دور الكلمة في الأدب والحياة
أيمن أبومصطفى
الأدب هو ما عبر عن العاطفة باستخدام الكلمات التي تتناغم مع الحالة النفسية واللحظة الشعورية التي يمر بها الأديب وقت إبداعه هذه الكلمات ، وما من شك في حاجة قارىء أو سامع الأدب لتمثل هذه اللحظة التي مر بها الأديب،شاعرا كان أم كاتبا, فالشاعر والقارىء شريكان في هذه اللحظة ، فلن ينفعل مع الكلمات إلا من لمس حرارتها حتى تقص له ما بها من معاني قد تغيب عن غيره , فعلى المتلقي أن يتمثل حالة المبدع كي ينعم بروح الشعر.
وما الشعر إلا كلمات لكنها صنعت في معين الشاعر الشاعر ليست هذه الكلمات كما يظن بعض الناس وليدة اللحظة التي قيلت فيها ، وإنما هي طفل ولد منذ زمن طويل غذي وربي في نفس الشاعر رضع الأحزان ممزوجة بالأفراح ، نما ونما ثم خرج إلى حيز الوجود جديدا قديما ، وكأنه ولد مرتين ، فكل كلمة تقع عينك عليها لها حمل ومخاض ، ولها قصة دامية مع الشاعر ، حتى إنك تستطيع من خلال الكلمات أن تقرأ نفس الأديب ، فهي تصور أحلامه وآماله وآلامه ، ترسم ماضيه المكلوم ، وتصف غده المشئوم ، لا تعرف قيود الزمان أوالمكان ، تصف ماتريد ، وتقصد الهدف دون أن تحيد ، ألم أقل لك إن الكلمة هي سر الأسرار ؟!
وما الكلمات إلا صور وشفرات لما اختفى وراء أستار القلب من عواطف وانفعالات ، وليست تأتي اعتباطا دون قصد ، فلكل شاعر معجم لغوي كونته ثقافته وموهبته ، فكل لفظ يكتبه المبدع إنما هو خلاصة تجربة مر بها ، وربما دار صراعا بين الألفاظ التي تتزاحم في مخيلة الشاعر حتى يتصيد المبدع أحدها أو قل أكثرها ملاءمة لحالته ، فاقرأ الشعر بروحك فما الشعر إلا حديث الأرواح.
فبالكلمة تعرف الرجال ، وبالكلمة يحسم القتال ، فهي دائما تسبق الفعال ، وتفوق حدتها النصال ، هي في الحرب سيف قاطع ، وفي السلم لحن بارع ، وفي الليل نجم ساطع ، وفي عالم الحب والشعور تصل الكلمات بين القلوب ، تنتقل خلسة فتنفتح لها مغاليق القلوب ، وتنساب بين الضلوع كما تنساب المياه بين الشقوق ، فلا تدري أنها تسري حتى تراها قد عمت السطح بعد أن غمرت القيعان ، فترى الحبيب يبدي شوقه بالكلمات ، ويرثي حظه بالكلمات ، ويقف حائرا بين بين وذلك أيضا بالكلمات ، وكأنما الكلمة هي السر الذي لاتنفتح القلوب إلا به ، ولا تلين إلا له .
ولكن هذه الكلمة يمكن أن تكون سما قاتلا، وسهما خارقا، وداء ليس له دواء، فعن أم سلمة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ ، أَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ وَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَدَعْهَا " ( البخاري ك الأحكام 6648 ) وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا التفاوت فى البيان بقوله : " فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ " من هؤلاء الخصم الذين يأتونه ، فيأتي هذا البليغ القادر على البيان بحجج تشوه الحقيقة إلى حد تغيم معه الرؤية فى نظر الذي يقضى ، وفى هذا بيان لغاية غير أخلاقية قد تستعمل فيها البلاغة ، وفى ذلك يقول سهل بن هارون " سياسة البلاغة أشد من البلاغة ، كما أن التوقِّى على الدواء أشد من الدواء " وسياسة البلاغة أي السيطرة عليها وابتغاء الحقيقة فى استعمالها ، فإذا كانت البلاغة عسيرة لا تتوفر لكل إنسان ، فإن القدرة على توجيهها بحيث لا تستعمل إلا لكشف الحقيقة لاتتيسر لكل قادر عليها .
ومن هنا أيضاً كان قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لسِحْرًا " ، وقد جاء فى تتمة الرواية أن المقصود بسحر البيان أن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق ، وبذلك يتصدى الحديث النبوي نظرياً لاستخدام القدرة البلاغية فى أمور مخالفة للحقيقة ، مع الإقرار بوقوع هذا السلوك من البشر فى مواقفهم وتعاملاتهم .( )
والواقع أنّ سحر الألفاظ وجمالها يخدم مبادئ متعارضة، فهو يؤيد الدعاية والاستمالة البعيدة، ومعنى سحر الألفاظ هو تأثير اللغة الجميلة في النفس، وأنّ لفظ السحر يعني إغراء الكلام أو القدرة غير العادية على أن يصرفك إليه دون أن يكون لذلك سبب واضح أو حجة مقنعة. ومن الأمثلة التي ضربها أرسطو لهذه الغاية كلمة " الشفاعة "و" التضرع " وهما داخلتان تحت جنس واحد ، وهو المسألة ، ولكن التضرع أخس من الشفاعة ؛ وذلك أن التضرع يكون ممن هو دون المسئول ، والشفاعة تكون من المساوي للمسئول، فإذا أراد المتكلم أن يحسن التضرع سماه شفاعة ، ومتى أراد أن يحقر الشفاعة سماها تضرعا .
ومن أمثلة ذلك أيضا أن المتكلم إذا أراد أن يعظم أمر مَنْ سرق قال إنه أغار ، وإذا أراد تحقيره قال إنه خان ، وذلك أن هذه الأفعال " سرق – أغار- خان" كلها داخلة تحت أخذ المال دون عوض ،وقد عرض الفائز في سباق البغال على الشاعر " سيمونيدس" أن يمدح بغاله الفائزة في السباق بقصيدة من شعره لقاء مكافأة ضئيلة ، أحجم إذ رأى أنه لا يليق به أن يكتب عن بنات الحمير ، لكنه لما أجزل له المكافأة نظم قصيدة قال فيها :" سلام عليك يا بنات الجياد اللواتي ينتعلن الريح" .
من هذا المنظور، ينبغي التمييز بين نوعين من اللغة، أحدهما صادق حقيقي، والثاني خلاّب ومستحبّ، وقد يتجمع هذان النمطان في قول واحد، وقد يفترقان، وربما لا يكون للحق ميزات ظاهرة، وربما يجتمع للباطل أوجه استحسان باهرة وحسن البيان يرى الظلماء كالنور .وقد عبر ابن الرومي عن قدرة البلاغة على المخادعة والمغالطة بقوله :
في زُخْرُفِ القولِ تزيينٌ لباطِلِهِ والحقُّ قَدْ يعتريه ســوءُ تعبيرِ.
تقول هذا مجـاج النحل تمدحه وإن ذممت فقل قيء الزنابيــرِ.
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما حسن البيان يُرِي الظلماء كالنورِ.
وهناك إشارة من القرآن الكريم تدلّ على المفارقة بين القول الذي يغري الإنسان بالاستماع إليه والحق البريء من الزينة. والقرآن الكريم يشير مرة أخرى بقوله: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ " ويقول أيضا:
" وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ ":
ففي هذين المقامين ندرك ما يسمى بـ"الاستمالة"، وقد نظر إليها القرآن نظرة تحذير إذا كانت استمالة غير مشروعة.
إنّ البلاغة العربية القديمة اتصفت بوجوه من الخداع والرياء المقبول وغير المقبول؛ ولذلك قال الجاحظ: "اللهم إننا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، كما نعوذ بك من العجب بما نحسن" .
وعن دور الكلمة أنقل لكم جزء من قصيدة لغبد الرحمن الشرقاوي:
حوار يدور بين الوليد وبين الحسين رضي الله عنه:
الوليد: نحن لا نطلب الا كلمة فلتقل بايعت واذهب بسلام الى جموع الفقراء....فلتقلها واذهب يابن رسول الله حقنا للدماء
فلتقلها ما ايسرها ان هي الا كلمة
الحسين: كبرت كلمة
.....وهل البيعة الا كلمة
وما دين المرء سوى كلمة
وما شرف الله سوى كلمة
ابن مروان بغلظة: فقل الكلمة واذهب عنا
الحسين: اتعرف ما معنى الكلمة
مفتاح الجنة في كلمة
دخول النار على كلمة
وقضاء الله هو كلمة
الكلمة لو تعرف حرمه زاد مزخور
الكلمة نور
وبعض الكلمات قبور
وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري
الكلمة فرقان بين نبي وبغي
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
اضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية
ان الكلمة مسئولية
ان الرجل هو كلمة
شرف الله هو الكلمة
هذا وبالله التوفيق.
ألقيت هذه المقالة في مهرجان القراء للجميع الذي أقامه قصر ثقافة أبوحمص هذا العام.