لا يوجد ما يسترعى الإنتباه فى الميدان كله ، كل شئ هادئ و عادى بالنسبة ليوم إجازة ، بإستثناء ..!
بإستثناء تلك المرأة ..
كانت غجرية الطابع ، من الطراز الذى يقرأ الطالع إياه ، عبر ما يسمى بـ ( الودع ) .. ربما كانت متناقضة مع الميدان بحداثته و نظافته ، و ربما لأنها كانت تبتسم ..
إبتسامة غامضة تبدو من أسفل الوشاح ، الذى استرخى على نصف و جهها العلوى ، خيل اليه أنها تقصده هو بالتحديد ..
و بلهفة عبر الميدان كله بإتجاهها .. ثم توقف أمامها متردداً ..
لم يخاطب فى عمره أى عراف ، و لم يلتق بأية قارئة طالع ، لأنه ببساطة لا يعتقد فى ذلك الأمر ، و يرى أن الحياة مرتبة بدقة كبيرة ، و لا مجال فيها للأمور الغريبة ..
(( أنت هنا لأنك هنا )) !
قالتها له و هى لا ترى منه سوى حذاؤه اللامع ، و حاول هو تبين عينيها ، قائلا فى عصبية :
- سيدتى .. هل .. هل أنت عرّافة أو شئ من هذا القبيل ؟
صمتت هنيهة بنفس الإبتسامة الخفيفة الغامضة للغاية ، ثم قالت بصوتها المجعد :
- أنت هنا حائر .. لذا فأنا هنا .
لم تبد له إجابة منطقية لسؤاله المباشر ، فتنحنح بعصبية أكثر ، و مال نحوها ظناً منه أنها لا تسمعه جيداً ، و قال بلهجة غير مقنعة ، محاولا تبرير هذا اللقاء لنفسه على الأقل :
- إنما أردت معرفة .. حظى اليوم .
نظرت الى شئ ما فى يديها المصبوغتين بالكامل ، و هو لا يرى منها سوى فمها ، و قالت متنهدة :
- ليس عليك إلا أن تفهم آخر ما قيل لك ، و تنفذه يا بنى .
ثم لملمت حاجياتها الغامضة و العجيبة ، و تأففت بدون مبرر ، ثم رحلت فى هدوء ..
و ظل هو يردد فى ذهنه آخر ما قيل له ، كما أوصت تلك المرأة المباركة ..
(( كل حاجة وقفت ، هى يعنى جت على ساعتك )) ..
ما قاله له عابر السبيل البسيط ..
كل شئ توقف ..
كل شئ ..
كل شئ ؟!!
إذن فحياته أيضاً توقفت ، و هو يكابر ..
إنها المحطة الأخيرة ..
(( ليس عليك إلا أن تفهم آخر ما قيل لك )) ..
هكذا قالت الغجرية التى جائت من أجله ..
(( و تنفذه )) ..
و هكذا أردفت ..
و سينفذه ..
و بآلية جامدة عاد الى منزله ..
و جلس أمام شاشة تلفازه المغلق ..
فتحه ..
رأى منظراً بديعاً لجزيرة وحيدة صغيرة خضراء ، وسط محيط أزرق ضخم شاسع غير متناه ..
و كما توقفت الساعة منذ قليل ..
توقف المشهد على الشاشة ..
و تجمدت نظرته ..
لدقائق طويلة لم يشعر بها .. كان ( غريب ) ..!
أمام الجزيرة ..
و ظل ( غريب ) أمام الجزيرة ..
أصبح ( غريب ) فى الجزيرة ..
بسلاسة ..
وحده ..
فى الجزيرة المنفردة ، وسط المحيط الواسع ..
ترك العالم كله ..
و هناك ..
عادت ساعته الى العمل ، و لم يسعده هذا كالمتوقع فقد عرف ..
و المعرفة تلغى الإنفعالات ..
علم أنه لابد للمرء أن تأتيه اللحظة ، التى يتوقف فيها عقرب الثوانى ..
و لقد حدث له فى صباح هذا اليوم ذلك التوقف ..
أخيراً فى هذا اليوم ..
* * *
] تمت بحمد الله [
بقلم / عصام منصور