شعريات العلوم ومستقبليات الأدب (1)
أ.د. أيمن تعيلب
مؤتمر مطروح مايو 2010 ربما يكون عنوان بحثتا غريبا بعض الشىء، إذ المعتاد أن نقول شعريات الأدب لا أن نقول شعريات العلوم، والحقيقة أننا نريد أن نخرج فى هذه الدراسة الجديدة عن المجال الكلاسيكى التقليدى للشعريات العربية المعاصرة، لنتفق مع أحدث التصورات العلمية والفلسفية المعاصرة فيما تقره من بلاغة العلوم التجريبية إلى جوار بلاغة العلوم الإنسانية، فقد صار المجاز القاسم المعرفى والجمالى بين بنية العلوم وبنية الآداب، وصرنا نفكر بالمجاز لا أن نشعر به فقط، ولعل هذا التصور هو ما حدا بالعالم المصرى الكبير مصطفى مشرفة فى ثلاثينات القرن الماضي إلى إقرار هذه العلاقة المستحدثة بين العلم والتصوف فى كتابه الهام" مطالعات علمية" بقوله: "قد يظهر لأول وهلة أنه لايمكن أن تكون هناك صلة بين العلم والصوفية فالعلم يطلب المعرفة من طريق الحواس، وتتطلب المعرفة فى حالة نفسية لاتتفق مع التفكير الصحيح، العلم لايقتنع إلا بما يستنتجه المنطق مما يرى، والحقيقة فى رأيه هى هذا العلم المحسوس الذى يلمس ويسمع وينظر، أما الفيلسوف الصوفى فيدعى أن كل ما يلمس ويسمع وينظر إنما هو ظلال للحقيقة وإن وراء هذه الظلال توجد الحقيقة الأبدية التى لاتصل إلى الحس ولا تدركها العقول0000 هذه الفوراق الوهمية ربما حدثت بين عالم وفيلسوف صوفى فى القرن الماضى إلا أن العلم والفلسفة قد تطور كل منهما فى أوائل هذا القرن بحيث اقتربت وجهتا النظر وأصبح من الميسور أن يتفاهما0000 وإذا ضربنا المثل بجاذبية نيوتن، فالأرض تجذب التفاحة، ولكن ما هى هذه القوة التى تجذب الأرض بها التفاحة؟؟! نحن نعلم أنه لايوجد ارتباط مادى بين الأرض والتفاحة، فكيف إذن يمكن أن تشد الأرض التفاحة؟؟ ألا يرى القارئ أن نيوتن اضطر إلى افتراض وجود عامل خفى لاتتسنى مشاهدته لكى يفسر حركة التفاحة؟؟ هذا العامل الخفى - أو العفريت الاصطناعي - هو ما سماه الجاذبية الأرضية000 فالجاذبية كانت لاتزال نوعا من السحر العلمي والقول بوجودها هو القول بوجود سر من الأسرار الخفية فى نظام الكون أو طلسم من الطلاسم التى لاتصل إلى كنهها العقول" (2)
وما يلمح إليه مشرفة بعبقريته العلمية التخييلية بمصطلح "الفوارق الوهمية" بين مجالات العلوم وتخييلات الفنون، أو ما يخضع للعقل التجريبى وما لايخضع له، هو ما توصل إليه أينشتين أيضا عندما قال: "الخيال هو المهندس الذى يضع تصميم النظرية الفيزيائية مستعينا بما تنقله التجارب والملاحظات الدقيقة"(3)، وهو نفس ما توصلت إليه أيضا (هاردنج) فى قولها " إذا كان العلم قد عنى بالملاحظة الدقيقة طوال حياته، ودرب نفسه على التنقيب عن أوجه الشبه بين الأشياء، وتسلح بالمعرفة المناسبة حينئذ تصبح "أداة الإحساس" فى يده بمثابة عصا سحرية قوية الأثر، فالإحساس يلعب دورا رئيسيا فى العلم الخلاق، وكتب العالم "تندول" يقول: كان انتقال نيوتن من تفاحة ساقطة إلى قمر ساقط عملا من أعمال الخيال المتأهب"(4)، ولعلنا لو تأملنا قول الشاعر الفارسى جلال الدين الرومى عن الأرض:
" لأن الحكيم رأى
أن السماء بيضة والأرض مثل المح
قال السائل: كيف تبقى الأرض وسط محيط السماء مثل قنديل معلق فى الهواء لا إلى أسفل يذهب ولا إلى أعلى
قال الحكيم: إنها من جذب السماء
من الجهات الست، تظل فى الهواء،
كما فى قبة من المغناطيس
يبقى الحديد معلقا فى الوسط"(5)
لو تأملنا قول الشاعر هنا علمنا مدى ما تمدنا به حدوس الشعراء من تجديد آفاق الخيال وتوسيعها، وقد قال الرومي قصيدته هذه قبل نيوتن بأربعة قرون، ثم جاء نيوتن ليقر بالعلم ما حدس به الخيال، أو قل ما أقره الخيال آنفا، فكل ثورة علمية مسبوقة بأنماط من الأخيلة المتعددة تؤدى إليها، ونحن هنا لسنا من الفريق المولع بتفسير المستقبل لصالح تصورات الماضى، ولانقول بأن تراثنا القديم ولاحتى تراث العالم من حولنا قد وجد حلولا حاضرة فى ماضيه، لقد تجاوز العالم المعاصر هذه التصورات الفكرية المغلوطة، فقد سيطر على القدماء هموم حضارية وفكرية وجمالية خاصة بهم وبعصرهم، وسعوا جاهدين للسيطرة على همومهم بطرقهم المعرفية الخاصة بهم، وانتهى زمانهم وليس من العافية العقلية والروحية لنا أن يكون كل همنا المعاصر اجترار الماضى، فليس هناك ماض ثابت بالمعنى العلمى والعملى معا، فنحن عندما نجتر الماضى فى حاضرنا الآنى نجتره بطرائق حاضرنا أيضا، وعندما نعى حاضرنا لا نستطيع تصوره بدقة مفصولا عن ماضينا بوصفهما متصلين عقليين معا وما أود التأكيد عليه هنا هو وجوب تعديل نظرتنا للخيال بصورة عامة فى الثقافة العربية المعاصرة، حتى لا نتصوره مجرد بهلوانات خيالية بيانية، أو تزيين زخرفى وظيفته تحسين الكلام، واستمالة مشاعر المتلقى وكفى، أو حتى مجرد الجمع الخلاق بين الحقائق المتباعدة المتنافرة بغرض الخلق الفنى ثم الإمتاع والتأثير فى المتلقي، فالأمر فيما نرى فى هذا البحث أبعد من متعة التلقى وفائدة الجمال بكثير، فيجب أن نتصور الخيال الأدبي بوصفه معرفة وجدانية خيالية كشفية للوقائع المادية العينية الفعلية، معرفة تضاهى فى قيمتها ـ إن لم تفقها ـ المعرفية المادية التجريبية التى تمدنا بها العلوم التطبيقية التجريبية، بحيث نتمكن من رؤية واقعنا عبر أطر استعارية إدراكية مادية موضوعية جديدة، فالخيال خلق بالمعنى الفعلى العملى للخلق، ولن يكون الخيال فعالا مالم يدشن له حدودا جمالية معرفية موضوعية قادرة على الاستبصار المادى الفكرى بالواقع وإحداث تغييرات جوهرية جذرية فيه، الخيال لا يكتفي بمجرد إشراقة الوجدان، وإمتاع الإنسان، وقد أشار الشاعر الكبير عبد الرحمن شكرى فى ثلاثينات القرن الماضى بأن الخيال غير الوهم ثم تتابعت التصورات الجمالية والمعرفية للخيال فى شتى مدارسه وتصوراته مجليا الوظيفة المعرفية والجمالية والإدراكية للخيال فى العلوم الإنسانية عامة، وفى علم النص الأدبى خاصة، فيجب أن نعيد النظر مرة ثانية فى تصوراتنا الجمالية العربية عن حقيقة الخيال الأدبي، ووجوب رأب الصدع المعرفى فى ثقافتنا العربية المعاصرة بين خيال البيان وخيال التقنية، وما يتجاذبانه من حدود معرفية ووجدانية وفلسفية وجمالية متعددة، وجميع حدوس الشعراء والعلماء الكبار السابقين تؤكدها نظرية المعرفة المعاصرة فى إقرارها التأسيسى لمنظور العلم الجديد بمنطق الحقيقة الرمادية، ومواقع اللا تحدد، واللا يقين، وانهيار مبدأ المقايسة، وظهور مبدأ الفوضى، والفئات الغائمة، والتشوش، والعلائق المنظومية الفوضوية، وإدخال بنية التخيل والذاتية فى الحد العلمى للمعرفة، وظهور سؤال الجهل بما هو حد للمعرفة وليس سؤال العلم، كل هذا قد فتح الباب واسعا لتداخل العوالم المتعددة وتشابكها بصرف النظر عن استقلالها وتمايزها، فقد انهارت فكرة الحد العلمي الصارم كما ألمحنا من قبل سواء على مستوى العلوم التجريبية، والعلوم الإنسانية، وظهور العصر الشبكى، والأنظمة المتعددة المتداخلة. ولأمر ما كانت إحدى دلالات الشعر فى مصطلحنا النقدى قديما تعطى معنى " العلم" وبهذه المثابة نستطيع أن نعيد هذا التصور القديم، وفق مفهوم معاصر يرى إلى النص الشعرى بوصفه نصا خلاقا على كل المستويات الجمالية والمعرفية والمادية معا، وليس مجرد علاقات لغوية بيانية جمالية هدفها الإمتاع والتأثير كما هو شائع فى الخطاب النقدى المعاصر، بل النص يبدأ من النفس ليتجاوزها، ومن المجتمع ليسمو به، ومن الموروث اللغوي والبلاغى والنقدى ليعدله من جديد، ومن محطات حضارية محددة ليحدس بمحطات حضارية مجهولة قادر على استشرافها والتنبؤ بها، الخيال يتجاوز البنى المادية بنفس قدرته على تجاوز التصورات المعنوية، والنص الشعرى هو الذروة من شجرة العلوم كلها يقول محمد حسين هيكل فى كتابه " ثورة الأدب " "فالأدب هو رحيق الفلسفة والعلم والتشريع وسائر ميادين المعرفة الإنسانية000 والأديب الجدير حقا بهذا الاسم هو الذى يستصفى هذا الرحيق بسمو عبقريته وقوة نبوغه وهو الذى ينبت من حقول العلم والفلسفة وما إليها أزهار الأدب، والذى يستخلص من مناجم التشريع ويستلهم من سماوات الفلك هذا النور الإنسانى الذى سارت الإنسانية على هداه متوجهة نحو الكمال"(6)
فالنص الشعرى بهذا التصور ينفتح على الفكر والعلم والفلسفة والعقائد والبنية الثقافية المادية العامة، كما ينفتح على التقاليد الجمالية جميعها شرقا وغربا، متمثلا هذا التصور الشعري الكلى للوجود، مضيفا هذه القيمة المعرفية الجمالية الكلية التى تمثل خلاصة الوعى بالعالم الآني، والقدرة على الحدس بعالم آخر مستشرف، ومن هنا يلعب الخيال دورا وجوديا تأسيسيا على المستوى الجمالي والمعرفي معا، بالمعنى الوجودى الفعلى الواسع للتأسيس، جامعا بين عالمي الغيب والشهادة، بين الجزئى والكلى، أو بتعبير مصطفى مشرفة القدرة على الجمع بين ملكة الوعى بالعالم المرئي، وجسر الصلة بينه وبين روابط العوالم الخفية، والخفاء هنا لا يكون وهما تصوريا، أو حتى تصورا مثاليا، بقدر ماهو واقع مادي فعلى لكنه غير مرئي، إنه غير خاضع حاليا لوسائلنا الآنية فى المعرفة والوعي والإدراك والتخيل والاستنباط والاستقراء وكافة وسائلنا فى المعرفة والوعى، إن الواقع ليس له حدود وهو أغرب من الخيال حقا، الواقع مستويات متعددة، وعوالم متباينة متداخلة مترامية، لقد تقاربت المسافات فى القرن الواحد والعشرين بين ما هو علمي وما هو أدبي، بين ذكاء التقنية وذكاء الحدس، لقد انهارت الحدود الثنائية، وبدأ عصر العوالم المتعددة المتداخلة، نحن نعيش بالاستعارات العلمية كما نعيش بالاستعارات الأدبية، وتصوراتنا عن المادة والروح والنفس والطاقة، والزمن والحب، والكواكب والمشاعر، هى تصورات واحدة متداخلة متشابكة، والتغير الجذرى الذى لحق بجل المفاهيم السابقة سينال جميع وسائلنا فى الإدراك والوعي والخيال، كما سينال جميع قيمنا التى نعيش بها، ويواصل مصطفى مشرفة فى دراسته السابقة ملاحظة تقارب المسافات بين العلم والفن، أو قل بين الشعر والتصوف بقوله " ثم جاء إينشتين بنظرية النسبية وجاء دى برولى وشرويدنجر بأن المادة إن هى إلا أمواج فى لاشئ لا سبيل إلى وصفها إلا باستعمال الرموز الرياضية المعقدة فتلاشت الأسس المادية التى كان العلم يبنى عليها صرحه واستعضنا عنها بمعادلات رياضية هى فى ماديتها أوهى من نسيج العنكبوت، ولكى أدل القارئ على موقف العلم إزاء الفلسفة الصوفية سأنقل له ترجمة عن آرثر أونجتين من أكبر العلماء الفلكيين والطبيعيين من كتابه " كنه العالم الطبيعى" حيث يقول: " كلنا يعلم أن هناك أنحاء من النفس البشرية غير مقيدة بعالم الطبيعة، ففى المعنى الخفى للخليقة التى تحيط بنا وفى التعبير الفنى وفى النزوع إلى الله فى كل هذه تطمح النفس إلى العلى، وتجد تحقيقا لشئ مودع فى طبيعتها، وتبرير هذا الطموح داخلي فينا، فهو محاولة من جانب إدراكنا أو هو نور داخلي ناشئ عن قوة أعظم من قوتنا، والعلم يكاد يقدم على الشك فى تبرير هذا الطموح، إذ أن الرغبة فى العلم هى نفسها ناشئة عن وازع داخلي لا نقوى على ردعه، فسواء فى الاستزادة الفكرية من العلم أو فى سائر النزعات الروحية الخفية فى كلتا هاتين أمامنا نور يجذبنا إليه، ونحن نشعر بالرغبة فى السعي نحو هذا النور، ألا يكفى أن نترك المسألة عند هذا الحد وهل من الضروري أن نصر على استخدام كلمة الحقيقة كما لو كانت لازمة لتشجيعنا فى مجهودنا"(7) وهذا التقارب الحميم بين الذى يلحظه مشرفة وغيره من العلماء التجريبيين بين التصوف والعلم فى سعيهما الأبدي الحميم صوب التكشف والتجلي فى جميع مظاهر الوجود والمعرفة، هو ما يراه العلماء والفلاسفة المعاصرين فى مناهج العلوم المعاصرة ورصد جدل المعلوم والمجهول، وانهيار مفهوم العلم بما أنه الوعى بالشيء فى ذاته، إلى الوعى بصورتنا عن الشيء حال جدله مع غيره، وحال جدله مع المظنون به، ومن هنا صار الجهل حدا فى العلم مثله مثل العلم تماما، فالمعرفة تخفى بقدر ما تكشف، وتمنع بقدر ما تمنح، ومن ثمة يكون الاحتكام إلي القياس الخفي ضرورة لازبة لامفر منها، مما دفع فلاسفة العلم المعاصر أمثال فيرا أبند وإمرى لاكاتوس وكارل بوبر وتوماس كون إلى أن يدخلوا الجانب السيكولجى والسسيولوجى كأحد الأساسات الأصيلة فى تأسيس بنية العلم نفسه، وهو الأمر الذي يؤكد أن الإنسان يدرك كثيراً من الأمور الهامة للغاية إدراكاً فطرياً لا شعورياً، أو حتى إدراكا شعوريا ولكنه يفتقد القدرة التجريبية على إقامة البرهان المنطقى والعملى والتجريبى عليها، إن العلم مثله مثل الشعر يصل إلى حقائق فعلية، وإن لم يستطع التعبير عنها وفق أسس عقلية واضحة وهنا يلعب الحدس والتخمين، واستشرافات البصيرة، والخيال، دوراً رئيسيا، بل (أقول تأسيسياً) فى الإدراك، سواء أكان إدراكاً علمياً أم إدراكاً جمالياً، نرى هذا أيضا على لسان أحد شخصيات رواية "شيكاغو" للدكتور علاء الأسوانى، حيث نرى عالم الإحصاء الأمريكى (جون جراهام) يقول لطلبته " إن الإحصاء فن إبداعي يعتمد على الإلهام أكثر منه علما حسابيا، لقد وقعت الإحصاء فى ظلم تاريخى تسببت فيه عقول برجوازية متوسطة الذكاء اعتبرت الإحصاء مجرد طريقة لحساب المكسب والخسارة، تذكروا هذا جيدا، الإحصاء طريقة صادقة لرؤية العالم، إنها ببساطة علم المنطق عندما يطير بجناحين: الأرقام والخيال"(
وهذا يؤكد لنا المجال الثرى الفياض للعالم، فهو عالم لا نستطيع أن نتعامل معه من خلال آليات تعامل المجهول بالمعلوم، وهو أمر بالغ الصعوبة والارتباك، حيث لا يكشف المجهول إلا المجهول، أما المعلوم فقد استنفد طاقته فى التعرف أمام المجهول، وفى هذه المنطقة البرزخية الواقعة فى عمق جدل المتناقضات بين الحركة والصيرورة، والتعدد والتعقيد، والوضوح النسبى، والغموض المتعدد، نحتاج إلى حشد خلاق لكافة الإمكانيات العقلية والخيالية والروحية والظنية والحدسية والاستبصارات الإبداعية، لتحسس عوالمها ومراميها، إن ما أود أن أرصده هنا فى هذا البحث فى محاولة خلق مستوى علائقي جديد للخيال الأدبي يكون قادرا على الجمع بين العلاقات الخيالية البيانية، والعلاقات الخيالية العلمية والفلسفية والسياسية، والعلاقات الخيالية التى أبدعتها التقنية المعاصرة مفيدا من جميع ذلك فى توسيع حدود الوعى الإنساني، نفعل ذلك لإعادة تأسيس وعى جمالي جديد، يكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات الجمالية والمعرفية المعاصرة، واستيعاب المناحي المتعددة والكثيفة للشعر فى عالمنا المعاصر الذى صار من التداخل والتشابك والتعقيد، إلى درجة إلغاء فكرة الحد العلمي الصارم بين حدود العلوم التجريبية والإنسانية، بما يزيل الحد بين هو أدبي وماهو علمي، وماهو تقنى، ومن أجل ذلك كان علينا أن نعيد تأسيس مفهوم الشعرية والخيال بما يعيد تركيب ودمج الحقول الفنية بالحقول العلمية والتقنية المتعددة، من أجل خلق تصور جديد لمفهوم العلاقات الخيالية، بما يزيل الفجوة المعرفية والجمالية بين العلوم والآداب على اعتبار أن جميعها يمثل بنية تصورية تخييلية منزاحة باستمرار عن بنية العلاقات السابقة المعهودة سواء عن علاقات التقاليد الجمالية السابقة للأدب، أو العلاقات الفكرية المكونة للحقيقة فى العلوم، وبذلك يكون الواقع الذى يشتغل عليه كل من الشعراء والعلماء والفلاسفة أشبه بنهر متدفق ظاهره العلم وباطنه الشعر، أو مجراه الشعر وجريه العلم، كما يقول (وردزورث)" إن الشعر هو المنظور النفسى لحقائق العلم" فقد فتحت التكنولوجيا المعاصرة آفاقا وساعا من التفجر المعرفي والخصوبة التخييلية القادرة على تدريب الوعى البشرى على تجاوز حدوده السابقة فى وعى مفهوم العلاقة السائد فى نظرية الخيال الأدبي الخالص، فى التشبيه والاستعارة والكناية إلى آخر صور الخيال السائدة التى فرضتها حدود الوعى الجمالي للثقافة النقدية المعهودة فى الخطاب النقدى القديم والجديد معا، فقد فرض الواقع العلمي الجديد تصورات جديدة لمفاهيم: الزمن والمكان والفراغ، والمادة، والطاقة، وطبيعة التكوين البيولوجى للإنسان، وطبيعة الفضاء الكونى اللا نهائى، والكائنات غير المرئية، والكائنات المتناهية فى الصغر والمتناهية فى الكبر، وقد أدى جميع ذلك إلى تقلص مساحات المجهول الكونى السابق من جهة معرفة الشيء فى ذاته، واتساع مساحة المجهول العلائقى بين الأشياء والموجودات من جهة ثانية، وباتت الحاجة ملحة فيما نرى إلى تأسيس تصور جمالي علائقي جديد لنظرية الخيال تكون قادرة على استيعاب كافة مستويات العلاقات الجمالية والمعرفية الجديدة للوعي الشعرى والعلمى معا، الشعر فى ذاتيته الموضوعية، والعلم فى موضوعيته الذاتية بعد أن رأى الفيلسوف المعاصر(فيرا أبند) وجوب نفي الموضوعية العلمية، ونفي مبدأ المقايسة والعلية فى العلم المعاصر، ووجوب إدخال تاريخ العلم ووجدانات العلماء، ضمن نظريات العلوم المعاصرة، وقد توصل (هيلين لونجينو) فى كتابه(مصير المعرفة) إلى بعض ما توصل إليه (فيرا أبند) فى كتابه (ضد المنهج) من سقوط مفاهيمنا السابقة عن الموضوعية والعقلانية والصرامة المنطقية، وسقوط معايير القضايا التركيبية والتحليلية بما ينفى عن العلم نفسه بأنه بنيان موضوعى صارم، أونسق عقلانى محدد، بما يفتح المجال واسعا لإعادة مناقشة مفاهيم الذاتية والموضوعية وصورة الوعى وحدود الحقيقة من جديد فى الفن والعلم معا، (9) مما يساعد على تخليق شعرية جديدة قائمة على رصد علاقات جمالية معقدة ومتشابكة، تتأسس على مبدأ تداخل العوالم وتعددها، فإن ما يميل للظهور فى أدب القرن الواحد والعشرين كما يقول (إيتالو كالفينو) فى كتابه" ست وصايا للألفية القادمة": "هو هذه التعددية الموسوعية التى تطرح فكرة العلاقات اللامتناهية بين كل شئ وكل شئ" وعندما تمدنا نظرية المعرفة المعاصرة بهذا التصور المعقد لوعى مفهوم العلاقات المعقدة للعالم تستطيع جماليات الشعر أن تمارس تعقيدا تصويريا موازيا للعالم المحيط بها، لأن هناك دائما كما يقول(جان مارى جويو): (هذا السر الميتافيزيقى000 فالعالم نفسه حين يصل إلى هذا الحد من السعة لا يسعه إلا أن يتوقف وأن يستسلم لهدهدات ريح المجهول وروعة الجهل، على حد تعبير (كلود برنار) قد يبدد العلم الأسرار ولن يأسف الشعر على تبديد هذه الأسرار، ولكن العلم لن يبدد السر الميتافيزيقى، هذا السر الذى لا يشمل قوانين "غير معروفة" فحسب بل يشمل أيضا جوهر الأشياء التى قد "لا يمكن أن تعرف"000 إن الشعر نفسه ضرب من العلم العفوى000 فالأفكار العظيمة نوافذ تطل على الحاضر أو على المستقبل وما كان لها أن تحدث فينا تأثيرا أو أنها مجد أحلام خيالية غريبة عن الواقع كل الغرابة"(9)
لكننا نود أن نتساءل : لماذا لم يتأصل فى تجربتنا الشعرية المعاصرة الوعى الشعرى الخلاق بالعلوم التجريبية المعاصرة فى تصوراتها المعرفية كافة، أو قل لماذا غاب الوعى العلمى التجريبى والتكنولوجى فى التجربة الشعرية العربية المعاصرة؟!، وهو أمر يجرنا بعمق إلى مصداقية تقديرنا لقيمة العلم فى واقعنا الثقافى المعاصر، فهل نحن نهتم بالعلم حقا ؟؟ هل نحن العرب نسعى لبناء مجتمع علمى مدنى مؤسسى؟؟ وقد يبدو السؤال ساذجا للوهلة الأولى، ولكنه مرير وجاد ومفجع عند التحديق الصادق فيه!!! إن الوعى العربى المعاصر لم يأخذ بعد منهجية النظر الفلسفى الأصيل، وتأسيسية العلوم التجريبية مأخذ الجد والأهمية الحقيقية لا الوهمية!!، حتى وإن بدا الأمر عندنا فى أدبياتنا الثقافية اليومية على غير ذلك، فليس لدينا قناعات فكرية ووجدانية وعلمية حقيقية فى بناء الوعى العربى والمجتمع العربى المعاصر!! ليس لدينا قناعات كافية بضرورة تأسيس الوعى العلمى والتكنولوجى والفلسفى فى بنية الثقافة العربية المعاصرة، ولعل من أكبر الدلة على ذلك أننا لا نجد فى أى من المشاريع الفلسفية العربية الكبرى التى كتبها المفكرون العرب المعاصرون هذا التأصيل الجمالى العميق بالوعى الشعرى أو الأدبى أو الفلسفى بالعلوم، فقد غفلت الثقافة العربية المعاصرة، عن حقيقة أن التكنيك المادى والتكنولوجى بكافة صوره المادية والتجريبية والعقلانية، صار حقيقة موضوعية خاصة بالإنسان وحده، وأصبح بالنسبة لفكر القرن العشرين أحد المرتكزات الفلسفية والعلمية الهامة فى صوغ تصوراتنا الإنسانية والواقعية والخيالية والعلمية معا، فلا نستطيع ـ كما هو شائع فى ثقافتنا العربية المعاصرة ـ أن نتصور الآلة وتوابعها العلائقية مجرد أدوات يستخدمها الإنسان ثم يلقى بها بعيدا بعد أن يفرغ من تحقيق مآربه منها، فالآلة أكبر من هذا وأعقد، إنها تدخل أيضا بصورة أساسية فى تشكيل قيم الإنسان وتصوراته ومعتقداته ومرامى خياله أيضا، وقد كان الأيونيون قبل سقراط وأفلاطون يفسرون الظواهر الطبيعية بناء على خبرتهم التى يستمدونها من ممارساتهم العملية، وعلى طرقهم فى معالجة المصنوعات، ومن ثم تغيرت الفكرة البدائية الأسطورية عن الطبيعة بفعل قوى الإنتاج وأساليبه الفنية التى غيرت المجتمع البدائى نفسه، أى أن ممارساتهم لتكنيك الإنتاج التى غيرت شكل المجتمع البدائى القديم غيَّرت فى الوقت نفسه من مفهومهم للواقع والطبيعة والذات والثقافة، وهذا يؤكد أن ثمة علاقة مطردة ومعقدة بين فلسفة التكنيك السائدة وطرائق الوعى البشرى، فالآلة من صنع الإنسان وكل ما هو صنيعته أدخل فى مكوناته الفكرية والنفسية، فى وعيه ولا وعيه على السواء، شاء أم أبى، فهل تصورنا مثلا عن العالم اليوم هو نفس تصور أجدادنا منذ مائة عام مثلا؟؟ بالطبع قد تغير كل شيء!! وبناء عليه هل من الممكن وجود علائق جديدة: بين طبيعة الثقافة التقنية الممثلة فى عصر الذرة، والأقمار الصناعية، والعوالم المادية المتداخلة، والقرى الكونية المتشابكة، والشبكات المعلوماتية الضخمة، وطبيعة الخيال الإنساني. بالطبع يوجد ذلك حتى وإن لم نتبينه بالقدر العلمى الموضوعى الكافى بعد، فعن طريق الربط بين ثمرات التقنية، وتجديد تصوراتنا عن مفاهيم الحرية، وتوسيع حدود القدرات الإنسانية، وتعدد مرامى طاقاتنا الخيالية، ستنمو علاقات جديدة فى الوعى بالعالم، وطبيعة نظرتنا للحقيقة، وحدود تصوراتنا للمجهول، وكل ذلك يحتاج إلى منهج جديد فى الـتأمل الإنساني، والفكر والوعي ومعرفة حدود الحقيقة، فنحن نحتاج الآن أكثر من أى وقت مضى، إلى مناهج جديدة فى التفكير والوعى، مناهج تجمع بين ثمرات المنهج العلمي، والتكنولوجي، وطبيعة المنهج الفلسفي، وتداخل العلوم فيما يعرف بالعلوم البينية التداخلية، منهج يكون قادرا على الجمع بين النظام واللا نظام، يرى فى العمى مثلما يرى فى البصيرة، منهج يوسع من مداركنا، ويعمق من قدراتنا على التمييز والوعي، وتغيير طرائق وعينا بأنفسنا والعالم من حولنا، ففي عصر النهضة كان يرى " ليوناردو دافنشى" أن عظمة الإنسان الحقيقية تتأتى من الجمع والسيطرة على الفن والميكانيكا معا لأن جذور الإثنين واحدة، وهذا التصور الذى رآه دافنشى بحدسه الثاقب يراه بعض الشعراء العرب المعاصرين المغتربين فى ألمانيا وهو الشاعر عادل قرشولى الذى يقول فى قصيدته: (خضرة النعناع) والتى أهداها إلى جورج ماور، فبعد أن يصور الشاعر الفروق بين عالم الخيال الشرقى وعالم التجريب الغربى نراه يجمع بينهما فى قوله مخاطبا جورج ماورر:
لكنه هو إلىَّ رمى على الجليد صيف النبوءة
هو الذى أرانى الطريق إلى أعماق النبع
وكنوز الغابات الأخرى فى صميم الثلج
هو الذى منحنى الكلمة ودلنى على ما هو خاص بنا
قال لى: أن نلجم الغيمة كى نتمكن من الاحتفال بعرس الطبيعة
أن نجمع الماء فى السد، ألا نخشى حد الموت الفاصل، بل أقنعة الأحياء المتحجرة.
أن نبنى مخازن فى فضاء الكون وحدائق للأطفال.
فليس وحده من يجدل الحبال فى روما أو يجبل الفخار على النيل
لبي برج بابل وحده، ولا الأهرام بل وكذلك ذرات الكهرباء
تكشف لنا الصورة التى لم تكتشف بعد.(10)
ومن هنا يجب أن نضع المعرى بجانب أحمد زويل، وابن عربى بجوار فيلسوف العلم باشلار، وعمر ابن الفارض بجانب مصطفى مشرفة، وجلال الدين الرومى بجوار نيوتن وإنشتاين، لقد حدث ما يشبه الطفرة فى حدود الوعى الإنسانى، ولعل السر يكمن فى أن الخيال الإنساني قد قرب الشقة البعيدة بين العلوم والفنون، صار الخيال يترامى بين القدرة على التقرير فى العلم، والقدرة على الحدس فى الفن، بعد أن فقد العلم اليوم معظم معاقله التفسيرية والعقلانية والمنطقية على أيدى فلاسفة العلم المعاصرين وقد ترتب على هذا بالضرورة تغير تصوراتنا عن العلاقات الخطابية المكونة للحقيقة، والعلاقات المكونة للخيال الإنساني بالتبعية.
فى الوعى بالمصطلح النقدى من الخيال العلمى إلى شعرية العلم:
كان لابد لنا قبل أن نؤسس لهذا الوعى العلمى التجريبى فى الفنون العربية المعاصرة أن نقوم بعمل دراسة ببليوجرافية ترصد التوتر الفنى والمعرفى بين الشعر والعلم والفلسفة، ولكن لفت انتباهى عدم وجود تأصيل نقدى عربى معاصر لمصطلح الخيال العلمى أو مصطلح شعرية العلوم فى الدوريات والكتب العربية من جهة وعدم تأصيل المصطلحين كما تجلى فى خطابنا النقدى الحديث من جهة ثانية، وعدم التفرقة الاصطلاحية الدقيقة بين مصطلح الخيال العلمى، وما نقترحه هنا من مصطلح (مجازات العلم) كما طرحتها أدبيات ما بعد الحداثة، ومن هنا كانت ضرورة البحث فى عمل ببليوجرافيا علمية عربية موضوعية دقيقة، بغية رصد تاريخ الأفكار النقدية حول علاقة الأدب بالعلم أو الخيال العلمى فى خطابنا النقدى العربى المعاصر سواء كانت هذه الأفكار النقدية من بنات أفكار نقادنا، أو كانت مترجمة أو مقتبسة، أومستوحاة من الآداب العالمية.
وقد كانت مهمتنا النقدية شاقة عسيرة، خاصة فى تعاملنا مع الدوريات والمجلات العربية، وجميعنا يعرف أسباب ذلك، فلا تتوفر بعض المجلات العربية بصورة كاملة فى مصر على الرغم من الجهود الببليوجرافية الجادة التى تقوم بها المؤسسات الوثائقية بالدولة، كما أن بعض المجلات تتوافر فى بعض الدول العربية دون بعض ولسبب من الأسباب، وإذا وجد بعضها لا يوجد البعض الآخر، ونحن نعرف أن تاريخ الأفكار النقدية موجود بصورة حية فى الدوريات لا فى الدراسات الأكاديمية وحدها، فالدوريات هى التاريخ الحى لنشوء ونمو المصطلحات، والمصطلحات مثلها مثل الكائنات الحية، تنبع من الطين والتراب والهواء اليومى للحياة أكثر مما تنبع من الرخام المعرفى الصلد فى المؤسسات الأكاديمية الموقرة، المصطلحات تنبع من الهوامش المعرفية العامة أكثر مما تنبع من المراكز العلمية المتعالية، وعلى الرغم من حيوية هذا الموضوع وضرورته العلمية والقومية والوطنية معا فلست أدرى لماذا لم ينتبه إلى هذا معظم الببليوجرافيين العرب المعاصرين، ولهم جهود مشكورة فى تخصصات أخرى كثيرة، ولكن قد طلبنا العون من الله تعالى وقد أعان بحوله وطوله ومنته على الصبر والتتبع، ومواصلة المسيرة على الرغم مما شابها من بعض الزلل، فبتتبعنا الجهيد للمجلات العربية المتعددة والمختلفة، منذ مائة عام تقريبا منذ ظهور مجلة المقتطف وقد كانت متخصصة فى المجال العلمى وملهمة لكثير من الشعراء فى هذا المجال، ومرورا بجميع المجلات العربية الأخرى، توصلنا إلى بعض النتائج العلمية التى لا بأس بها بخصوص هذا الموضوع. حقا إننا لم نصل إلى ببليوجرافيا كاملة أو شبه كاملة "وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه"، وبالطبع فإن الدراسات الببليوجرافية بصورة عامة تعلمنا خلق التواضع والصبر، فعندما نعرف شيئا منها يجب أن نكون على يقين بأننا قد غاب عنا أشياء أخرى، فالحس الببليوجرافى مثله مثل الحياة يخفى أكثر مما يظهر، ويعلمنا فضيلة أن الحدود العلمية الحقة تكمن فى وقوفى على معرفتى بحدود الجهل وليس معرفتى بحدود العلم. من هنا كان تتبعى الشاق لهذه القضية النقدية الشائكة والشائقة، فى الدوريات والمجلات العربية القديمة والمعاصرة سواء كانت محلية أو مترجمة، فالدوريات العربية القديمة والحديثة معا كانت لى المعين الفياض الزاخر بالحراك النقدى والشعرى والفنى سواء التنظيرى والتطبيقى، فهى تمثل فيما أرى التجلى النقدى اليومى الحى لنشوء المصطلحات ونموها ونضجها فى الخطاب النقدى والشعرى معا، ويجب علينا أن نعيد النظر النقدى كثيرا فى جهودنا النقدية العربية المعاصرة فى ضوء النقد الأدبى اليومى المنبث فى الدوريات العربية، فهى تمثل فيما نرى الجسد الحى للنقد، فهى تمثل الوعى النقدى المباشر، وتبلور الحراك النقدى المختزن فى المعارك النقدية اليومية بين النقاد والأدباء والتى أدت إلى نمو المصطلح النقدى نموا صحيا، عبر سياقات معرفية واجتماعية وحضارية متعددة، وربما يجرنا هذا إلى مناقشة أزمة المصطلح فى الخطاب النقدى المعاصر، وهى أزمة تقع فى العمق من بنية العقل العربى المعاصر، فالمصطلح ليس مجرد نحت كلمة، أو تحديد لفظ، أو ترجمة مدلول، فللكلمات أيضا سياقاتها الفكرية والحضارية والجمالية ورؤيتها المعقدة للعالم، ومن هنا كان المصطلح تركيبة معرفية وجمالية وثقافية متشابكة ومتفاعلة، تتناوبها سياقات شتى لا تكف عن الحراك والجدل والتغير والتحول، هذه التركيبة المعرفية المعقدة، دائما تتراوح جدليا داخل نسق الثقافة الواحدة، أو فى علاقتها الجدلية مع ثقافة الآخر فى صور عديدة من الجدل تتناوب بين النسبى والمطلق، والكلى والجزئى، والثابت والمتحول، وذلك ضمن سياقات متعددة متجادلة جمالية وفلسفية وحضارية وثقافية. وفى غيبة هذا الوعى النقدى التعددى بطبيعة السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية التى نما فيها وترعرع العقل النقدى العربى ستظل مصطلحاتنا تعانى من الارتباك والخلط والغموض.
و نحن بدورنا نتصور ـ وبأمانة واجبة ـ بأن أحد وجوه أزمتنا الاصطلاحية فى الخطاب النقدى العربى المعاصر، كامنة فيما أرى فى عدم قدرة الخطاب النقدى العربى على التعامل مع هذه الشبكة المعرفية المعقدة من السياقات والأبعاد والتداخلات المنطوية فى المصطلح ذاته، وهو جهد يحتاج إلى مواهب وقدرات معرفية عدة لدى النقاد الجادين - وقليل ما هم - ولعل ذلك كان وراء هذا القلق الاصطلاحى بل التخبط والبلبلة فى عدم تحديد المصطلح أو تثبيته، أو قراءة الخلفية الثقافية والفلسفية والجمالية والحضارية الكامنة وراءه والتى تغذى جذوره، وتنمى تصوراته، وتغذيه رويدا رويدا بكثير من الأعراف والمعايير والنظم فى بنية الثقافة نفسها.وهذا ما يجعلنا نؤكد مع الدكتور عبد السلام المسدى فى قاموسه عن اللسانيات أن
مصطلحات العلوم هى ثمارها القصوى، فهى مجمع حقائقها المعرفية، وعنوان ما يميز كل واحد منها عما سواها، وليس من مسلك يتوسل به الإنسان إلى منطق العلم غير ألفاظه الاصطلاحية، حتى لكأنها تقوم من كل علم مقام جهاز من الدوال ليست مدلولاته إلا محاور فيتداعى، ومضامين قدره من يقين المعارف وحقيق الأقوال، فإذا استبان خطر المصطلح فى كل فن توضح أن السجل الاصطلاحى هو الكشف المفهومى، الذى يقيم للعلم سوره الجامع وحصنه المانع، فهو له كالسياج العقلى الذى يرسى حرماته، رادعا إياه أن يلابس غيره، وحاضا غيره أن يلتبس به، ومتى تحلى الدال بخصلتى الجمع والمنع، كان على صعيد المعقولات، بمثابة الحد عند أهل النظر المقولى، الذين هم المناطقة، فيكون للمصطلح الفنى فى أى شعبة من شعاب شجرة المعرفة الإنسانية سلطة ذهنية، هى سلطة المقولات المجذرة فى علم المنطق، فلا شذوذ إذا اعتبرنا الجهاز المصطلحى لكل علم صورة مطابقة لبنية قياساته، متى فسد فسدت صورته، واختلت بنيته، فيتداعى مضمونه بارتكاس مقولاته)(11) وإذا كان التشوش والارتباك قد اقترنا بالحقل المصطلحى عامة على مستوى العالم كله وهذا له أسبابه المعرفية والثقافية والحضارية هناك، فما بالك بواقعنا العربي المعاصر وما يكتنف خطابه الثقافي الحضاري عامة من صور التناقض والارتباك المعرفى، المتمثلة فى غلبة الجزء على الكل، والتنظير على الإبداع، والتبعية على الاستقلال، وغلبة الحس التكتيكى فى الفكر على الحس الاستراتيجي، إلى آخر صور التفتت الثقافى، والاضطراب المنهجى ـ أقصد اضطراب المنهج ـ التى تصور أزمة الخطاب الثقافي العربي بصورة عامة. فهناك كثير من القضايا النقدية والفنية المهمة التى اتفق النقاد العرب المعاصرين بأنها كانت لهذا الأديب أو لهذا الناقد، ثم تبين لى بعد تتبعى للمجلات النقدية ـ وهى تمثل النبض النقدى اليومى الحى لنشوء ونمو المصطلح ـ بأن هذا الناقد أو هذا الأديب لم يكن بالفعل أبا عذر المصطلح أو القضية الفنية، ولم يكن هو الهادى السابق إلى ما يقوله كما يقول المتنبى، وقل مثل ذلك فى كثير من قضايا النقد والشعر، ربما لا تسمح هنا حدود بحثنا للخوض فى هذا الموضوع وإن كنت أرجو أن أعرض لمثل ذلك فى دراسة مستقلة.
وبهذه المثابة تعد الدوريات والمجلات العربية القديمة والحديثة بمثابة الدم النقدى اليومى الذى يضخه الحس الجمالى اليومى للحياة المعقدة والطازجة لتخلق طفولة المصطلحات وبدايات ضحى بزوغها، واستمرار هذا النمو على هين وهوادة مثل تنفس النباتات فى الغابات البكر الملبدة حتى يكبر المصطلح وينضج ويستوى على سوقه ويأتى يوم حصاده، ويؤتى أكله المعرفية والجمالية دنية للناقدين، وما زلت أتذكر هنا سبق الأديب محمد الههياوى فى بدايات القرن المنصرم، فى عرضه قضية الطبع والصنعة بدقة علمية واضحة قبل الدكتور شوقى ضيف مثلا فى دراسته التى أعدها للدكتوراه مع الدكتور طه حسين، حول" الفن ومذاهبه فى الشعر العربى على مر العصور" وقد عرض الدكتور شوقى ضيف للقضية فى كتابه عرضا طيبا، دون إشارة من قريب أو بعيد للأستاذ الههياوى أو غيره من كتاب مجلتى الرسالة والثقافة ممن أفاضوا بجدارة علمية فى هذه القضية الفنية، والمطلع على المجلتين يدرك بحق مدى ثراء الحراك النقدى الخلاق الذى كتبه الأستاذ الههياوى وغيره بخصوص القضية النقدية سواء فى الموروث النقدى والبلاغى القديم أو الخطاب النقدى الحديث والمعاصر، والدليل على صحة ما نقوله هنا أن معظم النقاد العرب المعاصرين الذين تناولوا مصطلح الخيال العلمى فى كتاباتهم فى السبعينات والتسعينات لم يشيروا من قريب أو بعيد للدراسات الهائلة القيمة التى كتبت فى الدوريات العربية المتعددة السابقة عليهم لا من قريب أو بعيد ولقد تم هذا السلوك العلمى منذ القديم وحتى الحديث، على طوال الوطن العربى وعرضه، كما أنهم لم يكتبوا مثلا دراسة علمية مستقلة ترصد العلاقات الجمالية والمعرفية المتعددة والشائكة الكامنة فى مصطلح "الخيال العلمى"، وهذا يؤكد أن قطيعتنا وشقاقنا الثقافى العربى ليس أقل بحال من الأحوال من شقاقنا السياسى والاجتماعى، فنحن مولعين بنمط من الوجود يؤثر الانعزال على التواصل، والانطواء على الذات والرضا بما عندها على الريب والفحص ومساءلة المنطق المعرفى والجمالى فى السبر والتمثل والتحقيق، نحن نتخيل المعرفة والحياة ولا نجترحهما واقعا حيا من لحم ودم، نتحدث عنهما كثيرا ونحن بمعزل عن حراكهما الحى المتوتر، نحن نحب أن مشى فى خطوط مستقيمة قفراء لا وشى فيها ولاظلال، ونريد أن نرى تصورات كلية من خلال نوافذ ضيقة فنسىء إلى العلم والحياة معا، إلى النظرية والتطبيق، وإذا رجعنا إلى الوراء قليلا لنتأمل فى الدوريات العربية وجدنا مثلا الدكتور محمد أحمد الغمراوى وكان أستاذا للكيمياء فى الجامعة المصرية يكتب مقالين كبيرين بخصوص علاقة الشعر بالعلم، فى المعركة النقدية الخصيبة التى دارت بينه وبين سيد قطب والعقاد والرافعى، فى الأربعينيات من القرن الماضى، وقد نشرت مجلة المقتطف هذه المعركة تحت عنوان " بين القديم والجديد"، وكانت جل الدراسة منصبة على رصد هذه العلاقات الجمالية والمعرفية المتداخلة بين حدى الشعر والعلم فى بنية الشعر العربى المعاصر لدى العقاد والرافعى، والشىء المثير للغاربة والعجب أن التصورات النقدية لمحمد أحمد الغمراوى التى كتبها فى الأربعينيات من القرن المنصرم، تعد متطورة للغاية بالقياس إلى بعض ما يكتبه نقادنا الآن فى القرن الواحد والعشرين عن علاقة الفن بالعلم، ناهيك عن دراسات أخرى كثيرة فى الخطاب النقدى الحديث لدى الرواد كانت قيمة عميقة جادة نجدها متناثرة فى هذه الدوريات على تعداد أشكالها، نجد هذا على سبيل المثال لا الحصر لدى دراسات يعقوب صروف ونقولا حداد فى مجلة المقتطف المصرية، ودراسة الأمير مصطفى الشهابى عن "العلم والفلسفة والأخيلة الشعرية" فى مجلة المقتطف المصرية، وهناك أيضا دراسات كثيرة معاصرة تأتى على رأسها دراستا الأستاذ إبراهيم الفاضل عن "الشعر وجماليات المعرفة" ودراسته عن"البرهان الأنيق: الرياضيات والشعر" ودراستا الدكتور صلاح عيد فى مجلة الشعر القاهرية وتأتى الدراسة الأولى بعنوان" المعادلة : جوهر العلم جوهر الشعر" والثانية بعنوان "الشعر بين الكونين الأصغر والأكبر" وغير ذلك من الدراسات الكثيرة التى لم تدخل فى مكانها الطبيعى فى رصد تاريخ نشوء الأفكار النقدية فى خطابنا النقدى العربى المعاصر، ولقد كانت مهمتنا النقدية شاقة عسيرة، فى تعاملنا مع الدوريات والمجلات العربية وجميعنا يعرف أسباب ذلك، فلا تتوفر بعض المجلات بصورة كاملة، كما انها لا تتوفر فى بعض الدول العربية لأسباب من الأسباب، وإذا وجد بعضها لا يوجد البعض الآخر، وعلى الرغم من حيوية هذا الموضوع وضرورته العلمية والقومية والوطنية معا فلست أدرى لماذا لم تنتبه إلى هذا معظم مكتباتنا فى الوطن العربى، ولكن قد أعان الله تعالى بحوله وطوله ومنته على الصبر والتتبع ومواصلة المسيرة مهما شابها بعض الزلل، أو غامتها غاشيات التقصير.
فى البداية نجد الدكتور شوقى ضيف يكتب دراسته عن"الفن ومذاهبه فى الشعر العربى" عام1947، وقد أشار فيها إلى علاقة العلم والفكر بالشعر العربى فى عصور ازهادره وانحداره، وقد عرض للقضية فى الخطاب النقدى العربى القديم، وقد كتب من بعده الدكتور عبد الحكيم بلبع دراسته عن" الفن عند المعتزلة" ونشرها عام 1995، وقد عرض فيها للشعر العقلى والعلمى الذى كتبه المعتزلة فى هذا الصدد، كما عرض الدكتور عثمان موافى فى كتابه"التيارات الأجنبية فى الشعر العربى القديم" إلى مثل هذه التيارات الشعرية العقلية التى تتخذ من ثمرات العقل والفكر والفلسفة رؤى شعرية متعددة، ويجب هنا أن نأخذ فى الاعتبار النقدى تواريخ نشر الدراسات السابقة فليس تاريخ النشر يمثل فى الغالب تاريخ التأليف، وظروف النشر معروفة فى واقعنا العربى المعاصر، وربما كان أول كتاب علمى صدر فى مصر لرصد علاقة العلم بالأدب هو "حيرة الأدب فى عصر العلم" للأستاذ عثمان نوية الصادر عن دار الكتاب العربى للطباعة والنشر، عام1969، ونحن نحترز هنا بلفظة ربما ـ حتى لا نسقط فى صيغة التعميم ـ وقد قال عثمان نوية فى كتابه عن شعر أحمد زكى أبى شادى الذى قاله فى العلم: "إنه لا يعتبر الفن مزاجا ميكانيكيا من الصدق والجمال كأنما مشكلته أن تتلى نظريات العلم فى نغم رخيم، ولكن كل فن له ثروته الكيفية الخاصة به وهى عبارة عن اندماج عوامل فكرية وجمالية تؤدى إلى نوع خاص من الاستهواء"، ثم تأتى ترجمة ميشيل خورى لدراسة جان غاتنيو وكانت بعنوان" أدب الخيال العلمى" وقد رصد المؤلف فيها تطور أدب الخيال العلمى حتى عام 1960، وتأتى ترجمة الدكتور جابر عصفور لمقالSCIENCE AND POETRY) (العلم والشعر) لماكس بايم، وقد نشرها فى مجلة الأقلام العراقية بوزارة الإعلام، ع3، السنة11، كانون أول، ديسمبر 1975، ثم تأتى ترجمة مسرحية"الإنسان الآلى" تأليف كاريل تشابيك، ترجمة الدكتور طه محمود طه، فى سلسلة مسرحيات عالمية، العدد 24، يناير 1966، عن الدار القومية للطباعة والنشر، كما ترجم الأستاذ فؤاد دوارة كتاب" الفنان فى عصر العلم ومقالات أخرى" عام 1977، فى بغداد، إصدار وزارة الإعلام، وترجم عادل العامل" الأدب والثورة العلمية والتكنولوجية" لبوريس آنا شينكوف، فى مجلة الأديب المعاصر العراقية، فى عددها 27، كانون الثانى، عام، 1978، ودراسة نورى جعفر عن "أدب الخيال العلمى وعالم الأطفال" بغداد، عام 1978، ودراسة يعقوب حسين نشوان عن "الخيال العلمى لدى أطفال دول الخليج العربية: دراسة ميدانية" منشورات السعودية،الرياض،مكتب التربية العربى لدول الخليج. ودراسة الطيب جويلى عن "عالم الخيال ومستقبل الإنسان" مؤسسة عبد الكريم بن عبد الله، تونس، 1976، ودراسة الباحث السورى الدكتور طالب عمران، عن" اتجاهات فى الأدب العلمى" مجلة الآداب الأجنبية، سوريا، السنة الخامسة، ع1، تموز، 1978، ودراسة نبيل راغب عن"الرواية العلمية" فى مجلة القصة،الصادرة عن نادى القصة بالقاهرة عام 1980، ودراسة على شلش عن (أدب الخيال العلمى" الصادرة فى مجلة المجلة المصرية العدد 166 عام 1983، ودراسة سامى أدهم عن "الإبداع الخيالى" المنشورة فى مجلة الفكر العربى المعاصر،تموز العدد 66، 67، عام 1981، ثم تأتى دراسة الدكتور عز الدين عيسى عن" جول فيرن والأدب العلمى" وقد نشرها فى مجلة عالم الفكر الكويتية عام1979، وكان الدكتور عبد المحسن صالح ينشر دراساته المتعددة عن الخيال العلمى بالموازاة مع دراسات عز الدين عيسى، خاصة دراسته الكبيرة عن "التنبؤ العلمى ومستقبل الإنسان" الصادرة عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، 1981، ثم تأتى دراسات يوسف الشارونى فى الستينات من القرن الماضى عن "اللامعقول فى الأدب المعاصر" الصادر عن المكتبة الثقافية بالقاهرة عام،1969، وامتدت تصورات الشارونى مع نهايات الثمانينيات من القرن الماضى فى مجلة الفكر المعاصر الكويتية، فى دراسته عن "الخيال العلمى فى الأدب العربى"، ثم كتابه عن "الخيال العلمى فى الأدب العربى المعاصر" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام 2000، وتأتى دراسة محمود قاسم التى كتبها فى التسعينيات من القرن الماضى عن "أدب الخيال العلمى: أدب القرن العشرين" وعلى الرغم من توسع مجالات الدرس والفحص فى كتاب محمود قاسم حتى شمل السينما غير أنه قد عرض لمصطلح الخيال العلمى كما عرض من قبل يوسف الشارونى لم يزد عليه شيئا ذا بال يتجاوز به الشارونى، فإذا عرجنا إلى بعض البلاد العربية وجدنا الباحث السورى الدكتور محمد عزام يكتب أيضا كتابا عن "الخيال العلمى فى الأدب العربى" وهو لا يختلف كثيرا فى عرضه للمصطلح عن باقى الكتب السابقة، حتى فى العنوان نفسه، وربما يختلف الكتاب الثانى الذى كتبه محمد عزام عن أدب الخيال العلمى عند الدكتور الأديب السورى طالب عمران، وذلك فى كتابه " خيال بلا حدود: طالب عمران رائد أدب الخيال العلمى"،وتأتى كتب طالب عمران عن" فى الخيال العلمى" دار ابن رشد، بيروت، 1980، وكتاب" فى العلم والخيال العلمى" الصادر عن وزارة الثقافة فى دمشق عام 1989، أضف إلى ذلك بعض الكتب الأجنبية المترجمة والتى ترجم معظمها عن الإنجليزية مثل كتاب الكاتب المصرى الأستاذ حسين حسن شكرى الذى نشره بسلسلة الألف كتاب المصرية، وكانت بعنوان"أدب الخيال العلمى) وهناك بعض الدراسات المهمة التى ظهرت فى الدوريات والمجلات العربية وقد تناولت الموضوع من جوانبه المنهجية والأدبية والعلمية مثل دراسة الدكتور نعيم عطية عن " أدب الخيال العلمى" فى مجلة الفيصل السعودية، ودراسة الأستاذ محمود قاسم عن " نحو أدب خيال علمى عربى: نهاد شريف والرواية العلمية"، وقد نشرها بمجلة الأقلام العراقية فى تاريخ متقدم نسبيا فقد كتبها عام: 1984، ودراسة أحمد عبد السلام البقالى عن " رواية الخيال العلمى" والصادرة فى مجلة آفاق المغربية والتى يصدرها اتحاد كتاب المغرب، العددين 3، 4، عام 1984، ودراسة الأستاذ عبد المجيد شكرى فى مجلة الثقافة المصرية عام 1980 عن"الخيال العلمى فى الأدب والفن"، ودراسة الباحث اللبنانى الدكتور قسطندى شوملى فى مجلة الباحث اللبنانية عن" قصص الخيال العلمى" وقد كتبها عام 1980 أيضا، وقد أتبعها بدراسة أخرى له فى ذات المجلة بعنوان" الخوارق فى الأدب" فى فبراير، عام 1981، ودراسة محسن خضير فى جريدة الرياض، فى 1/7/1981، عن نهاد شريف،أنا أول من كتب أدب الخيال العلمى فى مصر، وكتب