لأن الوجود البشري هو في صميمه حوار مع الله, لا يتوقف طموح المؤمن عند محاولة الإشراق بنور الله وهو ما لا تبلغه بصيرته إلا في ذروة إحساسها بالاكتمال والتوحد مع سر الوجود.
وعندها تتحقق النشوة, أي خروج المؤمن من الخبرة الدنيوية العادية بحيزها المحدود, ومعرفتها الجزئية, إلي خبرة أخري( مقدسة) تطمح إلي الإدراك الكلي للحقيقة المطلقة, ففي حالة النشوة تلك, تتطابق الأشياء التي تبدو منفصلة بل وحتي متناقضة, وتكشف عن وحدة غير متوقعة.
هذه النشوة هي ناتج انفعالي غير عقلاني, أي أنها تصدر عن حالة انفعالية تتخطي العقل التحليلي, لتنتج صورة ذهنية مباشرة تعكس تلك العلاقة الكلية بين الذات/ الوعي, والعالم/ الوجود. إلا أنها ليست انفعالا صرفا بل نشاطا يصدر عن ذهنية لم تتعلم بعد كيفية تجزئة موضوع معرفتها وتحليله ثم إعادة تركيبه. إنها نوع من الحدس بالكليات أو من الوعي الكوني المنطلق من باطن إنسان أشرقت روحه بالحضور القدسي لقوة علوية قد تكون متسامية علي الوجود تحمل اسم( الله) كما هو الأمر في الديانات التوحيدية حيث تتحقق النشوة من خلال ظواهر من قبيل القبالاه في اليهودية والرهبنة في المسيحية والتصوف في الإسلام, وجميعها تتضمن ممارسات لقمع الرغبات المادية, والسيطرة علي الجسد الإنساني بغية توفير حال الصفاء والشفافية التي تسمح بانطلاق الروح نحو خالقها وملامسة حضوره القدسي. وقد تكون سارية في باطن الوجود تحمل مسميات أخري غير الله وإن لعبت دورا مشابها لدوره ـ جل شأنه ـ في خلق الكون والعناية بالإنسان والتحكم في مصيره, كما هو الأمر في الديانات غير السماوية, خصوصا الآسيوية التي نتوقف عندها في هذا السياق.
ففي المجال الحضاري الآسيوي ثمة تقاليد دينية ثلاثة أساسية:
أولها التقليد الهندوسي الذي يتمحور حول( براهما) وهو ذلك الإله المحايد الذي يفلت من الإدراك الحسي, إذ يتصور علي أنه الكلي اللا متمايز واللا متناهي بالمرة, وهو العلة الأولي, وروح الكون العليا ومنه ينبثق العالم بأسره. وغاية الهندوسي المؤمن هي الصعود بلا توقف للقضاء علي الهوة القائمة بينه كمتناهي وبين البراهما, اللامتناهي, ولكن وقبل أن يفلح في بلوغ درجته القصوي تلك يكون كل شئ في جسد الهندوسي قد تبخر وتلاشي.. لهذا لا يعرف الهندوسي أي تصالح حقيقي مع البراهما, وإن عرف الفناء فيه. ويعتبر هذا الفناء, الذي يصل إلي حد غيبوبة الوعي التامة, أسمي حالات الغبطة التي بفضلها يغدو الهندوسي قادرا علي الوصول إلي القوة الأسمي.
ووفقا لوجهة نظر الأوبانيشاد( الكتاب الهندوسي المقدس) ثمة خطأ عميق يتمثل في اعتقاد الإنسان بأنه ذات حقيقة مستقلة عن وجود البراهما, مما يتسبب في بقاء الإنسان واقعا في شراك العالم المادي, أما الخلاص من هذا الشراك فلا يتم سوي بوصول الفرد إلي حالة من الوعي تسمح له بولوج عالم الحقيقة, وذلك عبر ومضة يقين مثيرة للفرح وسط تأمل باطني عميق يقود إلي حال النشوة, هذه الومضة بدورها هي الهدف النهائي للهندوسي المؤمن السائر علي طريق المعرفة والحقيقة.
وأما البرهمية, وهي طبعة ثانية للهندوسية فتصوغ علي نحو فلسفي أعمق وربما أدق المعتقدات الهندوسية نفسها, وتدور في فلك الإله نفسه( براهما), فتري في هذا العالم الشاهد عدم محض, وتغيرا لا يشوبه استقرار ولا يطرأ عليه دوام. وفي وجهة نظر البراهمة, فإن المفارقة كاملة بين الإله المستتر براهما وهذا العالم فهناك وجود واحد وعدم, وكامل كل الكمال وناقص كل النقص, وخير كل الخير وشر كل الشر, ودائم كل الدوام ومتغير كل التغير. ولكن بجانب قصر الوجود علي براهما وإطلاق العدم علي هذا العالم, يري البراهمة أن براهما حال في هذا العالم, أي حال في العدم, كما أن الخير حال في الشر, أو الكمال حال في النقص, أو الدائم حال في اللا دائم.
وهكذا تتحدد خطة البرهمي في ضرورة الخلاص من النقص والشر والعدم من خلال تخليص الروح من الجسد المادي الذي يحل فيه والذي يمثل وعاء الوجود الإنساني( الدنيوي) حتي يعود الوجود الروحي إلي وصفه المطلق, وينطلق من إسار هذا العدم الناقص الشرير, الذي كان قد حل فيه!. أي التخلص من الشر, وهو ما له جسم, والتقرب من الخير( الحال) في هذا الجسم, وهو( براهما) الذي وصفه أو فسره خاصة البراهمة بـ( العقل) أو( الروح). فمهمة البرهمي إذن تنحصر في أمرين: التقرب إلي العقل من طريق التفكير, والابتعاد عن مطالب الجسم وشهواته بالمبالغة في الزهد, فعلي قدر هذه المبالغة يتوقف خلاص الإنسان من الشر. كما يتوقف عليها صيرورة الإنسان( براهما) أو عقلا خالصا, وبالتالي سعيدا تام السعادة, ولذا يعد مشروعا في الديانة البراهمية كل وسيلة تحقق الإفناء, كالصوم لغير أجل معلوم.
والتقليد الثاني هو البوذي الذي لا يتمحور حول إله مركزي أو مقولات ميتافيزيقية, بل ينهض علي طريقة في العيش تقود إلي رياضة النفس وقمع الشهوات, والتحلي بالفضائل, والحصول علي العلم. وحسب كلمات( جوتاما بوذا) مؤسس الديانة, لا يحتاج الإنسان لإله متسامي لأن المسألة ليست في الطريقة التي يفلسف الإنسان بها وجوده, بل في طريقة إحساسه بهذا الوجود. من هنا فإن عليه ألا يبدد جهده الفكري في الغيبيات, بل أن يحصره في فهم رغباته والتحكم بها عن طريق الإرادة, لأنها مكمن الخطر عليه.
وفي سياق سعيه إلي التحكم برغباته ينشغل البوذي دوما بعالم الروح.. عالم اللانهاية, ومن ثم فكل شئ في عالمنا الفاني المحدود هذا لا قيمة له عنده ولا وزن, ولا طريقة للتعامل معه سوي عبر النيرفانا واليوجا.
النيرفانا باعتبارها طريقة للاندماج في الكون دمجا يزيل الفواصل التي تميز البوذي من محيطه, وتذيبه في الوجود ذوبانا يتلاشي معه, فلا يبقي من ذاته المتميزة أثرس, لأنه يؤمن بأن الوجود وحدة واحدة, وأنه لا يعدو مجرد جزء من الكون المشهود انفصل عنه في لحظة سابقة, ولا يبغي منذ انفصاله سوي العودة إليه, فعندئذ فقط, أي عندما يعود الجزء إلي الكل, تتحقق له غاية وجوده وهي الفناء.
واليوجا طريقة لترويض الجسد الإنساني, الذي لا تصير له أهمية في ذاته لأنه جزء من عالم المادة الفاني, وتنبع قيمته فقط من كونه وعاء لروحه الخالدة, ومن ثم لا يتواني البوذي عن محاولة قهره ليكف عن الإلحاح برغباته التي تطمس نقاء الروح الإنسانية.
وهكذا تعطي البوذية مثالا متميزا, بل ونقيضا للهندوسية, في طريقة الخلاص. فلما كان الجوهر في البوذية هو العدم, فإن الخلاص يكون عن طريق التوحد مع العدم والانعتاق من الوجود/ الحياة بكل مظاهرها: الوعي, العواطف, الإرادة. فالسعادة هي في الاتحاد مع العدم, والتحرر التام من الوجود, حيث يقترب الإنسان من السعادة القصوي بمقدار تحرره من مظاهر الوجود. بل إن الإنسان يمكنه أن يتحرر من الشيخوخة والموت والمرض عن طريق التأمل والعودة إلي الباطن والوصول إلي حالة النيرفانا, بوصول الفرد إلي أعلي درجات الصفاء الروحاني, والقضاء علي جميع رغباته المادية التي تجعل الحياة بحكم الضرورة دنيئة أو ذليلة مروعة.
وأما التقليد الثالث فيمتد في المجال الحضاري الصيني ويتوزع علي ديانتين إحداها الكونفوشية, والأخري التاوية.
الكونفوشية ديانة بلا إله كالبوذية, سعت إلي التواصل مع القدسي عن طريق التناغم مع الحركة الكونية, إذ اعتبرت أن الإنسان هو أكثر الكائنات عرضه للانحراف عن التناغم الكوني لأنه أكثرها حرية. وأن عليها استعادة هذا التوافق والانسجام مع القوانين التحتية للكون عبر اتباع القانون الأخلاقي الصارم أو الـ جينnej والذي يعني تحديدا الإحسان, ولكنه في معناه العام ما يجعل الإنسان كائنا أخلاقيا صرفا. هذا الجين, باعتباره صورة وانعكاسا للقانون الكوني, هو قانون غير مفروض من الخارج بقدر ما هو التزام داخلي يقود في النهاية إلي الاستنارة الباطنية التي تقود إلي الخلاص. وهكذا لا يأتي هذا الخلاص نتيجة فضل أو منة علوية بل نتيجة كدح روحي لا تلعب الطقوس والعبادات فيه دورا رئيسيا, فما يبدو شبيها بالطقوس والعبادات في الكونفوشية ليس أكثر من إجراءات تطهرية تهدف إلي تحضير النفس لحالة الاستنارة الروحية الداخلية.
أما( التاوية) فلا تعول هي الأخري علي إله خالق مشخص وإنما تضعنا أمام عدد من التصورات الفلسفية والدينية يأتي علي رأسها الـتاو(Tao), والذي ينظر إليه مؤسسها الحكيم لاوتسو باعتباره ذلك المجال القدسي الذي يعد جذرا لكل الأشياء, فهو يغذيها, ويمنحها الحياة. ومن ثم فإن العيش في اتساق مع التاو إنما هو عودة إلي جذور المرء يمكنه من الاتحاد مع مصدر الوجود من جديد. وما يتميز به مفهوم التاو كمستوي قدسي خفي غير مشخص عن الآلهة المشخصة هو أن آثاره لا تظهر من خلال ممارسة سلطة مباشرة بل من خلال تلقائية طبيعية لا قسر فيها ولا إكراه. أما الخلاص فيتحقق عن طريق تحقيق التوازن الكوني بين( اليانج, والين) وهما لدية أشبة بقطبين متناقضين علي صعيد مستويات الوجود كلها, يتوجب التوسط أو الجدل فيما بينها, لأنه لا قيام لأحدهما إلا بوجود الآخر. وهو توازن يقود إلي الطريق الكونفوشي نفسه حيث التناغم والانسجام مع القوانين التحتية للكون.
وهكذا يصوغ كل من لاوتسو وكونفوشيوس تعاليمهما حول طريقة الخلاص في المجال الحضاري الصيني بطريقة الحكماء لا الأنبياء, وعبر التلاؤم مع النظام الكوني فالإنسان ليس كائنا مستقلا عن الكون والطبيعة, وما عليه لكي يعيش حياة متزنة سعيدة إلا أن يلتمس هذا النظام ويسلك في اتفاق معه. وعند هذه النقطة يختلف الحكيمان, فبينما يركز كونفوشيوس علي القانون الأخلاقي في المجتمع باعتباره صورة للقانون الكوني, وعلي ضرورة إدراك القواعد الأخلاقية وتلقينها للأجيال, يركز لاوتسو علي ضرورة إدراك النظام الخفي للوجود وشمول هذا النظام للإنسان والكائنات الحية جميعها, والذي من شأنه أن يضع الفرد في حالة تناغم تام مع الكون والطبيعة, الأمر الذي يدفعه إلي تبني السلوك الأخلاقي دون حاجة إلي تلقين أو إلي إتباع لوائح أخلاقية مفروضة. ومن هنا تخلو التاوية الأصلية من العبادات والطقوس المعروفة في الديانات الأخري, ولا تنشغل سوي بالتأمل الباطني الذي يحاول الإنسان من خلاله التواصل مع منبع الحقيقة, أو مع القوة القدسية الحالة في الكون والتي لا يعرف لها متصوفو الديانات السماوية اسما سوي( الله) جل شأنه